بقلم قيس جوامير علي / ماجستير اخراج مسرحي
أنطوان تشيخوف 17 يناير 1860 ـ 1904 وسيرته الذاتية :
ولد تشيخوف في الاتحاد السوفيتي بمدينة (تاجانروج) . ويعد في المصاف الاول من مؤلفي القصة القصيرة والمسرحية في العالم . نشأ تشيخوف من عائلة فقيرة متدينة , كان جده ووالده من أقنان الارض , وبعد تحرر والده اعتاش وعائلته على حانوت بقالة صغير . عام 1968 تشيخوف في عمر الثامنة أدخله والده مع اخيه الى مدرسة يونانية في مدينة (تاجانروج) دافعا خمس وعشرون روبلا رغم بخله , من صغرتشيخوف وهو ولوع باللغة حيث ركز على قواعد اللغة اللاتينية . جالس في غرفته يدرس على نور شمعة يسترق النظر بين الفينة والفينة الى غرفة والده (بول أيغوروفتش) ـ بخوف شديد من بطشه ـ وهويمارس واجباته الدينية , تلك الغرفة التي وضع فيها الكتاب المقدس في مكان بارز وجدران الغرفة تشع بالايقونات والسرج الملونة , هذه الاجواء المشحونة القريبة الى طقوس السحر تزيد من جنون والده في ممارسة الطغيان ضد الاسرة ـ المكونة من والدته الرقيقة الشفافة واربعة اشقاء له ووشقيقة واحدة ـ مقتنعا ً أن ما يفعله يرضي الرب , الجميع ينصاع لجبروته بضمنهم الوالدة (أوجيني باكو فلفنا ) الرقيقة المسايرة لزوجها , الكل يرتجف لمجرد ان يرفع رب الاسرة صوته , فهو لا يتوانى من ان يخرج سوطه ويضرب لي شخص من العائلة, وبضمنهم (تشيخوف الذي كان في الخامسة من عمره , وكان كل صباح يفكر " هل سأضْرَبْ اليوم ؟ حيث ان مجرد خروجه من غرفة العبادة ليشعر كل واحد من ابناء اسرته انه مذنب , وكان يتفجر غضبا لدى ارتكاب اي واحد منهم اي حماقة فينهال عليه باللعنات ويتوعد ويضرب بسيل من الصفعات , وقال تشيخوف ""لقد بدأ ابي بتربيتي أو ببساطة أكثر بضربي وانا لم ابلغ الخامسة من عمري "" كان الوالد لايفصل الاخلاق عن الهراوة وكان في رايه الخاص ان الجأر والضرب بشدة هو الذي يرسخ الحقائق المقدسة , وعلى لسان تشيخوف , كان والدنا يُضرب من قبل جدنا , وجدنا كان يُضرب من قبل السادة الاقطاعيين وكان ابسط الموظفين يستطيع ان يحطم له سحنته , فأنا عشت بلا طفولة؟؟؟ وكنت اعيش وسواس التعنيف وانا اصلي ,وانا منحني على كتاب قواعد اللغة اللاتينية . وقد وضح ذلك جليا في قصصه , ففي رواية "ثلاث سنوات" ,رسمها بشكل واضح ,حيث هاجم "تشيخوف التقاليد العشائرية القبلية التي تسمح لرب الاسرة التصرف العدواني ازاء اسرته بحجة التربية والاستقامة الدينية , واصفا ومسقطا ًمعاناته ومعاناة أسرته بوضوح في تلك الرواية ويصف (ابناء الجيل الحاضر من أسرة "لابتيف" لم يتصرفوا بسبب ازدياد انتشار الاحساس بالحرية في العالم بشكل عام كاسلافهم , فهم يعلمون ان ملاك الارض كانوا ييجلدون جدهم , وان جدهم بدوره كان يجلد اباهم , ولكنهم هم انفسهم لا يستطيعون ان يحتملوا وقع السياط بسعادة وهم متاكدون ان دورهم ات ليجلدوا ابنائهم واتباعهم , بل سمم الخوف حياتهم , لقد حملتهم امهم وهي خائفة كانت في السابعة عشر حين زوجوها رجلا في الخامسة والاربعين فكانت ترتعد لكل التفاتة من راسه , وكان السوط هو معلم هؤلاء الابناء , وملأهم السأم من صلوات الاسر والكنيسة)3 , ومع ذلك كان تشيخوف يعترف ان والده رغم تصرفاته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 . ينظر . تشيخوف انطوان : الفلاحون , تر مرسي سيد مرسي , وزارة الثقافة , المؤسسة المصرية العامة للنشر ,دار الكتاب العربي للطباعة , ص5 .
2 ينظر. ترويا : هنري تشيخوف ,تر خليل الخوري , دار الشؤون الثقافية العامة ,ط1 (بغداد) 1987م , ص5
(3) تشيخوف انطوان:ثلاث سنوات ,تر فؤاد دوارة , روايات الهلال ,العدد293في سبتمبر 1981, ص11
المتعجرفة القاسية ومحدودية فكره , كان فنانا ًيعزف على الكمان , تعلمها وحده موهبة بدون اي تعلم , بالاضافة على انه رساما ً رسم جميع الايقونات التي تملأ جدران غرفته فيقول "تشيخوف أن الموهبة اخذناها من والدنا والروح من والدتنا حيث كانت امه مثله الاعلى في الرقة والحنان ويرى الباحث ان هذا يؤكد استعانة تشيخوف بسيرته الذاتية في رسم الشخصيات التي اعتمدها في نتاجه الادبي وخصوصا ً في قصصه القصيرة , وفي "بستان الكرز" رسم تشيخوف شخصية "لوباخن" الذي كان والده وجده من الاقنان الذين تملكهم "رنفسكايا" صاحبة الضيعة قبل ان يتحرروا , واصبح لوباخن صاحب اموال مما استطاع ان يشتري البستان , ان تاريخ هذه الشخصية قريبة جدا لوالد تشيخوف , ولا ننسى انه لم تكن في شخصيات تشيخوف التي رسمها في نتاجاته الادبية شخصية شريرة بل جميع الشخصيات تتارجح بين الشر والخير كما في شخصية والد تشيخوف , التي تتارجح بين القسوة والموهبة الفنية , بعد ان ذاق "تشيخوف المرار والمعانات والفاقة في العيش كان لا بد ان يكره , اصحاب الارض الذين جعلوا من الانسان مطية وقن وخادم يسخرونه لتخدمتهم المالية والشخصية , ومن هنا كان لا بد ان يعشق "الديمقراطية " التي لعبت دورا ً كبيرا ً في طريقه الابداعي , وقد انظم الى الديمقراطيين ـ الرازنوتشين * حيث بدأفي بداية خطواته كاتب ديمقراطي الهوى , له مبادئه التي لا يحيد عنها , بدأ تشيخوف حياته الادبية في الصحافة الكوميدية وكانت اعماله انذاك "لاجل التفاحات" 1880 ,"الكبش والانسة 1883 وغيرها , وفي مجموعته "شضايا الحياة الموسكوفية" يصور" تشيخوف" عالم الخبثاء ** باحتقار واشمئزاز لا يقلان عنهما في تصويره لاوساط الملاكين , وكان ذلك جليا في تصويره "لوباخن" الفلاح الذي اشترى البستان بعد ان افلس اصحابه , وكتب "تشيخوف ضد الرجعية السياسية في جميع اشكالها وتلونها , كتب في الصحافة ,الاقصوصة النكتة ـ والاقصوصة المشهد لم تكن من ابتداعه بل كانت تطرق قبله في الصحافة الفكاهية , ولا احد ينكر ان "تشيخوف " قام بتحطيم وتحويل تقاليد المجلات الفكاهية الى مناصرة فكره الانساني " كان تشيخوف الوريث الشرعي لكل الادب الروسي وتقاليده العظيمة " 1 . كتب تشيخوف سبعة وسبعون أقصوصة للفترة من "1884 ــ 1886" في عام ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ(*) رازنوتشين كانت تطلق في القرن الماضي على المثقف الذي لا ينتمي الى النبلاء , بل ينحدر من طبقات
وفئات اخرى
(**) هم الفلاحون ـ الكولاك الذين أثروا من شراء واحتكار اراضي الملاكين المفلسين بعد اصلاح 1861
والغاء نظام القنانة في روسيا .
1 . ينظر :بيرونيكوف جيورجي: أنطوان تشيخوف, تر أكرم سليمان , ج1, وزارة الثقافة , الجمهورية
العربية السورية (دمشق) 1992م ,ص9 ...ص42 .
1891رفض تسع وثلاثين منها لعدم قناعته بها وذلك بعد مراجعتها . وعند كتابته لاقصوصته "ضابط الصف بريشيبييف" كانت نقلة مهمة في حياة تشيخوف الادبية حيث نقل مركز ثقل, نتاجه الادبي من الظواهر الاجتماعية السياسية الى ظواهر أجتماعية سايكلوجية (نفسية) , ومن هنا ابتعدت اعمال "تشيخوف" من صبغتها السياسية الى صبغتها السايكلوجية الانسانية أخذا ً بنظر الاعتبار ظروفهم الحياتية الاعتيادية المعاشة , بالاضافة الى التركيز على القضايا الاخلاقية وقد سلك "تشيخوف" هذا الدرب في تطور نتاجه الابداعي في القصة القصيرة الفكاهية .
تشيخوف وبدايته في المسرح :
في عام 1873م أكتشف تشيخوف العالم المسرحي من خلال الصدفة عندما كان مارا ً في "شارع بتروفسكايا" ورأى بناية المسرح البلدي الصغير , وأول عرض مسرحي شاهده هو "عرض لاوبرا أوفنباخ " بعنوان "هيلين الجميلة" بعدها سُحر صاحب الثلاثة عشر عام بالمسرح , عشقه وبنى أمال في الخوض بعالمه وكان يعيش نشوة عارمة عندما يرى عروض لشكسبير او لغوغول ,وعالم "هاملت " تلك المسرحية التي نالت اعجابه بشكل لا يوصف , وكانت تبهره عروض "الميلودراما" وبعد هذا الشغف غير العادي وتعلقه بالمسرح , قام تشيخوف بتأسيس فرقة مسرحية خاصة مكونة من اشقائه وشقيقته , تقمص تشيخوف عدة شخصيات كوميدية نمطية ونجح نجاحا باهرا في تجسيدها أذ من (المستحيل تصور الضحك الصاخب الذي كان يصدر عن الحضور كل مرة دخل فيها "أنطوان بافلوفتش" الى المسرح )1.
تشيخوف ودراسته للطب:
دخل الكاتب المسرحي "تشيخوف " كلية الطب وقد نجح في جميع مراحل الدراسة وحصل على الامتياز , رغم الفاقة التي كان يعيشها ,معتكزا ً بذلك على أنتاجه الادبي وما يكتب من قصصا ً ساخرة في معظم ومختلف المجلات رغم ضآلة ما يحصل عليه من مال وكان غير راض على كتاباته تلك وتثير قرفه حيث كانت تُفرضْ عليه المواضيع ويضطر الى الوقوع في الثرثرة من خلال التعليمات التي تصدرها المجلات وخصوصا ً كان يجب عليه ان ينهي موضوعه في مائة سطر , ولكنه اضطر لها لتسد حاجات اسرته المالية وتساعده على اكمال دراسته للطب, منذ أن بدأ تشيخوف دراسته للطب وهو من المتفوقين بين اقرانه حيث فهم كل حيثيات المهنة وصرح أن من يخلصني من عذاباتي هو الطب "السماعة: وليس القلم , فلهذا فانني ساتعمق في دراستي للطب واحاول ان اعزز في داخلي الثقة باني طبيب ,وعندما تخرج في سنته الخامسة قال "الكوميديا أنتهت" . تشيخوف الانسان الطيب درس الطب من اجل هدفين وكلاهما انساني الاول هو ان يقف بجانب الانسان الفقير المريض ويسخر كل ما لديه من علوم طبية الى تلك الشريحة المظلومة باجر رمزي وكثير ما كانت فحوصاته مجانا ًولا يكل او يتعب من زيارة مرضاه في المستشفيات , ويجري العمليات الجراحية , ويتابعهم حتى شفائهم 2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ترويا هنري : تشيخوف , مصدر سابق , ص 33 .
2 . ينظر المصدر نفسه , ص73 .....ص79 .
والهدف الثاني هو التقرب الى النفس البشرية عن قرب والتعرف على عوالمها الداخلية وفي جميع ضروفها وشتى شرائحها الفقير فيهم والغني الفنان والعامل كل شرائح المجتمع يتواجدون في العيادات والمستشفيات وبهذا تكون الشخصية التي يرسمها في مسرحياته وقصصه اكثر صدقا . شكلا ومضمونا وبهذا يكون تشيخوف قد رسم شخصياته باكثر واقعية من غيره من الكتاب المعاصرين لزمنه . وخرج من تجربته هذه على ان الانسان في هذا العالم مسكين ,مُستلبْ , الكائبة ملتصقة بدواخله ولكنه لا يخلو من الامل , ونرى ابتسامته من خلال الدموع , وكان لا بد لافكاره هذه نجدها واضحة في نتاجه الادبي (ونجد ان فكرةكآبة العالم وملله تسري عبر شخصية ايفانوف). وبعد تخطيه الدراسة في العلوم الطبية وفي العام 1884م عاد "انطوان تشيخوف الى (موسكو) الذي احبها بشغف واضعا أمام مسكنه يافطة من النحاس تعلن , أنطوان تشيخوف دكتور في الطب , وفي تلك الفترة الزمنية اصاب تشيخوف مرض السل الرئوي فبات يُعَالجْ ويٌعْالجْ , وبعد جهد جهيد في عمله الطبي وكتاباته استطاع ان يحقق امنيته التي عاش يحلم بها أمنية بسيطة هي ان اشترى بعض الاثاث وبيانو وأن يوظف خادمتين وأن يُنظم بعض من الاماسي الموسيقية , فقد فرح فرحا ًما بعده فرح واعتبره ترف برجوازي وكان تفكيره انه قد تخطى ذلك العوز المر والمذلة التي اصابته طيلة السنوات الخمس والعشرون السابقة وهوبذلك قد انتصر على ذلك العبد المسجون في داخل روحه الذي لم يتحرر منه ابدا منذ ولادته وحتى عندما كان يسعل ويبصق دما ً كان يبتسم ويقول في داخله انه دم انسان حر ويستطرد في داخله فرحا ً لست مدينا لاحد ولا اشعر بالحاجة لشئ , انا ادفع فاتوراتي نقدا ً لا اشتري اللحم والبقالة بدينا ً يُكتب في دفتر , امنيات بسيطة , عند اكثر الناس وهكذا رسم شخصياته المسرحية , شخصيات مُتعبة لكنها لا تيأس فالعمل يجعلها احسن حالا , في هذه الفترة الزمنية لي بين عام 1880ــ1884م كان تشيخوف لا يتطرق ابدا في نتاجاته الادبية ولا يتعرض الى اي موضوع له علاقة باي مسألة أخلاقية أو اي موضوع له علاقة بالاديان او حتى الاعراف الاجتماعية ولا يحمل في طيات ادبه أي رسالة يرسلها للمتلقي, كان همه الوحيد تسليتهم وكتب باسمه واسماء مستعارة اخرى اكثر من ثلاثمائة نص في مختلف مجلات بطرسبرغ وموسكو واكثر هذه النصوص والقصص القصيرة كانت محصورة في الفكاهة والكوميديا , وكانت تلك الكتابات تكشف عن عن سايكلوجية دقيقة وسخرية سطحية ورغم ذلك كان مقص مدير "الشظايا" يحذف الكثير منها دون اي استشارة المؤلف يقطع اي مقاطع يعتبرها جارحة او خطرة وفي احدى القصص كتب تشيخوف واصفا ً سهرة عيد الفصح وارسله الى النشر فرد عليه مدير (الشظايا) ليس سيئا ً ان تصف سهرة عيد الميلاد وخدام الكنيسة في ابراج لكن كل ماله علاقة بالتراتيل وبالسكر والخمر وبالزيارات الفصحية سامحني كان يجب حذفته 2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سينيليك لورينس : عروض مسرح تشيخوف , مصدر سابق , ص39
2 . ينظر ترويا هنري : تشيخوف . مصدر سابق . ص84 ...ص87 .
أن ابتعاد تشيخوف المباشر في نتاجاته الادبية عن الولوج في الامورالسياسية والدينية والاجتماعية التي تهم الناس في الفترة ما بين 1880 ــ1884 لا يعني خلوها الكامل من المضمون وانما كانت تتراقص بين السطور , ويجدها واضحة من يبحث عنها بين الكلمات وقد سميت تلك الفترة من حياة تشيخوف فالفترة الابداعية كان هذا رأئ الكاتب "جيورجي بيرانيكوف" في كتابه انطوان تسيخوف حين قال ( فقد اثبت تشيخوف انه, حتى في فترة تكونه الابداعي كان فنانا عميقا ً في اصالته , واذا كان قد اتبع نهجا غريبا ً عنه , فهو انما فعل ذلك بصورة واعية تماما ً , واضعا نصب عينيه هدفا ً محددا ملموسا في سعيه لاعادة خلق الاساليب الادبية ) 1 مختلفا مع رأي الكاتب (هنري ترويا في كتابه "تشيخوف" كما اشرنا اليه في الصفحة السابقة , وبتواضع كبير يختلف الباحث مع الرأيين المذكورين ويرى الباحث ان "تشيخوف " في تلك الفترة ما بين 1880ــ1884م , كان بحاجة ماسة للمال حتى يستطيع ان يلبي حاجاته وحاجات عائلته , فبذلك كان يكتب ما يريد الجمهور , وخصوصاً الفكاهة , والدليل ان (مدير الشظايا) كان يحذف من نصوصه ما يريد حتى دون الرجوع اليه , كما ورد في الصفحة السابقة .
تشيخوف في ساخالين ليتعرف على العوالم الداخلية للسجناء :
في العام 1890م قرر تشيخوف السفر الى ساخالين في سبريا رغم اعتلال صحته , واعتراض اصدقائه المقربين وشقيقه , واعتبروا تلك السفرة ضربا ً من الجنون لكنه اصر على الرحلة , وكان تبريره لسفره متقلب فتارة يعزيه الى نفوره واشمئزازه من الوسط الادبي , وتارة يعزيه الى حاجته الشخصية لتغير المكان والجو الممل , واحيانا ً اخرى يصرح ان الكاتب الحقيقي يجب ان يعرف عن مجتمعه وواقعه كل شئ , وانه يفتقر الى معرفة الواقع الروسي الحقيقي للسجناء في سيبريا , ثم يغير اهداف الرحلة , فيقول انه ذاهب لبحث علمي يتعرف به على مصير السجناء في سيبريا . كل هذه الاشياء مجتمعة لم تكن تُصدق من قبل اصدقائه , وقالوا انها هزيمة عاطفية وخيبة أمل وفشل في علاقة عاطفية مع الشابة الشقراء ذات السادسة والعشرين ربيعا ً , المتزوجة بموظف والام لطفل , والتي تعرف عليها عام 1889م , في احد الصالونات واسمها " ليديا أفيلوفا " وها هو تشيخوف يتنقل من عربة لاخرى ومن قطار لاخر مصرا ان يستسلم لارادته الداخلية لاشباع ذاته , وقد اعترف "تشيخوف" ان الرحلة الى "جزيرة ساخالين " تمثل جهدا ً جسديا ً وفكريا ً لستة أشهر طويلة , ولكنها المكان الوحيد من الامكنة النادرة بل الوحيدة التي يتمكن فيها الكاتب أن يدرس الانسان بعمق في مستوطنة يسكنها مجرمون , فهي مكان لا يطاق من الآلام , فالذهاب الى "ساخالين" يجب أن يكون فرضا ً كما يذهب الاتراك الى مكة ,وأن كل واحد منا مسؤول عن معاناة المسجونين هناك , قبل السجانون , وما يؤسفني ان اكون انا من يذهب ليطلع هناك وليس احد اخر اكثر اهلية في إيقاض إهتمام المجتمع تلك أقوال "تشيخوف" , قرر "تشيخوف" أن يدرس الحياة اليومية لسجناء الجزيرة" "ساخالين" بشكل علمي منهجي ,باحثا في الكتب والمراجع التي تعالج تلك المشكلة , وساعدته في نسخ بعض المقاطع الاساسية في الكتب "ماريا وصديقاتها والتي يعيّنها لهن "تشيخوف " من مكتبة "روميا نتسف" في حين اوكل "الكسندر"في التنقيب حول نفس الموضوع في الصحف القديمة بمدينة "بطرسبرغ" 2 وبجمع هذا الكم الهائل من المعلومات التي تجعل من بحثه صادقا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بيرونيكوف جيورجي : أنطوان تشيخوف , مصدر سابق , ص42 .
2 ينظر . ترويا هنري : تشيخوف , مصدر سابق , ص159 ....ص161 .
وبهذا يكون تشيخوف ( وقد امتلأ بالتقاريير والاحصائيات ,يؤكد انه لم يعد كاتبا ً ولكنه جغرافي وجيولوجي وعالم ارصاد جوية وعالم سلالات وانه يشكو من مرض جديد هو "الهوس السخاليني " )1 . قابل في رحلته هذه كثير من السجناء , وتعرف على ما اقترفوه من جرائم والمظلومين بينهم كثر ,وقا تشيخوف "لا يوجد سجين او مستوطن في جزيرة سخالين لم يتحدث معي " دارسا ً اعماقهم ودواخلهم النفسية دراسة مستفيضة , وقد احزنه بعمق معاملة السجانين القاسية والظالمة لكافة السجناء في الجزيرة بالاضافة الى تجاوزات ادارات السجون , وتعرض السجناء للاذلال والضروف المنحطة والقذرة التي تعيشها النساء والاطفال , ورجع الى موسكو بكم هائل من المعلومات الواقعية التي تفيده في كتابة رواياته ومسرحياته وقصصه القصيرة . وفي ليلة من ليالي (سخالين) ومعاون الشرطة برفقته , دعاه الاخير لزيارة بيوت الدعارة ليقوم بجولة في المباغي , فما رآه اكثر من مقزز وجديد ومفاجء بالنسبة لتشيخوف , والذي أدهشه هو مستوى الابتذال الذي وصلن اليه نزيلات المواخير من الانحطاط الاخلاقي وللامبالاة , فيبيعوهن ويشتروهن ويغرقوهن في الخمر , وهن كالنعاج بله غير مباليات , كل شئ فيهن مدنس 2 , بالاضافة الى اطلاعه على تلك البيوت التي تحتضن البغي هنالك سجينات يمارسن البغاء , بل حتى من بينهن نساء لم تكن اصلا مهنتهن لكنهن التحقوا بازواجهن السجناء (وكانت كلتا الفئتين تلجأ الى الدعارةلتقيم أودها , وكان السجانون يحتفضون لانفسهم بأفتاهن , وباكثرهن جاذبية في حين تترك الباقيات للسجناء , وكان بيع امهات فتياتهن الصغيرات الى مستوطنين أغنياء أو مراقبين)2 .....ومنهن من مارسن البغاء وهن في التاسعة من عمرها وبينهن امهات فتحن بيوت للدعارة خاص ببناتهن . ورجع تشيخوف منهكا بعد سبعة اشهر من البحث العلمي والتقصي والغور في اعماق النفس البشرية , وكل ما شاهده وبحث فيه ملتصقا ً بذاكرته , ليحول قسم كبير منها من الواقع الاجتماعي الى واقع مسرحي يكتنفه الجمال وعند وصوله موسكو عكف على تقاريره يشجب فيها تجاوزات ادارة السجون وأذلال السجناء وظروف الحياة التعسة المنحطة غير الادمية التي تعيشها النساء والاطفال , وكان ذلك واضحا في اقاصيصه اللاحقة , وعند رجوعه الى موسكو , أخذ يشكو بصداع شديد واوجاع في الراس شديدة واشتد عليه السعال وارهاق عام في جسمه , وخفقان في قلبه , بعدها ذهب في رحلة اخرى شملت كل من نابولي وفلورنسا وبولونيا وايطاليا وروما , بعدها زار فرنسا ورجع موسكو وكتب عدة روايات وقصص وكتب بعدها مسرحياته الشقيقات الثلاثة, والخال فانيا والنورس , ومسرحية بستان الكرز الذتي وافاه الاجل قبل ان يشاهد عرضها 3. في عام 1904 توفى تشيخوف وقال قبل موته انا مشرف على الموت , زرقه الطبيب بحقنة تهدئه وكاس من الشمبانيا , ثم ابتسم وقال لم اشربها من زمن ,بعدها توقف نفسه ونام بسلام كالطفل ونقلت جثته الى مقبرة نوفوديفيتشي بجانب والده
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ترويا هنري : تشيخوف , المصدر السابق, ص161
2 . ينظر .بيرونيكوف جيورجي: انطوان تشيخوف , مصدر سابق , ص227 .
(3) ترويا هنري : تشيخوف , المصدر السابق , ص176 ....180.
أنطوان تشيخوف 17 يناير 1860 ـ 1904 وسيرته الذاتية :
ولد تشيخوف في الاتحاد السوفيتي بمدينة (تاجانروج) . ويعد في المصاف الاول من مؤلفي القصة القصيرة والمسرحية في العالم . نشأ تشيخوف من عائلة فقيرة متدينة , كان جده ووالده من أقنان الارض , وبعد تحرر والده اعتاش وعائلته على حانوت بقالة صغير . عام 1968 تشيخوف في عمر الثامنة أدخله والده مع اخيه الى مدرسة يونانية في مدينة (تاجانروج) دافعا خمس وعشرون روبلا رغم بخله , من صغرتشيخوف وهو ولوع باللغة حيث ركز على قواعد اللغة اللاتينية . جالس في غرفته يدرس على نور شمعة يسترق النظر بين الفينة والفينة الى غرفة والده (بول أيغوروفتش) ـ بخوف شديد من بطشه ـ وهويمارس واجباته الدينية , تلك الغرفة التي وضع فيها الكتاب المقدس في مكان بارز وجدران الغرفة تشع بالايقونات والسرج الملونة , هذه الاجواء المشحونة القريبة الى طقوس السحر تزيد من جنون والده في ممارسة الطغيان ضد الاسرة ـ المكونة من والدته الرقيقة الشفافة واربعة اشقاء له ووشقيقة واحدة ـ مقتنعا ً أن ما يفعله يرضي الرب , الجميع ينصاع لجبروته بضمنهم الوالدة (أوجيني باكو فلفنا ) الرقيقة المسايرة لزوجها , الكل يرتجف لمجرد ان يرفع رب الاسرة صوته , فهو لا يتوانى من ان يخرج سوطه ويضرب لي شخص من العائلة, وبضمنهم (تشيخوف الذي كان في الخامسة من عمره , وكان كل صباح يفكر " هل سأضْرَبْ اليوم ؟ حيث ان مجرد خروجه من غرفة العبادة ليشعر كل واحد من ابناء اسرته انه مذنب , وكان يتفجر غضبا لدى ارتكاب اي واحد منهم اي حماقة فينهال عليه باللعنات ويتوعد ويضرب بسيل من الصفعات , وقال تشيخوف ""لقد بدأ ابي بتربيتي أو ببساطة أكثر بضربي وانا لم ابلغ الخامسة من عمري "" كان الوالد لايفصل الاخلاق عن الهراوة وكان في رايه الخاص ان الجأر والضرب بشدة هو الذي يرسخ الحقائق المقدسة , وعلى لسان تشيخوف , كان والدنا يُضرب من قبل جدنا , وجدنا كان يُضرب من قبل السادة الاقطاعيين وكان ابسط الموظفين يستطيع ان يحطم له سحنته , فأنا عشت بلا طفولة؟؟؟ وكنت اعيش وسواس التعنيف وانا اصلي ,وانا منحني على كتاب قواعد اللغة اللاتينية . وقد وضح ذلك جليا في قصصه , ففي رواية "ثلاث سنوات" ,رسمها بشكل واضح ,حيث هاجم "تشيخوف التقاليد العشائرية القبلية التي تسمح لرب الاسرة التصرف العدواني ازاء اسرته بحجة التربية والاستقامة الدينية , واصفا ومسقطا ًمعاناته ومعاناة أسرته بوضوح في تلك الرواية ويصف (ابناء الجيل الحاضر من أسرة "لابتيف" لم يتصرفوا بسبب ازدياد انتشار الاحساس بالحرية في العالم بشكل عام كاسلافهم , فهم يعلمون ان ملاك الارض كانوا ييجلدون جدهم , وان جدهم بدوره كان يجلد اباهم , ولكنهم هم انفسهم لا يستطيعون ان يحتملوا وقع السياط بسعادة وهم متاكدون ان دورهم ات ليجلدوا ابنائهم واتباعهم , بل سمم الخوف حياتهم , لقد حملتهم امهم وهي خائفة كانت في السابعة عشر حين زوجوها رجلا في الخامسة والاربعين فكانت ترتعد لكل التفاتة من راسه , وكان السوط هو معلم هؤلاء الابناء , وملأهم السأم من صلوات الاسر والكنيسة)3 , ومع ذلك كان تشيخوف يعترف ان والده رغم تصرفاته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 . ينظر . تشيخوف انطوان : الفلاحون , تر مرسي سيد مرسي , وزارة الثقافة , المؤسسة المصرية العامة للنشر ,دار الكتاب العربي للطباعة , ص5 .
2 ينظر. ترويا : هنري تشيخوف ,تر خليل الخوري , دار الشؤون الثقافية العامة ,ط1 (بغداد) 1987م , ص5
(3) تشيخوف انطوان:ثلاث سنوات ,تر فؤاد دوارة , روايات الهلال ,العدد293في سبتمبر 1981, ص11
المتعجرفة القاسية ومحدودية فكره , كان فنانا ًيعزف على الكمان , تعلمها وحده موهبة بدون اي تعلم , بالاضافة على انه رساما ً رسم جميع الايقونات التي تملأ جدران غرفته فيقول "تشيخوف أن الموهبة اخذناها من والدنا والروح من والدتنا حيث كانت امه مثله الاعلى في الرقة والحنان ويرى الباحث ان هذا يؤكد استعانة تشيخوف بسيرته الذاتية في رسم الشخصيات التي اعتمدها في نتاجه الادبي وخصوصا ً في قصصه القصيرة , وفي "بستان الكرز" رسم تشيخوف شخصية "لوباخن" الذي كان والده وجده من الاقنان الذين تملكهم "رنفسكايا" صاحبة الضيعة قبل ان يتحرروا , واصبح لوباخن صاحب اموال مما استطاع ان يشتري البستان , ان تاريخ هذه الشخصية قريبة جدا لوالد تشيخوف , ولا ننسى انه لم تكن في شخصيات تشيخوف التي رسمها في نتاجاته الادبية شخصية شريرة بل جميع الشخصيات تتارجح بين الشر والخير كما في شخصية والد تشيخوف , التي تتارجح بين القسوة والموهبة الفنية , بعد ان ذاق "تشيخوف المرار والمعانات والفاقة في العيش كان لا بد ان يكره , اصحاب الارض الذين جعلوا من الانسان مطية وقن وخادم يسخرونه لتخدمتهم المالية والشخصية , ومن هنا كان لا بد ان يعشق "الديمقراطية " التي لعبت دورا ً كبيرا ً في طريقه الابداعي , وقد انظم الى الديمقراطيين ـ الرازنوتشين * حيث بدأفي بداية خطواته كاتب ديمقراطي الهوى , له مبادئه التي لا يحيد عنها , بدأ تشيخوف حياته الادبية في الصحافة الكوميدية وكانت اعماله انذاك "لاجل التفاحات" 1880 ,"الكبش والانسة 1883 وغيرها , وفي مجموعته "شضايا الحياة الموسكوفية" يصور" تشيخوف" عالم الخبثاء ** باحتقار واشمئزاز لا يقلان عنهما في تصويره لاوساط الملاكين , وكان ذلك جليا في تصويره "لوباخن" الفلاح الذي اشترى البستان بعد ان افلس اصحابه , وكتب "تشيخوف ضد الرجعية السياسية في جميع اشكالها وتلونها , كتب في الصحافة ,الاقصوصة النكتة ـ والاقصوصة المشهد لم تكن من ابتداعه بل كانت تطرق قبله في الصحافة الفكاهية , ولا احد ينكر ان "تشيخوف " قام بتحطيم وتحويل تقاليد المجلات الفكاهية الى مناصرة فكره الانساني " كان تشيخوف الوريث الشرعي لكل الادب الروسي وتقاليده العظيمة " 1 . كتب تشيخوف سبعة وسبعون أقصوصة للفترة من "1884 ــ 1886" في عام ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ(*) رازنوتشين كانت تطلق في القرن الماضي على المثقف الذي لا ينتمي الى النبلاء , بل ينحدر من طبقات
وفئات اخرى
(**) هم الفلاحون ـ الكولاك الذين أثروا من شراء واحتكار اراضي الملاكين المفلسين بعد اصلاح 1861
والغاء نظام القنانة في روسيا .
1 . ينظر :بيرونيكوف جيورجي: أنطوان تشيخوف, تر أكرم سليمان , ج1, وزارة الثقافة , الجمهورية
العربية السورية (دمشق) 1992م ,ص9 ...ص42 .
1891رفض تسع وثلاثين منها لعدم قناعته بها وذلك بعد مراجعتها . وعند كتابته لاقصوصته "ضابط الصف بريشيبييف" كانت نقلة مهمة في حياة تشيخوف الادبية حيث نقل مركز ثقل, نتاجه الادبي من الظواهر الاجتماعية السياسية الى ظواهر أجتماعية سايكلوجية (نفسية) , ومن هنا ابتعدت اعمال "تشيخوف" من صبغتها السياسية الى صبغتها السايكلوجية الانسانية أخذا ً بنظر الاعتبار ظروفهم الحياتية الاعتيادية المعاشة , بالاضافة الى التركيز على القضايا الاخلاقية وقد سلك "تشيخوف" هذا الدرب في تطور نتاجه الابداعي في القصة القصيرة الفكاهية .
تشيخوف وبدايته في المسرح :
في عام 1873م أكتشف تشيخوف العالم المسرحي من خلال الصدفة عندما كان مارا ً في "شارع بتروفسكايا" ورأى بناية المسرح البلدي الصغير , وأول عرض مسرحي شاهده هو "عرض لاوبرا أوفنباخ " بعنوان "هيلين الجميلة" بعدها سُحر صاحب الثلاثة عشر عام بالمسرح , عشقه وبنى أمال في الخوض بعالمه وكان يعيش نشوة عارمة عندما يرى عروض لشكسبير او لغوغول ,وعالم "هاملت " تلك المسرحية التي نالت اعجابه بشكل لا يوصف , وكانت تبهره عروض "الميلودراما" وبعد هذا الشغف غير العادي وتعلقه بالمسرح , قام تشيخوف بتأسيس فرقة مسرحية خاصة مكونة من اشقائه وشقيقته , تقمص تشيخوف عدة شخصيات كوميدية نمطية ونجح نجاحا باهرا في تجسيدها أذ من (المستحيل تصور الضحك الصاخب الذي كان يصدر عن الحضور كل مرة دخل فيها "أنطوان بافلوفتش" الى المسرح )1.
تشيخوف ودراسته للطب:
دخل الكاتب المسرحي "تشيخوف " كلية الطب وقد نجح في جميع مراحل الدراسة وحصل على الامتياز , رغم الفاقة التي كان يعيشها ,معتكزا ً بذلك على أنتاجه الادبي وما يكتب من قصصا ً ساخرة في معظم ومختلف المجلات رغم ضآلة ما يحصل عليه من مال وكان غير راض على كتاباته تلك وتثير قرفه حيث كانت تُفرضْ عليه المواضيع ويضطر الى الوقوع في الثرثرة من خلال التعليمات التي تصدرها المجلات وخصوصا ً كان يجب عليه ان ينهي موضوعه في مائة سطر , ولكنه اضطر لها لتسد حاجات اسرته المالية وتساعده على اكمال دراسته للطب, منذ أن بدأ تشيخوف دراسته للطب وهو من المتفوقين بين اقرانه حيث فهم كل حيثيات المهنة وصرح أن من يخلصني من عذاباتي هو الطب "السماعة: وليس القلم , فلهذا فانني ساتعمق في دراستي للطب واحاول ان اعزز في داخلي الثقة باني طبيب ,وعندما تخرج في سنته الخامسة قال "الكوميديا أنتهت" . تشيخوف الانسان الطيب درس الطب من اجل هدفين وكلاهما انساني الاول هو ان يقف بجانب الانسان الفقير المريض ويسخر كل ما لديه من علوم طبية الى تلك الشريحة المظلومة باجر رمزي وكثير ما كانت فحوصاته مجانا ًولا يكل او يتعب من زيارة مرضاه في المستشفيات , ويجري العمليات الجراحية , ويتابعهم حتى شفائهم 2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ترويا هنري : تشيخوف , مصدر سابق , ص 33 .
2 . ينظر المصدر نفسه , ص73 .....ص79 .
والهدف الثاني هو التقرب الى النفس البشرية عن قرب والتعرف على عوالمها الداخلية وفي جميع ضروفها وشتى شرائحها الفقير فيهم والغني الفنان والعامل كل شرائح المجتمع يتواجدون في العيادات والمستشفيات وبهذا تكون الشخصية التي يرسمها في مسرحياته وقصصه اكثر صدقا . شكلا ومضمونا وبهذا يكون تشيخوف قد رسم شخصياته باكثر واقعية من غيره من الكتاب المعاصرين لزمنه . وخرج من تجربته هذه على ان الانسان في هذا العالم مسكين ,مُستلبْ , الكائبة ملتصقة بدواخله ولكنه لا يخلو من الامل , ونرى ابتسامته من خلال الدموع , وكان لا بد لافكاره هذه نجدها واضحة في نتاجه الادبي (ونجد ان فكرةكآبة العالم وملله تسري عبر شخصية ايفانوف). وبعد تخطيه الدراسة في العلوم الطبية وفي العام 1884م عاد "انطوان تشيخوف الى (موسكو) الذي احبها بشغف واضعا أمام مسكنه يافطة من النحاس تعلن , أنطوان تشيخوف دكتور في الطب , وفي تلك الفترة الزمنية اصاب تشيخوف مرض السل الرئوي فبات يُعَالجْ ويٌعْالجْ , وبعد جهد جهيد في عمله الطبي وكتاباته استطاع ان يحقق امنيته التي عاش يحلم بها أمنية بسيطة هي ان اشترى بعض الاثاث وبيانو وأن يوظف خادمتين وأن يُنظم بعض من الاماسي الموسيقية , فقد فرح فرحا ًما بعده فرح واعتبره ترف برجوازي وكان تفكيره انه قد تخطى ذلك العوز المر والمذلة التي اصابته طيلة السنوات الخمس والعشرون السابقة وهوبذلك قد انتصر على ذلك العبد المسجون في داخل روحه الذي لم يتحرر منه ابدا منذ ولادته وحتى عندما كان يسعل ويبصق دما ً كان يبتسم ويقول في داخله انه دم انسان حر ويستطرد في داخله فرحا ً لست مدينا لاحد ولا اشعر بالحاجة لشئ , انا ادفع فاتوراتي نقدا ً لا اشتري اللحم والبقالة بدينا ً يُكتب في دفتر , امنيات بسيطة , عند اكثر الناس وهكذا رسم شخصياته المسرحية , شخصيات مُتعبة لكنها لا تيأس فالعمل يجعلها احسن حالا , في هذه الفترة الزمنية لي بين عام 1880ــ1884م كان تشيخوف لا يتطرق ابدا في نتاجاته الادبية ولا يتعرض الى اي موضوع له علاقة باي مسألة أخلاقية أو اي موضوع له علاقة بالاديان او حتى الاعراف الاجتماعية ولا يحمل في طيات ادبه أي رسالة يرسلها للمتلقي, كان همه الوحيد تسليتهم وكتب باسمه واسماء مستعارة اخرى اكثر من ثلاثمائة نص في مختلف مجلات بطرسبرغ وموسكو واكثر هذه النصوص والقصص القصيرة كانت محصورة في الفكاهة والكوميديا , وكانت تلك الكتابات تكشف عن عن سايكلوجية دقيقة وسخرية سطحية ورغم ذلك كان مقص مدير "الشظايا" يحذف الكثير منها دون اي استشارة المؤلف يقطع اي مقاطع يعتبرها جارحة او خطرة وفي احدى القصص كتب تشيخوف واصفا ً سهرة عيد الفصح وارسله الى النشر فرد عليه مدير (الشظايا) ليس سيئا ً ان تصف سهرة عيد الميلاد وخدام الكنيسة في ابراج لكن كل ماله علاقة بالتراتيل وبالسكر والخمر وبالزيارات الفصحية سامحني كان يجب حذفته 2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سينيليك لورينس : عروض مسرح تشيخوف , مصدر سابق , ص39
2 . ينظر ترويا هنري : تشيخوف . مصدر سابق . ص84 ...ص87 .
أن ابتعاد تشيخوف المباشر في نتاجاته الادبية عن الولوج في الامورالسياسية والدينية والاجتماعية التي تهم الناس في الفترة ما بين 1880 ــ1884 لا يعني خلوها الكامل من المضمون وانما كانت تتراقص بين السطور , ويجدها واضحة من يبحث عنها بين الكلمات وقد سميت تلك الفترة من حياة تشيخوف فالفترة الابداعية كان هذا رأئ الكاتب "جيورجي بيرانيكوف" في كتابه انطوان تسيخوف حين قال ( فقد اثبت تشيخوف انه, حتى في فترة تكونه الابداعي كان فنانا عميقا ً في اصالته , واذا كان قد اتبع نهجا غريبا ً عنه , فهو انما فعل ذلك بصورة واعية تماما ً , واضعا نصب عينيه هدفا ً محددا ملموسا في سعيه لاعادة خلق الاساليب الادبية ) 1 مختلفا مع رأي الكاتب (هنري ترويا في كتابه "تشيخوف" كما اشرنا اليه في الصفحة السابقة , وبتواضع كبير يختلف الباحث مع الرأيين المذكورين ويرى الباحث ان "تشيخوف " في تلك الفترة ما بين 1880ــ1884م , كان بحاجة ماسة للمال حتى يستطيع ان يلبي حاجاته وحاجات عائلته , فبذلك كان يكتب ما يريد الجمهور , وخصوصاً الفكاهة , والدليل ان (مدير الشظايا) كان يحذف من نصوصه ما يريد حتى دون الرجوع اليه , كما ورد في الصفحة السابقة .
تشيخوف في ساخالين ليتعرف على العوالم الداخلية للسجناء :
في العام 1890م قرر تشيخوف السفر الى ساخالين في سبريا رغم اعتلال صحته , واعتراض اصدقائه المقربين وشقيقه , واعتبروا تلك السفرة ضربا ً من الجنون لكنه اصر على الرحلة , وكان تبريره لسفره متقلب فتارة يعزيه الى نفوره واشمئزازه من الوسط الادبي , وتارة يعزيه الى حاجته الشخصية لتغير المكان والجو الممل , واحيانا ً اخرى يصرح ان الكاتب الحقيقي يجب ان يعرف عن مجتمعه وواقعه كل شئ , وانه يفتقر الى معرفة الواقع الروسي الحقيقي للسجناء في سيبريا , ثم يغير اهداف الرحلة , فيقول انه ذاهب لبحث علمي يتعرف به على مصير السجناء في سيبريا . كل هذه الاشياء مجتمعة لم تكن تُصدق من قبل اصدقائه , وقالوا انها هزيمة عاطفية وخيبة أمل وفشل في علاقة عاطفية مع الشابة الشقراء ذات السادسة والعشرين ربيعا ً , المتزوجة بموظف والام لطفل , والتي تعرف عليها عام 1889م , في احد الصالونات واسمها " ليديا أفيلوفا " وها هو تشيخوف يتنقل من عربة لاخرى ومن قطار لاخر مصرا ان يستسلم لارادته الداخلية لاشباع ذاته , وقد اعترف "تشيخوف" ان الرحلة الى "جزيرة ساخالين " تمثل جهدا ً جسديا ً وفكريا ً لستة أشهر طويلة , ولكنها المكان الوحيد من الامكنة النادرة بل الوحيدة التي يتمكن فيها الكاتب أن يدرس الانسان بعمق في مستوطنة يسكنها مجرمون , فهي مكان لا يطاق من الآلام , فالذهاب الى "ساخالين" يجب أن يكون فرضا ً كما يذهب الاتراك الى مكة ,وأن كل واحد منا مسؤول عن معاناة المسجونين هناك , قبل السجانون , وما يؤسفني ان اكون انا من يذهب ليطلع هناك وليس احد اخر اكثر اهلية في إيقاض إهتمام المجتمع تلك أقوال "تشيخوف" , قرر "تشيخوف" أن يدرس الحياة اليومية لسجناء الجزيرة" "ساخالين" بشكل علمي منهجي ,باحثا في الكتب والمراجع التي تعالج تلك المشكلة , وساعدته في نسخ بعض المقاطع الاساسية في الكتب "ماريا وصديقاتها والتي يعيّنها لهن "تشيخوف " من مكتبة "روميا نتسف" في حين اوكل "الكسندر"في التنقيب حول نفس الموضوع في الصحف القديمة بمدينة "بطرسبرغ" 2 وبجمع هذا الكم الهائل من المعلومات التي تجعل من بحثه صادقا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بيرونيكوف جيورجي : أنطوان تشيخوف , مصدر سابق , ص42 .
2 ينظر . ترويا هنري : تشيخوف , مصدر سابق , ص159 ....ص161 .
وبهذا يكون تشيخوف ( وقد امتلأ بالتقاريير والاحصائيات ,يؤكد انه لم يعد كاتبا ً ولكنه جغرافي وجيولوجي وعالم ارصاد جوية وعالم سلالات وانه يشكو من مرض جديد هو "الهوس السخاليني " )1 . قابل في رحلته هذه كثير من السجناء , وتعرف على ما اقترفوه من جرائم والمظلومين بينهم كثر ,وقا تشيخوف "لا يوجد سجين او مستوطن في جزيرة سخالين لم يتحدث معي " دارسا ً اعماقهم ودواخلهم النفسية دراسة مستفيضة , وقد احزنه بعمق معاملة السجانين القاسية والظالمة لكافة السجناء في الجزيرة بالاضافة الى تجاوزات ادارات السجون , وتعرض السجناء للاذلال والضروف المنحطة والقذرة التي تعيشها النساء والاطفال , ورجع الى موسكو بكم هائل من المعلومات الواقعية التي تفيده في كتابة رواياته ومسرحياته وقصصه القصيرة . وفي ليلة من ليالي (سخالين) ومعاون الشرطة برفقته , دعاه الاخير لزيارة بيوت الدعارة ليقوم بجولة في المباغي , فما رآه اكثر من مقزز وجديد ومفاجء بالنسبة لتشيخوف , والذي أدهشه هو مستوى الابتذال الذي وصلن اليه نزيلات المواخير من الانحطاط الاخلاقي وللامبالاة , فيبيعوهن ويشتروهن ويغرقوهن في الخمر , وهن كالنعاج بله غير مباليات , كل شئ فيهن مدنس 2 , بالاضافة الى اطلاعه على تلك البيوت التي تحتضن البغي هنالك سجينات يمارسن البغاء , بل حتى من بينهن نساء لم تكن اصلا مهنتهن لكنهن التحقوا بازواجهن السجناء (وكانت كلتا الفئتين تلجأ الى الدعارةلتقيم أودها , وكان السجانون يحتفضون لانفسهم بأفتاهن , وباكثرهن جاذبية في حين تترك الباقيات للسجناء , وكان بيع امهات فتياتهن الصغيرات الى مستوطنين أغنياء أو مراقبين)2 .....ومنهن من مارسن البغاء وهن في التاسعة من عمرها وبينهن امهات فتحن بيوت للدعارة خاص ببناتهن . ورجع تشيخوف منهكا بعد سبعة اشهر من البحث العلمي والتقصي والغور في اعماق النفس البشرية , وكل ما شاهده وبحث فيه ملتصقا ً بذاكرته , ليحول قسم كبير منها من الواقع الاجتماعي الى واقع مسرحي يكتنفه الجمال وعند وصوله موسكو عكف على تقاريره يشجب فيها تجاوزات ادارة السجون وأذلال السجناء وظروف الحياة التعسة المنحطة غير الادمية التي تعيشها النساء والاطفال , وكان ذلك واضحا في اقاصيصه اللاحقة , وعند رجوعه الى موسكو , أخذ يشكو بصداع شديد واوجاع في الراس شديدة واشتد عليه السعال وارهاق عام في جسمه , وخفقان في قلبه , بعدها ذهب في رحلة اخرى شملت كل من نابولي وفلورنسا وبولونيا وايطاليا وروما , بعدها زار فرنسا ورجع موسكو وكتب عدة روايات وقصص وكتب بعدها مسرحياته الشقيقات الثلاثة, والخال فانيا والنورس , ومسرحية بستان الكرز الذتي وافاه الاجل قبل ان يشاهد عرضها 3. في عام 1904 توفى تشيخوف وقال قبل موته انا مشرف على الموت , زرقه الطبيب بحقنة تهدئه وكاس من الشمبانيا , ثم ابتسم وقال لم اشربها من زمن ,بعدها توقف نفسه ونام بسلام كالطفل ونقلت جثته الى مقبرة نوفوديفيتشي بجانب والده
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ترويا هنري : تشيخوف , المصدر السابق, ص161
2 . ينظر .بيرونيكوف جيورجي: انطوان تشيخوف , مصدر سابق , ص227 .
(3) ترويا هنري : تشيخوف , المصدر السابق , ص176 ....180.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق