الخفاش : قصة قصيرة
( لابد من توفر حسن النوايا عندما نقرأ هذه القصة )
اه ...أجل للمرة الثانية التي تراود الفكرة ذهن البغل( ترودي) :
_ لاأحد يصبح عظيما في بلده
كان اهل القرية يلقبونه بالبغل ، ويضربون المثل فيه فيقولون فكهين ساخرين :
_ أغبى من ترودي
وسبب تسميته ترودي مجهول ، لكن هذا لايهم فالاسم هو لمجرد تمييزه عن باقي الأقران،هذه الفكرة الشاحبة كانت تثير فيه عواطف مختلفة ، فهو دائما معلق بحلم مائل ان يصبح عظيما ، يوقظ في اعماقه تمنيات واحدة تلو الواحدة ، تنتزعه من بغوليته كما ينتزع نسيم المساء عطر الزهور.
من هذا الحلم الوردي تنبثق حقاْ نفحة سلوكه ، الا ماكان يزداد به شعورا ، ويسبب له الشقاء ، عندما لايبقى ثمة شئ يفعله ، وهذا يرمز له لنهاية كل شئ بالنسبة له ، عندئذ ينتابه شعور يستحيل ان يصبح عظيماْ ، كما يستحيل ان تبقى قطرة الماء كروية عندما تسقط على الارض .
ربما كان في السابعة من عمره ، كان فتى صغير ، يرتدى جلبابا سماويا اشتراه له ابوه من سوق القامشلي ، مازال يذكر دلك حتى الان ، عنما اتكأ على حجر في فناء الحوش ، وخطرت في فراغ راسه تلك الفكرة ، كان يجلس بالقرب من والده وينظر الى السماء ، يراقب الخفافيش تقبل وتدبركالأشباح في هالة ضوء القمر وتسقط فجأة في الظلمة ، وحين تتلاشى تماما يسود تفكيره ارتباك مجهول ، ويشعر قلبه بكثير من الهدوء حين تعود الخفافيش من جديد ، كان هذا المنظر في الصيف اشد فتنه ، وعندئذ تبدو تلك الفكرة براقة بصورة خاصة ، لكأنها تلك الكائنات الشيطانية هي من اوحت اليه بذلك .
كان يحب المضي الى المسجد ، فقد كان لديه انطباع دائم ان الجامع ملئ بالانشراح، على حين انه في الواقع خالي منها ،لعل هذا الأنطباع من الجمع بين الانشراح والمسجد ، قد انبثق من فكرة الجمع بين العظمة والخفاش ، فكان يمضي الى المسجد كلما أتيحت له الفرصة ، ولعل حبه الشديد للمسجد هو الذي يجعله يتذكر الخفاش.
ذات يوم ذهب الى صلاة الجمعة ،ربما كان قد بلغ العشرون من العمر ، الجميع هنا ، يصغون باستمتاع الى الامام ،هو رجل مبارك لا تطأ قدمه الارض قبل ان يكبر لله ولا يخطو خطوة دون بسم الله ، كل كلماته حكم ومواعظ ، يعطيها وقع في النفس لحيته التي اطالها حتى لامست شعر عانته ، حليق الشارب ، يرتدى نصف دشداشة رثة ، ويضع على رأسه خرقة بيضاء متسخة ، هذا كله من شدة الزهد في الدنيا والتقوى بالايمان .
بعد ان انهى خطبته اشار الى ترودي باصبع ان اقترب ، اندهش ترودي من دعوة الشيخ ، وقدم نحوه راكضا ، بينما تجمهر بعض المصلين يتدافعون عند مدخل المسجد ، وينصتون باصغاء مادين رقابهم نحو الشيخ ، كانوا متجهمين للغاية ، والجميع يفكر ، وكل على طريقته ،وهم منشغلون على معرفة ماذا يريد الشيخ من البغل ترودي ، والبعض القليل منهم يعتقد انه لايجوز سماع ذلك ، وكانوا يفعلون ذلك على طيب خاطر .
خاطب الشيخ ترودي بكل احترام وهدوء :
_ ايها الطيب ترودي عليّ ان اقول لك شيئاْ
هز ترودي برأسه مفسحاْ المجال للشيخ ان يتابع حديثه :
_ علي ّ ان اقول لك بضع كلمات ، ولكن يصعب لفظها ، ايها الحبيب ترودي ، اذا قارنا الانسان بالحيوان فلم تجد تلك الفروق الشاسعة بينهم ، فالكل متوحش ، ويحب اكل اللحوم ، واذا كنت تريد ان تكون عظيما لابد ان تكون مما يقتلون وياكلون لحوم ضحيتهم
في بداية الحديث ابتسم ترودي ابتسامة خفيفة ، لكن نظرته اصبحت اكثر حدة وقساوة ، وهاهو الان يتجهم تدريجيا حتى اصبح وجهه اسود.لكأن الخفاش النائم في داخله استيقظ ، ففتح عينيه مندهشا واخذ يبتسم بانشراح ، وهز راسه موافقا ، وهو يسأله بغباء:
_ هل يجوز اكل لحوم البشر ؟
_ تريد ان تقول هذا الشئ غير صحيح ؟ نعم كل العظماء يأكلون لحم البشر
ادرك ترودي الأن لماذا ينظر اليه الأطفال بتلك العيون الخائفة ،نهض من مكانه بسرعة ، ولكن ذلك الهيكل الادمي قد هرب الأنسان من داخله ولم يبقى له اي اثر ، اصبح الان عضوا من أعضاء هذه العصابة ، التي تاكل لحم البشر ، ويخافون في الوقت نفسه ان ياكلهم احد ما .
هنا في الجامع علم احد اسرار العظمة ، والأسرار اثقال حقيقية فوق الجسم ،تصبب العرق من وجهه بغزاره ، ساء وضعه ،لكنه مصمم -مهما كلفه الامر من ثمن ، مصمم ان يسمع افواه الناس تهتف بذل:
- ترودي العظيم
هذه الفكره بعثت فيه النشوه ، انها المخرج الوحيد ، كان متكأْ على حجر في الحوش ، في السماء القمر الربيعي معلق ، وضاء ووديع ، يسكب ضؤه الفضي على شجرات الصفصاف ، في الحوش نسمة خفيفة منعشة ، كل شئ عذب ، كل شئ يهوم في حركة فاترة ، تحت الهلال كانت نجمة جنيّة تبتسم له ،تحت القمر وفوق شجرة الصفصاف تقبل الخفافيش وتدبر كالاشباح ، تلك المخلوقات الخارقة هي امله كلما فكر .
في الصباح التالي وقبل لن تبزغ الشمس وتفتح الابواب ، كانت ام ترودي تبكي ، ياله من منظر مرعب وكئيب وحزين ، الأخت اتزع كبدها بعد ان قتلت ، كانت الام تبكي بصمت ، وترودي يحاول اقناعاها ان تكف عن البكاء، دموع الام كانت تثير في داخله شيئا من تانيب الضمير ، لكن لماذا فعل ذلك مادام عنه شئ من الضمير ؟
الأخ اكل لحم اخته ، الام نعرف ذلك لكنها لم تقل شيئا ، وكانت تكتفي بالبكاء ، ربما كانت تعتقد انه لايجوز فعل الا هذا
بقلم :
فؤاد حسن محمد -جبلة- قبو
( لابد من توفر حسن النوايا عندما نقرأ هذه القصة )
اه ...أجل للمرة الثانية التي تراود الفكرة ذهن البغل( ترودي) :
_ لاأحد يصبح عظيما في بلده
كان اهل القرية يلقبونه بالبغل ، ويضربون المثل فيه فيقولون فكهين ساخرين :
_ أغبى من ترودي
وسبب تسميته ترودي مجهول ، لكن هذا لايهم فالاسم هو لمجرد تمييزه عن باقي الأقران،هذه الفكرة الشاحبة كانت تثير فيه عواطف مختلفة ، فهو دائما معلق بحلم مائل ان يصبح عظيما ، يوقظ في اعماقه تمنيات واحدة تلو الواحدة ، تنتزعه من بغوليته كما ينتزع نسيم المساء عطر الزهور.
من هذا الحلم الوردي تنبثق حقاْ نفحة سلوكه ، الا ماكان يزداد به شعورا ، ويسبب له الشقاء ، عندما لايبقى ثمة شئ يفعله ، وهذا يرمز له لنهاية كل شئ بالنسبة له ، عندئذ ينتابه شعور يستحيل ان يصبح عظيماْ ، كما يستحيل ان تبقى قطرة الماء كروية عندما تسقط على الارض .
ربما كان في السابعة من عمره ، كان فتى صغير ، يرتدى جلبابا سماويا اشتراه له ابوه من سوق القامشلي ، مازال يذكر دلك حتى الان ، عنما اتكأ على حجر في فناء الحوش ، وخطرت في فراغ راسه تلك الفكرة ، كان يجلس بالقرب من والده وينظر الى السماء ، يراقب الخفافيش تقبل وتدبركالأشباح في هالة ضوء القمر وتسقط فجأة في الظلمة ، وحين تتلاشى تماما يسود تفكيره ارتباك مجهول ، ويشعر قلبه بكثير من الهدوء حين تعود الخفافيش من جديد ، كان هذا المنظر في الصيف اشد فتنه ، وعندئذ تبدو تلك الفكرة براقة بصورة خاصة ، لكأنها تلك الكائنات الشيطانية هي من اوحت اليه بذلك .
كان يحب المضي الى المسجد ، فقد كان لديه انطباع دائم ان الجامع ملئ بالانشراح، على حين انه في الواقع خالي منها ،لعل هذا الأنطباع من الجمع بين الانشراح والمسجد ، قد انبثق من فكرة الجمع بين العظمة والخفاش ، فكان يمضي الى المسجد كلما أتيحت له الفرصة ، ولعل حبه الشديد للمسجد هو الذي يجعله يتذكر الخفاش.
ذات يوم ذهب الى صلاة الجمعة ،ربما كان قد بلغ العشرون من العمر ، الجميع هنا ، يصغون باستمتاع الى الامام ،هو رجل مبارك لا تطأ قدمه الارض قبل ان يكبر لله ولا يخطو خطوة دون بسم الله ، كل كلماته حكم ومواعظ ، يعطيها وقع في النفس لحيته التي اطالها حتى لامست شعر عانته ، حليق الشارب ، يرتدى نصف دشداشة رثة ، ويضع على رأسه خرقة بيضاء متسخة ، هذا كله من شدة الزهد في الدنيا والتقوى بالايمان .
بعد ان انهى خطبته اشار الى ترودي باصبع ان اقترب ، اندهش ترودي من دعوة الشيخ ، وقدم نحوه راكضا ، بينما تجمهر بعض المصلين يتدافعون عند مدخل المسجد ، وينصتون باصغاء مادين رقابهم نحو الشيخ ، كانوا متجهمين للغاية ، والجميع يفكر ، وكل على طريقته ،وهم منشغلون على معرفة ماذا يريد الشيخ من البغل ترودي ، والبعض القليل منهم يعتقد انه لايجوز سماع ذلك ، وكانوا يفعلون ذلك على طيب خاطر .
خاطب الشيخ ترودي بكل احترام وهدوء :
_ ايها الطيب ترودي عليّ ان اقول لك شيئاْ
هز ترودي برأسه مفسحاْ المجال للشيخ ان يتابع حديثه :
_ علي ّ ان اقول لك بضع كلمات ، ولكن يصعب لفظها ، ايها الحبيب ترودي ، اذا قارنا الانسان بالحيوان فلم تجد تلك الفروق الشاسعة بينهم ، فالكل متوحش ، ويحب اكل اللحوم ، واذا كنت تريد ان تكون عظيما لابد ان تكون مما يقتلون وياكلون لحوم ضحيتهم
في بداية الحديث ابتسم ترودي ابتسامة خفيفة ، لكن نظرته اصبحت اكثر حدة وقساوة ، وهاهو الان يتجهم تدريجيا حتى اصبح وجهه اسود.لكأن الخفاش النائم في داخله استيقظ ، ففتح عينيه مندهشا واخذ يبتسم بانشراح ، وهز راسه موافقا ، وهو يسأله بغباء:
_ هل يجوز اكل لحوم البشر ؟
_ تريد ان تقول هذا الشئ غير صحيح ؟ نعم كل العظماء يأكلون لحم البشر
ادرك ترودي الأن لماذا ينظر اليه الأطفال بتلك العيون الخائفة ،نهض من مكانه بسرعة ، ولكن ذلك الهيكل الادمي قد هرب الأنسان من داخله ولم يبقى له اي اثر ، اصبح الان عضوا من أعضاء هذه العصابة ، التي تاكل لحم البشر ، ويخافون في الوقت نفسه ان ياكلهم احد ما .
هنا في الجامع علم احد اسرار العظمة ، والأسرار اثقال حقيقية فوق الجسم ،تصبب العرق من وجهه بغزاره ، ساء وضعه ،لكنه مصمم -مهما كلفه الامر من ثمن ، مصمم ان يسمع افواه الناس تهتف بذل:
- ترودي العظيم
هذه الفكره بعثت فيه النشوه ، انها المخرج الوحيد ، كان متكأْ على حجر في الحوش ، في السماء القمر الربيعي معلق ، وضاء ووديع ، يسكب ضؤه الفضي على شجرات الصفصاف ، في الحوش نسمة خفيفة منعشة ، كل شئ عذب ، كل شئ يهوم في حركة فاترة ، تحت الهلال كانت نجمة جنيّة تبتسم له ،تحت القمر وفوق شجرة الصفصاف تقبل الخفافيش وتدبر كالاشباح ، تلك المخلوقات الخارقة هي امله كلما فكر .
في الصباح التالي وقبل لن تبزغ الشمس وتفتح الابواب ، كانت ام ترودي تبكي ، ياله من منظر مرعب وكئيب وحزين ، الأخت اتزع كبدها بعد ان قتلت ، كانت الام تبكي بصمت ، وترودي يحاول اقناعاها ان تكف عن البكاء، دموع الام كانت تثير في داخله شيئا من تانيب الضمير ، لكن لماذا فعل ذلك مادام عنه شئ من الضمير ؟
الأخ اكل لحم اخته ، الام نعرف ذلك لكنها لم تقل شيئا ، وكانت تكتفي بالبكاء ، ربما كانت تعتقد انه لايجوز فعل الا هذا
بقلم :
فؤاد حسن محمد -جبلة- قبو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق