ودمشق تنام في النهار
كان الوقت 11 آذار
وكان هذا الربيع الأخير
في هذا المساء صحا الشبح الذي كنت لا أراه... عنيفا وأنا بين فكي الجنيات والعرافين ،وكانت دمشق صبية ينسدل شعرها الأسود على كتفيها ،فيحوم ضوءها مثل هالة القمر ،تعرج من ضيائها الآلهة نحو السماء ، فتغزوني أفكار لا تشبه الثرثرة إلا كثيرا ، النساء في كل العالم لا يشبهونك إلا قليلا يا دمشق، إلا قليلا، يقينا كانت جبهتك مجعدة بعض الشيء ،وعيناك ذابلتان يشكل حزين .
هنا أيضا يسأل أبي :
- ماذا فعلتم بزريعة دمشق .
مال أبي قليلا إلى الأسفل ونظر إلى الزريعة ،وقال :
- أعتقد أن ثمة شخص مهين وحقير فعل ذلك.
أخذت أتأمل دمشق من رأسها إلى أسفل قدميها ،مددت يدي محاولا الوصول إلى يدها ،كانت عيناها دامعتين ، وكانتا تعبران بوضوح عن حنق شديد ،دوت قذيفة في الجو فارتعبت فجأة ، كان الانفجار يتشظى في أسفل شطر الزريعة ،كانت منذهشة لأن الزريعة تم تخريبها ، لم ترى فيها شجرة ياسمين ، أين تغريد الطيور ،أين راح المرج،أين زينة الألوان،كل شيء قد ذهب، وبدل من ذلك خربة ممتدة أيقظها كابوس ،تائهة بين بنايات شائهة ،جذع أسود متفحم في كومة تراب منهكة مثل الأنقاض.
على مسافة غير بعيدة تقف دمشق على طرف الرصيف ، خائرة ،يسيل عليها الموت من الشرفات المغلقة بإحكام ،كان الشتاء قد أوشك على النهاية ، وكان الربيع يتهيأ للقدوم ،الصقيع مازال يتراكم في الأظلة كالأشباح .
لكن دمشق وحيدة في هذا العالم ،فقد أخبرتها والدتها أن العواصم لا تتشابه ،وأن الياسمين لا يزهر إلا تحت سمائها ،قررت أن تقطع الشارع ، وضايقها أنها القدر يتحالف ضدها ، ولأنها كانت على دراية بذلك ،شعرت أن إحدى طرق الحب لزريعتها ، أن تعيد إليها النباتات والتعريشات .
نظرت إلى الأعلى ،فاختفت آذان وعيون من كانوا يراقبونها من خلف الثقوب والشقوق ،كما لو أن شبحا طردهم من خستهم ،كل مساء تقريبا ، تخرج دمشق من وجهها وتصرخ بقوة :
- لماذا خربتم زريعتي .
في مثل هذه الصرخة جفل طفل ،قال والدي :
- أغلقوا النوافذ وأسدلوا الستائر كي لا نسمع ولا نرى
لم يجبها أحد ،الطفل يبكي بصوت أرتعش له الإسمنت ، أغمضت دمشق عينيها ، وكاد الدمع يلمع على وجنتيها ،على الرغم أنها لم تبكي ،راحت تسترق السمع ،بصرامة ،إلى الطفل الذي كان ملقى على أرض الزريعة ، وقد سكر من الزعيق حتى النهاية.
بقيت كل الوجوه متخفية لا وجود لها ، فبالنسبة لهم الحادثة سواء ،اقتربت دمشق نحو الطفل ،البكاء مازال يدور مترافقا مع سكون يهمد عندما ينقطع النفس ،إنه طفل الليل الأسود الذي أتي من الدناءة ،عاريا ،لا أم تتمدد بجانبه ،إن العين ترتبك عندما تقع على لقيط،وقفت دمشق جامدة أمام الطفل ،وأول ما شعرت به أنها تسقط إلى هوة لا تدرك مداها .
دارت حوله كامرأة تسير في الحلم ،هكذا بدت لمن ينظر إليها ،تطأ الأرض في خطا وئيدة ، عزيف الجن وأنفاس أشباح وهذا الطفل الذي بدا جسمه متعرج ومنفوخ بشكل مخيف ،لا تستطيع أن تميزه في البداية ،يداه رفيعتان لها مخالب ،وشعر كأنه أشواك ،وعين واحة متصالبة وسط جبهته، حاول المسخ أن يوثق وثاقها برباط لا يرى ،همت أن تلمس المسخ ،هنا صرخ شاب يحدق من النافذة الخلفية :
- دمشق لا تحضني المسخ
سقط الشاب بقبضة فولاذية في الهواء السقيم ،ومع هذا التهاوي الذي يفصله عن تيار الحياة، لم ينحسر تنبيهه وهو يلج سرداق الموت،كانت دمشق تراه يقترب منها شيئا فشيئا ، وتنبيهه يتدفق في أصقاع الزريعة المحبطة الأشجار،بقي صوته راعشا في الأعلى ،حارا ونديا ،بينما جثته كانت تطقطق مثل الحطب، جاثمة فوق الطفل المسخ .
ساد بعض الصمت ، مسكت يده وضمتها إلى جهة قلبها،ومسحت باليد الأخرى شعرة ،وجدت نفسها فتاة صغيرة تبكي :
- هل أنت بخير
انطبع على محياه شعور بالرضا ،سمعت صوته الواهن:
-كل شيء دونك خير يا دمشق
وقفت دمشق طائشة ، وهي تراقب خيالات فوق الحدس ،تحول جسد المسخ دفعة واحدة إلى عقارب وأفاعي وجرذان وصراصير ،هاجمت جثة الشاب الذي ضحى بحياته من أجلها ،في الأعلى ثمة غرف مغلقة النوافذ مضاءة بمصابيح الكيروسين ، ومليئة بالسكان ،قال والدي :
- اجلسوا هنا ولا تحركوا ساكنا
سألته :
- لماذا ؟؟
نظر إلي بشفقة ،وأدرك أني مستعد للتضحية من أجلها ،لكنها مجرد أمنية،زم شفتيه يشكل حازم :
- أنت لست مقاتلا ...الأمر بحاجة إلى هجمة واحدة وينتهي الأمر.
قلت بحماسة :
- لكن أستطيع مساعدتها
هز كتفيه بغضب "
- أنت لا تعرف شيئا عن هذا ..سنموت في الحال إذا فعلنا ذلك
اتكأت‘ على الجدار ،كان هناك صمت مطبق رغم الضجيج الهائل في الخارج ،مبعثه عدم الاكتراث ،ولكوني شاب كنت مضطربا أكثر ، كنت أدرك معنى "دمشق" ، تقدمت بقليل من الثقة نحو النافذة ،واختلست نظرة إلى القاع ،أصوات قريبة جدا ، الضعف في النور يفقدني التمييز ، بدت لي كائنات تركض هنا وهناك،دمشق تمسك عصا غليظة بكلتا قبضتيها،عيناها تتسعان ،ومثبتتان بتركيز على المسخ،الذي فتح فمه وأفرغه من ما تبقى من الآفات المخزونة فيه .
الأصوات تزيد علوا وهياجا ، والكل يراقب فقط ،بينما يقتربون من النوافذ ثم يواصلون المراقبة من نفس المسافة ،المعركة بدت غير عادلة ،فيما والدي فرش سجادة العبادة ،لا بد أنه ورث ذلك عن جده، فهو دائما يصلي من أجل رد القضاء ،فيما يجدر به أن ينجز فروضه في حماية دمشق ،فمع مزيدا من الصلاة كان يشعر بمزيد من الثقة أنه فعل كل ما بوسعه لحمايتها .
فجأة أبطأت أمي ملامح وجهها واندفعت بسرعة في الاتجاه الذي يشير إليه إصبعها ، ثمة عقرب ذيله معقوف يدنو ببطء من كاحل والدي ،خبطت عليه قدمها بكل قوتها ، سمعت قشرته الكيتينية تنكسر ،لكنه لم يمت ، التفت والدي إلى الخلف مسك العقرب بكلتا إصبعيه ،وضعه في فمه ،وتابع صلاة الفجر ،كانت يدا دمشق تنزفان لكن جروحها ليست ثخينة ،وقفت متكأة على عصاها ،فيما جمال السماء يشرق فوقها، زحفت الحشرات إلى جحورها ،أحنت دمشق جفونها ونامت في النهار ،منتظرة قدوم المساء .
فؤاد حسن محمد- جبلة- سوريا
كان الوقت 11 آذار
وكان هذا الربيع الأخير
في هذا المساء صحا الشبح الذي كنت لا أراه... عنيفا وأنا بين فكي الجنيات والعرافين ،وكانت دمشق صبية ينسدل شعرها الأسود على كتفيها ،فيحوم ضوءها مثل هالة القمر ،تعرج من ضيائها الآلهة نحو السماء ، فتغزوني أفكار لا تشبه الثرثرة إلا كثيرا ، النساء في كل العالم لا يشبهونك إلا قليلا يا دمشق، إلا قليلا، يقينا كانت جبهتك مجعدة بعض الشيء ،وعيناك ذابلتان يشكل حزين .
هنا أيضا يسأل أبي :
- ماذا فعلتم بزريعة دمشق .
مال أبي قليلا إلى الأسفل ونظر إلى الزريعة ،وقال :
- أعتقد أن ثمة شخص مهين وحقير فعل ذلك.
أخذت أتأمل دمشق من رأسها إلى أسفل قدميها ،مددت يدي محاولا الوصول إلى يدها ،كانت عيناها دامعتين ، وكانتا تعبران بوضوح عن حنق شديد ،دوت قذيفة في الجو فارتعبت فجأة ، كان الانفجار يتشظى في أسفل شطر الزريعة ،كانت منذهشة لأن الزريعة تم تخريبها ، لم ترى فيها شجرة ياسمين ، أين تغريد الطيور ،أين راح المرج،أين زينة الألوان،كل شيء قد ذهب، وبدل من ذلك خربة ممتدة أيقظها كابوس ،تائهة بين بنايات شائهة ،جذع أسود متفحم في كومة تراب منهكة مثل الأنقاض.
على مسافة غير بعيدة تقف دمشق على طرف الرصيف ، خائرة ،يسيل عليها الموت من الشرفات المغلقة بإحكام ،كان الشتاء قد أوشك على النهاية ، وكان الربيع يتهيأ للقدوم ،الصقيع مازال يتراكم في الأظلة كالأشباح .
لكن دمشق وحيدة في هذا العالم ،فقد أخبرتها والدتها أن العواصم لا تتشابه ،وأن الياسمين لا يزهر إلا تحت سمائها ،قررت أن تقطع الشارع ، وضايقها أنها القدر يتحالف ضدها ، ولأنها كانت على دراية بذلك ،شعرت أن إحدى طرق الحب لزريعتها ، أن تعيد إليها النباتات والتعريشات .
نظرت إلى الأعلى ،فاختفت آذان وعيون من كانوا يراقبونها من خلف الثقوب والشقوق ،كما لو أن شبحا طردهم من خستهم ،كل مساء تقريبا ، تخرج دمشق من وجهها وتصرخ بقوة :
- لماذا خربتم زريعتي .
في مثل هذه الصرخة جفل طفل ،قال والدي :
- أغلقوا النوافذ وأسدلوا الستائر كي لا نسمع ولا نرى
لم يجبها أحد ،الطفل يبكي بصوت أرتعش له الإسمنت ، أغمضت دمشق عينيها ، وكاد الدمع يلمع على وجنتيها ،على الرغم أنها لم تبكي ،راحت تسترق السمع ،بصرامة ،إلى الطفل الذي كان ملقى على أرض الزريعة ، وقد سكر من الزعيق حتى النهاية.
بقيت كل الوجوه متخفية لا وجود لها ، فبالنسبة لهم الحادثة سواء ،اقتربت دمشق نحو الطفل ،البكاء مازال يدور مترافقا مع سكون يهمد عندما ينقطع النفس ،إنه طفل الليل الأسود الذي أتي من الدناءة ،عاريا ،لا أم تتمدد بجانبه ،إن العين ترتبك عندما تقع على لقيط،وقفت دمشق جامدة أمام الطفل ،وأول ما شعرت به أنها تسقط إلى هوة لا تدرك مداها .
دارت حوله كامرأة تسير في الحلم ،هكذا بدت لمن ينظر إليها ،تطأ الأرض في خطا وئيدة ، عزيف الجن وأنفاس أشباح وهذا الطفل الذي بدا جسمه متعرج ومنفوخ بشكل مخيف ،لا تستطيع أن تميزه في البداية ،يداه رفيعتان لها مخالب ،وشعر كأنه أشواك ،وعين واحة متصالبة وسط جبهته، حاول المسخ أن يوثق وثاقها برباط لا يرى ،همت أن تلمس المسخ ،هنا صرخ شاب يحدق من النافذة الخلفية :
- دمشق لا تحضني المسخ
سقط الشاب بقبضة فولاذية في الهواء السقيم ،ومع هذا التهاوي الذي يفصله عن تيار الحياة، لم ينحسر تنبيهه وهو يلج سرداق الموت،كانت دمشق تراه يقترب منها شيئا فشيئا ، وتنبيهه يتدفق في أصقاع الزريعة المحبطة الأشجار،بقي صوته راعشا في الأعلى ،حارا ونديا ،بينما جثته كانت تطقطق مثل الحطب، جاثمة فوق الطفل المسخ .
ساد بعض الصمت ، مسكت يده وضمتها إلى جهة قلبها،ومسحت باليد الأخرى شعرة ،وجدت نفسها فتاة صغيرة تبكي :
- هل أنت بخير
انطبع على محياه شعور بالرضا ،سمعت صوته الواهن:
-كل شيء دونك خير يا دمشق
وقفت دمشق طائشة ، وهي تراقب خيالات فوق الحدس ،تحول جسد المسخ دفعة واحدة إلى عقارب وأفاعي وجرذان وصراصير ،هاجمت جثة الشاب الذي ضحى بحياته من أجلها ،في الأعلى ثمة غرف مغلقة النوافذ مضاءة بمصابيح الكيروسين ، ومليئة بالسكان ،قال والدي :
- اجلسوا هنا ولا تحركوا ساكنا
سألته :
- لماذا ؟؟
نظر إلي بشفقة ،وأدرك أني مستعد للتضحية من أجلها ،لكنها مجرد أمنية،زم شفتيه يشكل حازم :
- أنت لست مقاتلا ...الأمر بحاجة إلى هجمة واحدة وينتهي الأمر.
قلت بحماسة :
- لكن أستطيع مساعدتها
هز كتفيه بغضب "
- أنت لا تعرف شيئا عن هذا ..سنموت في الحال إذا فعلنا ذلك
اتكأت‘ على الجدار ،كان هناك صمت مطبق رغم الضجيج الهائل في الخارج ،مبعثه عدم الاكتراث ،ولكوني شاب كنت مضطربا أكثر ، كنت أدرك معنى "دمشق" ، تقدمت بقليل من الثقة نحو النافذة ،واختلست نظرة إلى القاع ،أصوات قريبة جدا ، الضعف في النور يفقدني التمييز ، بدت لي كائنات تركض هنا وهناك،دمشق تمسك عصا غليظة بكلتا قبضتيها،عيناها تتسعان ،ومثبتتان بتركيز على المسخ،الذي فتح فمه وأفرغه من ما تبقى من الآفات المخزونة فيه .
الأصوات تزيد علوا وهياجا ، والكل يراقب فقط ،بينما يقتربون من النوافذ ثم يواصلون المراقبة من نفس المسافة ،المعركة بدت غير عادلة ،فيما والدي فرش سجادة العبادة ،لا بد أنه ورث ذلك عن جده، فهو دائما يصلي من أجل رد القضاء ،فيما يجدر به أن ينجز فروضه في حماية دمشق ،فمع مزيدا من الصلاة كان يشعر بمزيد من الثقة أنه فعل كل ما بوسعه لحمايتها .
فجأة أبطأت أمي ملامح وجهها واندفعت بسرعة في الاتجاه الذي يشير إليه إصبعها ، ثمة عقرب ذيله معقوف يدنو ببطء من كاحل والدي ،خبطت عليه قدمها بكل قوتها ، سمعت قشرته الكيتينية تنكسر ،لكنه لم يمت ، التفت والدي إلى الخلف مسك العقرب بكلتا إصبعيه ،وضعه في فمه ،وتابع صلاة الفجر ،كانت يدا دمشق تنزفان لكن جروحها ليست ثخينة ،وقفت متكأة على عصاها ،فيما جمال السماء يشرق فوقها، زحفت الحشرات إلى جحورها ،أحنت دمشق جفونها ونامت في النهار ،منتظرة قدوم المساء .
فؤاد حسن محمد- جبلة- سوريا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق