الاثنين، 27 أغسطس 2018

همس الموج / قصة قصيرة / صالحة بورخيص/ تونس .,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

١٩ ساعة
قصّة بعنوان: همس الموج
استدعتْهم قريبتهم ليقضّوا عطلة الصيف بجوارها و ذلك كردّ جميل على مساعدات الأب المتواصلة لها بصفتها وحيدة بدون سند.
من أقصى الجنوب الى أقصى الشمال مسافة طويلة تدوم ساعات رغم ذلك فإنّ فرحة الجميع بالسفر لا توصف، حلم طالما تمنّوْه إذ أنّهم سيكتشفون لأوّل مرّة سحر العاصمة بأجوائها المختلفة و مسارحها الأثريّة و أسواقها العتيقة ذات الأنهج الضيّقة المزدحمة كما سيتمتّعون بزرقة البحر و رقصات الأمواج.
شعور بالراحة يداعب مشاعر الأمّ بعد رُوتين أنهك قواها و أذْبلها، شمعة تذوب لتضيء، عطاء متواصل لأسرة سرقت منها جمالها و حيويّتها، قلب الأمّ الرّائع ذاك المحرّك الذي لا يكلّ و لا يملّ يستمدّ قوّته من وقود الصّبر و التّفاني.
بدت هادئة تبْعث ببصرها من نافذة الحافلة، تؤلمها مشاهد الطبيعة الجافة بسبب ندرة الأمطار و قد تمدّد زوجها بقربها يجاذبها الحديث ثم ما لبث أن سافر مع النّعاس. ضربات رأس طفلها الذي لم يتجاوز الثلاث سنوات على صدرها تُقلِقها فتَرْبُت عليه ليعود إلى عالم الأحلام.
تمضي بأفكارها و تطول آمالها بطول المسافة، الحافلة تمخر عباب الطريق و أفكارها تمخر سحر الطبيعة، فكلّما اقتربوا أكثر كانت الطبيعة أجمل، ألوان طيف، وشاح من الخضرة يعلو بساط الأرض تزيّنه الأزاهير يسلب بصرها و يطير به بعيدا عن ضوضاء نفسها يحملها على أجنحته إلى عالم الهدوء.
أيقظتْها بعض التحرّكات في صفوف المسافرين، استفاق الأب، نظر إلى السّاعة بيده، أطلّ من النافذة ثم التفت إلى زوجته : لقد وصلنا هيا استعدّوا.
تململت من مقعدها و قد أنهكها الابن الذي رمى بثقله عليها، حرّكته قليلا: أفق بُني، مدَّ يديْن صغيرتين مثقلتيْن ببقايا نعاس، فتح عينا ثم ألحق الأخرى ليترك المجال للضّوء يخترقهما، كثر لغط الركّاب و هم ينزلون الواحد تلْو الآخر ثم سرعان ما تفرّق كلّ إلى وِجهته.
وصلوا المنزل بعد تعب شديد و كانت الشمس قد مالت نحو المغيب. طرق الزوج الباب و بقي ينتظر، أطلّت امرأة نحيفة بوجه يعلوه الإصفرار، رسمت ابتسامة خفيفة على شفتيْها و انحنت تسلم: ابن عمّي... أهلا... أهلا تفضّلوا بالدخول.
غابت لتأتي بكأس و قارورة ماء وضعتهما فوق طاولة صغيرة ثم بدأت تتجاذب أطراف الحديث معهم، بين الحين و الأخر تلوّح بنظرة مُريبة تجاه الأبناء كأنّها أصيبت بالهلع و قد لاحظت الأمّ غرابة في تصرّفها و فتورا في كلامها. انفلت الطفل من بين يديها، مدّ يده الصغيرة إلى مطفأة السّجائر لكنّ يدا أسرع من الرّيح امتدّت لتخطفها: لا تلمسها، انتبهي لطفلك، ثمّ دخلتْ غرْفتها و غابت إلى الأبد، لا كلام و لا ترحيب و لا طعام عدا قارورة الماء المنتصبة فوق الطاولة تشهد أحداث المسرحيّة.
كلّ شيء تسمّر في مكانه و توقّفت عقارب الزمن عن الدّوران، أفواه مشدوهة و عقول مصدومة، نبض سريع يهزّ القلب، شعور بالقلق، لحظات عصِيبة و مدمِّرة لمشاعرهم جمّدت نظراتهم و أخاط الصّمت أفواههم فلم ينطقوا ببنت شفة، هل كانت تكذب عليهم؟
وسط أجواء من الغضب و الإحباط قرّروا أن لا تُفتح حقائب السّفر فسوف يعودون مع حافلة الفجر من حيث أتوْا.
قبل أن يغادروا رافق الأب أبناءه في جولة ليليّة و غابوا في الزِّحام أمّا هي فشعرتْ بالبحر يناديها، اقتربت من الشاطئ، مسَحتْ دمعة سالت بهدوء ثم نظرت إلى الأمواج المتلألئة الرّاقصة تحت الأنوار تُعانق المصطافين و قد حال حظّها التعيس دون تحقيق لحظات فرح كم تمنّت بلوغها.
تسلّلت من تحت غطاء السّماء نسمات أنعشتها فكشفت عن ساقيها فاسحة المجال للموج يلعب بها.
صالحة بورخيص
التعليقات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق