علي البدر والتحليل النقدي لقصة" جوع " للقاص والناقد محسن الطوخي
1) ألقصة:
لم انتبه على مدى شهر من ارتيادى المكان إلى الكوخ الخشبى الغارق فى الإهمال عند المنعطف. اكتشفته عندما لاحظت صباح اليوم ذلك الرجل الممصوص يعتلى سلماً خشبياً متهالكاً، مستغرقاً فى إزالة الأوساخ والملصقات مع طلاء الكوخ القديم. بوسعى رؤية هيكله الضامر من النافذة المكسوة بسلك مانع للحشرات وهو يمتص لفافته المعلقة بزاوية فمه، ينعقد الدخان فوق رأسه. اكتشفت بعد مرور ساعات أن الكوخ مسكوناً حين تحرك الباب بقدر مايسمح به السلم الخشبى, وبرز رأس امرأة، نادته، فتوقف عن العمل: تعال كل لقمة.
جفف جبهته بظاهر ساعده، ألقى نظرة على الصبى المقعى فى الجوار يعالج خلط المعجون، ومالبث أن عاود عمله. تناثرت بقايا الطلاء القديم، فتوارى رأس المرأة، وبقى الباب موارباً. توقف الرجل وهتف بالصبى: رح كل لقمة. أجاب الصبى دون أن ينظر إليه: لست جوعاناً، واستمر فى خلط المعجون، عاود الرجل عمله فى إزالة الطلاء القديم فتلوث الجو بالغبار.
وبحلول الظهر بدأ الرجل فى سحب المعجون. بدا الكشك بعد إزالة الأوساخ فى هيئة مغايرة، أشبه بلوحة تجريدية وقد لاحت الشقوق والفتحات التى تعرت فى البدن المتآكل. تمر سكين الرجل فتطمس الشقوق وتكسو الخشب المتهرىء بطبقة صقيلة من المعجون. احتكت قدم الرجل بجدار الكوخ، فتح الباب وأطل رأس المرأة : تعال اشرب شاياً، وبلل رأسك. توقفت السكين، واهتز الدلو المعلق بعارضة السلم. لحظة وعادت السكين لسحب المعجون, ثم مالبثت أن توقفت. هتف الرجل بالصبى القابع: هيا انصرف، انتهت نوبة عملك. لم يغير الصبى جلسته، استمر فى خلط المعجون. هتف الرجل بصوت أعلى: انصرف، لم أعد بحاجة إليك. قال الصبى دون أن يرفع رأسه: أريد أن أبقى. تميز الرجل غيظا: قلت انصرف. طارت لطخة المعجون العالقة بحد السكين تجاه الصبى فلوثته، فر الصبى فعبر الطريق واستمر فى العدو للناصية القريبة، وأقعى. ركل الرجل الباب نصف المفتوح بغضب فكاد أن يحطم رأس المرأة. طاشت ضربات السكين فعرت مساحات سبق تكسيتها. نفث الرجل دخان لفافة جديدة، ولم يكف عن استبدالها كلما زوت. والمرأة ماعادت تطل. عند اقتراب الأصيل كان الكوخ يربض مزهواً بكسائة الجديد، صار متأهباً لاكتساب الألوان، بينما نال التعب من الرجل، انحنى عوده، وتلطخت ذراعاه وقمة رأسه بطبقة جيرية من أثر التجليخ. راح يتحرك القهقرى مبتعداً ليلقى نظرة جانبية متفحصة، ساعداه المحمصان يمسحان حبات العرق فيلطخان الوجه. والمرأة بصت بصة أخيرة. التفت الرجل إلى الناصية. كان الصبى لا يزال مقعياً. نفخ الرجل فتوارت المرأة مسرعة. غادر الرجل محنياً تماماً حاملاً سلمه وأدواته. ما أن ابتعد حتى نهض الصبى واقتفى خطواته محتفظاً بمسافة أمان.
( من مجموعة " الضعفاء يموتون " )
2) التحليل النقدي:
عندما تتكرر رُؤيةُ شَيءٍ ما، كَأَن يكون بيتاً أوكوخاً ، فإن التركيزَ أوالتفحص فيه يكون ضعيفاً أو كأنه لم يكن أمام أنظارنا سواء أكان بيتاً رائعاً أو كوخاً قديماً. وعليه فإن الشاخص الذي أمام السارد بحاجة لحركة غير طبيعية أو غير مألوفة لكي يلتفت إليه ويركز وكأنه يعوض ما فاته. " لم أنتبه على مدى شهر من ارتيادي المكان إلى الكوخ الخشبي الغارق في الإهمال عند المنعطف..." وبالتأكيد حالة الوصف هذه للكوخ مبنية على مشاعر سابقة باتت مخزونة في اللاشعور أثارها وهيجها أو أزال الغبار عنها "اكتشافه" ، والإكتشاف بالتأكيد يصاحبه حالة من التركيز والإستغراب. وهكذا يرجع الفضل لأكتشافه ذلك الرجل الممصوص الذي " يعتلي سلماً خشبياً متهالكاً مستغرقاً في إزالة الأوساخ والملصقات مع طلاء الكوخ القديم.". ولكي تكون القصة أكثر إثارة، لابد من تنوع أحداثها أو على الأقل إرتجاع داخلي flash back ولكننا لم نجدها في مفاصل السرد ورغم ذلك استطاع القاص محسن الطوخي شدنا وبحماس لمفاصل السرد. أجل ألمرأة مع الرجل والأخير مع الصبي. رجل على سلم وصبي يساعده وامرأة لم تستطع حتى فتح الباب كاملاً بسبب، وعلى ما يبدو، وضع السلم الذي يعيقه. ومع ذلك امتلكت القصة شداً وإثارة تحفزنا على المواصلة، وهذا يذكرني بقصة همنكواي Ernest Hemingway الشيخ والبحر الذي يستغرق القارب وجهاد صاحبه في الصيد وسط البحر، معظم السرد، حيث ينشَد القاريء منذ البداية حتى آخر جملة في السرد. وقد يكون انشغال المتلقي بفك الرموز أو الطلاسم أحد أسباب هذا الإنشداد في قصتنا هذه. وقد ساد في النص أسلوب الشخص الثالث، بالدرجة الأولى مع حوار مقتضب أو بالحقيقة حوار غريب والسارد هو راوية لمشاهدات أثارته ليراقبها موضوعياً objective observation .
والحوار عادة ينتج من إثنين على الأقل ، وحتى الحوار الداخلي أي حوار مع النفس monologue يتكون من حوار الشخص مع نفسه: " نادته ، فتوقف عن العمل: تعال كل لقمة.". لم يقل حاضر أو يتفوه بكلمة شكر، لكنه توقف عن العمل , والتوقف هنا لغة عميقة وهو جواب باستعمال لغة الجسد language of gestures و يبدو أنه جوابٌ إيجابيٌ مشوب بتردد، فقد " جفف جبهته بظاهر ساعده.." وهذه لحظة تفكير، اعتماداً على نفس اللغة، للشروع في الخطوة القادمة وما عليه سوى التخلص من العائق أي ألصبي، وبالتأكيد ستنمو شكوك لديه عندما يدخل سيده لبيت الإمرأة، فالصبي بالتأكيد لم يسكت بل سينقل ماشاهده للاخرين وقد يسبب هذا إحراجاً للرجل " الممصوص الذي يعتلي سلماً خشبياً متهالكاً..." . ويبدو أنه تريث قليلاً فحاول إشغال نفسه والمرأة تنتظره فألقى " نظرةً على الصبي في الجوار يعالج خلط المعجون، وما لبث أن عاود عمله." فآضطرت المرأة للدخول " بعد أن تنائرت بقايا الطلاء القديم... وبقى الباب موارباً.". وفتحة الباب هنا تعادل بالضبط قولها له : " تعال كل لقمة.". وبالضد ردة فعله ثانية نحو الصبي: " رح كل لقمة.". المرأة تقول: " تعال كل لقمة" وهو يأمر الصبي " رح قل لقمة" وكأنه يقول دعني أتصرف براحتي . والأرجح قالها بعصبية وخشونة و نثبت ذلك بانفعاله وفقده جزء من توازنه حيث توارى رأس المرأة بسبب تناثر " بقايا الطلاء القديم"، بعد أن انتظرته متأملة والباب مفتوح بانتظاره. ولو لم يرغب الرجل بالدخول لقال : لست جوعاناً ، كما قال الصبي. والحقيقة تقول عكس ذلك فالرجل " ممصوص" وهذه صفة نقص إن لم يكن غذائي فإنه نقصُ عاطفةٍ ولحظاتُ راحةٍ واطمئنان. إنه جائع إذن. أما الصبي فَجَوعُهُ لإشباع وإطفاء فضوله جعله يرفض إصرارَ سيدِهِ على ذهابه لأكل لقمة.
ونتساءل... هل تعرفه المرأة سابقاً أم أنه مجرد عامل أجير؟ والإفتراض الثاني وارد. فلو كان يتردد عليها، لجاء وحده وفي غير وقت عمله. وعلينا الآن أن نجد هل دخل وأكل لقمة أم لا؟ " بحلول الظهر، بدا الرجل في سحب المعجون وبدا الكشك بعد إزالة الأوساخ في هيئة مغايرة...." . والمقصور هو الكوخ وربما ورد اسمه بسبب سهو طباعي. إنَّ عملية سحب المعجون تعني حركة، فلا عمل بدون حركة والحركة بدورها تعني اهتزازاً ليده التي هي جزء من جسده، وأيضاً اهتزاز السلم الخشبي المتهالك وأخيراً اهتزاز الدلو المعلق بالسلم. وقد يتبادر إلى الذهن أن اهتزاز الدلو بسبب حركةِ نزولٍ تمهيداً للدخول لبيت المرأة، ولكن بعد التأني نجد أن سببها هو أخذه كمية من المعجون بغرس السكين فيه تمهيداً لسحبه على سطح الكوخ، وبين الأخذ والسحب لحظة: " ...توقف السكين واهتز الدلو المعلق بعارضة السلم. لحظة وعادت السكين لسحب المعجون..." وعليه لم تكن لدينا حركة نزول أبداً. أما النداء هذه المرة فيأتي من أعماقه ولم تكن بدايته منها: " إحتكت قدم الرجل بجدار الكوخ.." حيث فُتِحَ الباب وأطلَّ رأس المرأة فدعته لشرب الشاي، والشاي هنا نتناوله في العادة بعد الأكل وليست قبله وهذا قد يصلح دليلاً على أكله لقمة، لكنه دليل غير حاسم أو كاف على دخوله البيت، فالنهاية خاصة توصلنا لرجل محبط حيث " ... راح يتحرك القهقري". وقد سبب موقف الصبي نبرةَ غضبٍ أوقفته لحظة عن العمل ثم معاودته عندما " اهتز الدلو المعلق بعارضة السلم لحظة وعادت السكين لسحب المعجون ثم ما لبثت أن توقفت..." ليبدو الهتاف غاضباً " هيا انصرف، إنتهت نوبة عملك....". ويستمر تجاهل الصبي وخضوعه للأمر وهومنشغل في خلط المعجون: " إنصرف، لم أعد بحاجة إليك."، ويأتي الرد وبتجاهل وثقة فهو " لم يرفع رأسه . أريد أن أبقى" . وهنا تميز الرجل غيضاً و " طارت لطخة المعجون العالقة بحد السكين باتجاه الصبي فلوثته وفرّ وعَبَرَ الطريق واستمر في العدو للناصية القريبة...". إن الفرار يعكس مدى خوف الصبي من العقاب وهذا يعني أن الرجل كان منفعلاً غاضباً نتيجة عدم تحقيق رغبته في الدخول لبيت المرأة وهنا تحول احتكاك " قدم الرجل بجدار الكوخ" إلى " ركلة الباب نصف المفتوح... فكاد أن يحطم رأس المرأة..." عندما فقد توازنه والصبي جالس بعيداً ، وبدا الآرتباك على سيده وبدت سكّينه " تعري مساحات سبق تكسيتها..." . حلَّ الوجوم والانفعال و " نفث الرجل لفافة جديدة ... والمرأة ما عادت تطل.." حيث حلت مشاعر التوتر والتشنج الذي، وعلى ما يبدو، قد استغرق وقتاً لا يستهان به بدلالة استهلاك عدة سكائر وهو معلق على درجه "... ولم يكف عن استبدالها كلما زوت...". وأخيراً تأتي ساعة المغادرة حيث بدا الكوخ وقت الأصيل " يربض مزهواً بكسائه الجديد، صار متأهباً لاكتساب الألوان..." وهذا يعني أن هناك عودة في اليوم التالي فقد مرت السكين لتطمس الشقوق وتكسو الخشب المتهريء بطبقة صقيلة من المعجون.." ولم يبق إلا أن يزهو الكوخ " بكسائه الجديد." والرجل... هدّه التعبُ " وانحنى عوده وتلطخت ذراعاه وقمة رأسه بطبقة جيرية من أثر التجليغ.... والمرأة بَصَّتْ بصة أخيرة..." وكان لابد له أن يحاكيها بنفس اللغة، عندما عبر عن تأففه وحرمانه من ضياع فرصة الدخول حيث " نفخ فتوارت المرأة مسرعة.." فغادر " محنياً تماماً حاملاً سلمه وأدواته" نتيجة تعبه وإحباطه حيث ابتعد " حتى نهض الصبي واقتفى أثر خطواته محتفظاً بمسافة بينهما."
واتباع الصبي للرجل يعني أنهما يسكنان بنفس المنطقة أو المحلة وهذا يعطي مبرراً مقنعاً لعدم دخول الرجل بل حافظ على توازنه ولم يخضع لعاطفته. وفي كل الأمور، لابد له أن يعود ثانية إلى الكوخ الذي " صار متأهباً لاكتساب الألوان..." فمن المعتاد أن لايُصبغ البيت خاصة المتهريء إلا بعد ترك المعجون واعطاءه فرصة الجفاف والتيبس وليوم واحد على الأقل خاصة في الجو الحار " جفف جبهته بظاهر ساعده.. " وأيضاً" " تعال اشرب شاياً وبلل رأسك..." . وإن كان افتراضنا لضرورة العودة من أجل الطلاء بالألوان الزاهية صحيحاً، فلا بد لنا أن نتساءل: ياترى... لماذا حمل "سلمه وأدواته" معه؟ لقد أنهى الرجل المرحلة الاولى وهي مداواة الشقوق بالمعجون وعليه لابد له أن يعود ثانية من أجل الصباغة: "عند اقتراب الأصيل كان الكوخ يربض مزهواً بكسائه الجديد، صار متأهباً لاكتساء الألوان...". ومن عادة الصباغين أو عمال البناء ترك العدد إلى اليوم التالي لإكمال العمل، فهل من المعقول مغادرة الرجل " محنياً تماماً حاملاً سلمه وأدواته"؟
ولحل هذا اللغز الذي يبدو متناقضاً، لابد لنا أن نفترض وربما نبرر، بأن هذا الإشكال أو اللغز من أجل التمويه بأن الرجل لن يرجع في اليوم التالي وذلك متعارف بين الصباغين من أجل أعطاء وقت كافِ للمعجون لكي يجف ويصبح صالحاً لامتصاص الصبغ وبنفس الوقت قد يستعمل أدواته في عمل آخر، وعليه فإن تخلصه من الصبي يكون أكيداً ليصبح بإمكانه تلبية الدعوة لأكل لقمة أو شرب الشاي من دون منغصات ، جعلته ينفخ ألماً وحسرة عندما غادر" محنياً تماماَ حاملاً سلمه وأدواته...". وقد استطاع القاص والناقد محسن الطوخي أن يوظف عتبة القصة لتنطبق تماماً مع تفاصيلها وأيضاً نهايتها... ألكل في جوع والجوع بحاجة إلى امتلاء. نهار كامل يقضيه الرجل لأشباع كوخ بالمعجون وامرأة بدت متحفزة لأية إشارة منه لتفتح الباب، لتخرج بحجة دعوته للأكل تارة ولشرب الشاي تارة أخرى. أما الصبي الذي ابتعد خوفاً من عقاب سيده فهو على وضعه صانعاً، قد استطاع مدفوعاً بحبه وجوعه للأستطلاع أن يهزم سيده ويفشل مساعيه في الدخول إلى الكوخ فَوَضَعَهُ بلحظات لايحسد عليها. إن القصة جعلتنا نتعاطف مع الرجل لأنه بقي جائعاً ليست للأكل أو شرب الشاي وإنما لعدم تصريفه طاقة عاطفية إنفعالية أريد لها الإشباع بطريقة قد تكون غير سوية. والحقيقة أن الصبي استُعمل هنا كسيمياء symbol وكعامل ردعٍ منعه من دخول البيت وهذا بالتأكيد لصالح الرجل على المدى البعيد، وعليه ينبغي مكافأته وليس تهديده.
لقد وَجَدْتُ أن الأديب ألقاص والناقد محسن الطوخي قد وظف ألعنوان ليتوازن وبشكل لافت للنظر مع السرد فقد تطابق تماماً للنهاية معه، وهذا يتطلب تكنيكاً غير اعتيادي يحسب له، أضافة للتكثيف والأختزال الذي أعطى مدىً لايستهان به في المحور العامودي للقصة من خلال لغة مضغوطة لا تخلو من مجازات واضحة أضفت على جمال النص جمالاً وسببت بنفس الوقت بعض الغموض والتساؤلات التي تحتاج لِرُوِيَّةٍ في التحليل. وأخيراً لابد من التساؤل : كيف يستمر الإنسان "الممصوص" والصبي بالعمل منذ الصباح حتى " عند اقتراب الأصيل..." بلا أكل ولا ماء؟ تساؤل مشروع قد تحله عتبة النص. أجل إنه "الجوع"، وهذا تبئير للنص فاق حدوده.
ألأديب ألقاص والناقد الأستاذ محسن الطوخي تحياتي ويسلم إبداعك.
علي البدر/ قاص وناقد
1) ألقصة:
لم انتبه على مدى شهر من ارتيادى المكان إلى الكوخ الخشبى الغارق فى الإهمال عند المنعطف. اكتشفته عندما لاحظت صباح اليوم ذلك الرجل الممصوص يعتلى سلماً خشبياً متهالكاً، مستغرقاً فى إزالة الأوساخ والملصقات مع طلاء الكوخ القديم. بوسعى رؤية هيكله الضامر من النافذة المكسوة بسلك مانع للحشرات وهو يمتص لفافته المعلقة بزاوية فمه، ينعقد الدخان فوق رأسه. اكتشفت بعد مرور ساعات أن الكوخ مسكوناً حين تحرك الباب بقدر مايسمح به السلم الخشبى, وبرز رأس امرأة، نادته، فتوقف عن العمل: تعال كل لقمة.
جفف جبهته بظاهر ساعده، ألقى نظرة على الصبى المقعى فى الجوار يعالج خلط المعجون، ومالبث أن عاود عمله. تناثرت بقايا الطلاء القديم، فتوارى رأس المرأة، وبقى الباب موارباً. توقف الرجل وهتف بالصبى: رح كل لقمة. أجاب الصبى دون أن ينظر إليه: لست جوعاناً، واستمر فى خلط المعجون، عاود الرجل عمله فى إزالة الطلاء القديم فتلوث الجو بالغبار.
وبحلول الظهر بدأ الرجل فى سحب المعجون. بدا الكشك بعد إزالة الأوساخ فى هيئة مغايرة، أشبه بلوحة تجريدية وقد لاحت الشقوق والفتحات التى تعرت فى البدن المتآكل. تمر سكين الرجل فتطمس الشقوق وتكسو الخشب المتهرىء بطبقة صقيلة من المعجون. احتكت قدم الرجل بجدار الكوخ، فتح الباب وأطل رأس المرأة : تعال اشرب شاياً، وبلل رأسك. توقفت السكين، واهتز الدلو المعلق بعارضة السلم. لحظة وعادت السكين لسحب المعجون, ثم مالبثت أن توقفت. هتف الرجل بالصبى القابع: هيا انصرف، انتهت نوبة عملك. لم يغير الصبى جلسته، استمر فى خلط المعجون. هتف الرجل بصوت أعلى: انصرف، لم أعد بحاجة إليك. قال الصبى دون أن يرفع رأسه: أريد أن أبقى. تميز الرجل غيظا: قلت انصرف. طارت لطخة المعجون العالقة بحد السكين تجاه الصبى فلوثته، فر الصبى فعبر الطريق واستمر فى العدو للناصية القريبة، وأقعى. ركل الرجل الباب نصف المفتوح بغضب فكاد أن يحطم رأس المرأة. طاشت ضربات السكين فعرت مساحات سبق تكسيتها. نفث الرجل دخان لفافة جديدة، ولم يكف عن استبدالها كلما زوت. والمرأة ماعادت تطل. عند اقتراب الأصيل كان الكوخ يربض مزهواً بكسائة الجديد، صار متأهباً لاكتساب الألوان، بينما نال التعب من الرجل، انحنى عوده، وتلطخت ذراعاه وقمة رأسه بطبقة جيرية من أثر التجليخ. راح يتحرك القهقرى مبتعداً ليلقى نظرة جانبية متفحصة، ساعداه المحمصان يمسحان حبات العرق فيلطخان الوجه. والمرأة بصت بصة أخيرة. التفت الرجل إلى الناصية. كان الصبى لا يزال مقعياً. نفخ الرجل فتوارت المرأة مسرعة. غادر الرجل محنياً تماماً حاملاً سلمه وأدواته. ما أن ابتعد حتى نهض الصبى واقتفى خطواته محتفظاً بمسافة أمان.
( من مجموعة " الضعفاء يموتون " )
2) التحليل النقدي:
عندما تتكرر رُؤيةُ شَيءٍ ما، كَأَن يكون بيتاً أوكوخاً ، فإن التركيزَ أوالتفحص فيه يكون ضعيفاً أو كأنه لم يكن أمام أنظارنا سواء أكان بيتاً رائعاً أو كوخاً قديماً. وعليه فإن الشاخص الذي أمام السارد بحاجة لحركة غير طبيعية أو غير مألوفة لكي يلتفت إليه ويركز وكأنه يعوض ما فاته. " لم أنتبه على مدى شهر من ارتيادي المكان إلى الكوخ الخشبي الغارق في الإهمال عند المنعطف..." وبالتأكيد حالة الوصف هذه للكوخ مبنية على مشاعر سابقة باتت مخزونة في اللاشعور أثارها وهيجها أو أزال الغبار عنها "اكتشافه" ، والإكتشاف بالتأكيد يصاحبه حالة من التركيز والإستغراب. وهكذا يرجع الفضل لأكتشافه ذلك الرجل الممصوص الذي " يعتلي سلماً خشبياً متهالكاً مستغرقاً في إزالة الأوساخ والملصقات مع طلاء الكوخ القديم.". ولكي تكون القصة أكثر إثارة، لابد من تنوع أحداثها أو على الأقل إرتجاع داخلي flash back ولكننا لم نجدها في مفاصل السرد ورغم ذلك استطاع القاص محسن الطوخي شدنا وبحماس لمفاصل السرد. أجل ألمرأة مع الرجل والأخير مع الصبي. رجل على سلم وصبي يساعده وامرأة لم تستطع حتى فتح الباب كاملاً بسبب، وعلى ما يبدو، وضع السلم الذي يعيقه. ومع ذلك امتلكت القصة شداً وإثارة تحفزنا على المواصلة، وهذا يذكرني بقصة همنكواي Ernest Hemingway الشيخ والبحر الذي يستغرق القارب وجهاد صاحبه في الصيد وسط البحر، معظم السرد، حيث ينشَد القاريء منذ البداية حتى آخر جملة في السرد. وقد يكون انشغال المتلقي بفك الرموز أو الطلاسم أحد أسباب هذا الإنشداد في قصتنا هذه. وقد ساد في النص أسلوب الشخص الثالث، بالدرجة الأولى مع حوار مقتضب أو بالحقيقة حوار غريب والسارد هو راوية لمشاهدات أثارته ليراقبها موضوعياً objective observation .
والحوار عادة ينتج من إثنين على الأقل ، وحتى الحوار الداخلي أي حوار مع النفس monologue يتكون من حوار الشخص مع نفسه: " نادته ، فتوقف عن العمل: تعال كل لقمة.". لم يقل حاضر أو يتفوه بكلمة شكر، لكنه توقف عن العمل , والتوقف هنا لغة عميقة وهو جواب باستعمال لغة الجسد language of gestures و يبدو أنه جوابٌ إيجابيٌ مشوب بتردد، فقد " جفف جبهته بظاهر ساعده.." وهذه لحظة تفكير، اعتماداً على نفس اللغة، للشروع في الخطوة القادمة وما عليه سوى التخلص من العائق أي ألصبي، وبالتأكيد ستنمو شكوك لديه عندما يدخل سيده لبيت الإمرأة، فالصبي بالتأكيد لم يسكت بل سينقل ماشاهده للاخرين وقد يسبب هذا إحراجاً للرجل " الممصوص الذي يعتلي سلماً خشبياً متهالكاً..." . ويبدو أنه تريث قليلاً فحاول إشغال نفسه والمرأة تنتظره فألقى " نظرةً على الصبي في الجوار يعالج خلط المعجون، وما لبث أن عاود عمله." فآضطرت المرأة للدخول " بعد أن تنائرت بقايا الطلاء القديم... وبقى الباب موارباً.". وفتحة الباب هنا تعادل بالضبط قولها له : " تعال كل لقمة.". وبالضد ردة فعله ثانية نحو الصبي: " رح كل لقمة.". المرأة تقول: " تعال كل لقمة" وهو يأمر الصبي " رح قل لقمة" وكأنه يقول دعني أتصرف براحتي . والأرجح قالها بعصبية وخشونة و نثبت ذلك بانفعاله وفقده جزء من توازنه حيث توارى رأس المرأة بسبب تناثر " بقايا الطلاء القديم"، بعد أن انتظرته متأملة والباب مفتوح بانتظاره. ولو لم يرغب الرجل بالدخول لقال : لست جوعاناً ، كما قال الصبي. والحقيقة تقول عكس ذلك فالرجل " ممصوص" وهذه صفة نقص إن لم يكن غذائي فإنه نقصُ عاطفةٍ ولحظاتُ راحةٍ واطمئنان. إنه جائع إذن. أما الصبي فَجَوعُهُ لإشباع وإطفاء فضوله جعله يرفض إصرارَ سيدِهِ على ذهابه لأكل لقمة.
ونتساءل... هل تعرفه المرأة سابقاً أم أنه مجرد عامل أجير؟ والإفتراض الثاني وارد. فلو كان يتردد عليها، لجاء وحده وفي غير وقت عمله. وعلينا الآن أن نجد هل دخل وأكل لقمة أم لا؟ " بحلول الظهر، بدا الرجل في سحب المعجون وبدا الكشك بعد إزالة الأوساخ في هيئة مغايرة...." . والمقصور هو الكوخ وربما ورد اسمه بسبب سهو طباعي. إنَّ عملية سحب المعجون تعني حركة، فلا عمل بدون حركة والحركة بدورها تعني اهتزازاً ليده التي هي جزء من جسده، وأيضاً اهتزاز السلم الخشبي المتهالك وأخيراً اهتزاز الدلو المعلق بالسلم. وقد يتبادر إلى الذهن أن اهتزاز الدلو بسبب حركةِ نزولٍ تمهيداً للدخول لبيت المرأة، ولكن بعد التأني نجد أن سببها هو أخذه كمية من المعجون بغرس السكين فيه تمهيداً لسحبه على سطح الكوخ، وبين الأخذ والسحب لحظة: " ...توقف السكين واهتز الدلو المعلق بعارضة السلم. لحظة وعادت السكين لسحب المعجون..." وعليه لم تكن لدينا حركة نزول أبداً. أما النداء هذه المرة فيأتي من أعماقه ولم تكن بدايته منها: " إحتكت قدم الرجل بجدار الكوخ.." حيث فُتِحَ الباب وأطلَّ رأس المرأة فدعته لشرب الشاي، والشاي هنا نتناوله في العادة بعد الأكل وليست قبله وهذا قد يصلح دليلاً على أكله لقمة، لكنه دليل غير حاسم أو كاف على دخوله البيت، فالنهاية خاصة توصلنا لرجل محبط حيث " ... راح يتحرك القهقري". وقد سبب موقف الصبي نبرةَ غضبٍ أوقفته لحظة عن العمل ثم معاودته عندما " اهتز الدلو المعلق بعارضة السلم لحظة وعادت السكين لسحب المعجون ثم ما لبثت أن توقفت..." ليبدو الهتاف غاضباً " هيا انصرف، إنتهت نوبة عملك....". ويستمر تجاهل الصبي وخضوعه للأمر وهومنشغل في خلط المعجون: " إنصرف، لم أعد بحاجة إليك."، ويأتي الرد وبتجاهل وثقة فهو " لم يرفع رأسه . أريد أن أبقى" . وهنا تميز الرجل غيضاً و " طارت لطخة المعجون العالقة بحد السكين باتجاه الصبي فلوثته وفرّ وعَبَرَ الطريق واستمر في العدو للناصية القريبة...". إن الفرار يعكس مدى خوف الصبي من العقاب وهذا يعني أن الرجل كان منفعلاً غاضباً نتيجة عدم تحقيق رغبته في الدخول لبيت المرأة وهنا تحول احتكاك " قدم الرجل بجدار الكوخ" إلى " ركلة الباب نصف المفتوح... فكاد أن يحطم رأس المرأة..." عندما فقد توازنه والصبي جالس بعيداً ، وبدا الآرتباك على سيده وبدت سكّينه " تعري مساحات سبق تكسيتها..." . حلَّ الوجوم والانفعال و " نفث الرجل لفافة جديدة ... والمرأة ما عادت تطل.." حيث حلت مشاعر التوتر والتشنج الذي، وعلى ما يبدو، قد استغرق وقتاً لا يستهان به بدلالة استهلاك عدة سكائر وهو معلق على درجه "... ولم يكف عن استبدالها كلما زوت...". وأخيراً تأتي ساعة المغادرة حيث بدا الكوخ وقت الأصيل " يربض مزهواً بكسائه الجديد، صار متأهباً لاكتساب الألوان..." وهذا يعني أن هناك عودة في اليوم التالي فقد مرت السكين لتطمس الشقوق وتكسو الخشب المتهريء بطبقة صقيلة من المعجون.." ولم يبق إلا أن يزهو الكوخ " بكسائه الجديد." والرجل... هدّه التعبُ " وانحنى عوده وتلطخت ذراعاه وقمة رأسه بطبقة جيرية من أثر التجليغ.... والمرأة بَصَّتْ بصة أخيرة..." وكان لابد له أن يحاكيها بنفس اللغة، عندما عبر عن تأففه وحرمانه من ضياع فرصة الدخول حيث " نفخ فتوارت المرأة مسرعة.." فغادر " محنياً تماماً حاملاً سلمه وأدواته" نتيجة تعبه وإحباطه حيث ابتعد " حتى نهض الصبي واقتفى أثر خطواته محتفظاً بمسافة بينهما."
واتباع الصبي للرجل يعني أنهما يسكنان بنفس المنطقة أو المحلة وهذا يعطي مبرراً مقنعاً لعدم دخول الرجل بل حافظ على توازنه ولم يخضع لعاطفته. وفي كل الأمور، لابد له أن يعود ثانية إلى الكوخ الذي " صار متأهباً لاكتساب الألوان..." فمن المعتاد أن لايُصبغ البيت خاصة المتهريء إلا بعد ترك المعجون واعطاءه فرصة الجفاف والتيبس وليوم واحد على الأقل خاصة في الجو الحار " جفف جبهته بظاهر ساعده.. " وأيضاً" " تعال اشرب شاياً وبلل رأسك..." . وإن كان افتراضنا لضرورة العودة من أجل الطلاء بالألوان الزاهية صحيحاً، فلا بد لنا أن نتساءل: ياترى... لماذا حمل "سلمه وأدواته" معه؟ لقد أنهى الرجل المرحلة الاولى وهي مداواة الشقوق بالمعجون وعليه لابد له أن يعود ثانية من أجل الصباغة: "عند اقتراب الأصيل كان الكوخ يربض مزهواً بكسائه الجديد، صار متأهباً لاكتساء الألوان...". ومن عادة الصباغين أو عمال البناء ترك العدد إلى اليوم التالي لإكمال العمل، فهل من المعقول مغادرة الرجل " محنياً تماماً حاملاً سلمه وأدواته"؟
ولحل هذا اللغز الذي يبدو متناقضاً، لابد لنا أن نفترض وربما نبرر، بأن هذا الإشكال أو اللغز من أجل التمويه بأن الرجل لن يرجع في اليوم التالي وذلك متعارف بين الصباغين من أجل أعطاء وقت كافِ للمعجون لكي يجف ويصبح صالحاً لامتصاص الصبغ وبنفس الوقت قد يستعمل أدواته في عمل آخر، وعليه فإن تخلصه من الصبي يكون أكيداً ليصبح بإمكانه تلبية الدعوة لأكل لقمة أو شرب الشاي من دون منغصات ، جعلته ينفخ ألماً وحسرة عندما غادر" محنياً تماماَ حاملاً سلمه وأدواته...". وقد استطاع القاص والناقد محسن الطوخي أن يوظف عتبة القصة لتنطبق تماماً مع تفاصيلها وأيضاً نهايتها... ألكل في جوع والجوع بحاجة إلى امتلاء. نهار كامل يقضيه الرجل لأشباع كوخ بالمعجون وامرأة بدت متحفزة لأية إشارة منه لتفتح الباب، لتخرج بحجة دعوته للأكل تارة ولشرب الشاي تارة أخرى. أما الصبي الذي ابتعد خوفاً من عقاب سيده فهو على وضعه صانعاً، قد استطاع مدفوعاً بحبه وجوعه للأستطلاع أن يهزم سيده ويفشل مساعيه في الدخول إلى الكوخ فَوَضَعَهُ بلحظات لايحسد عليها. إن القصة جعلتنا نتعاطف مع الرجل لأنه بقي جائعاً ليست للأكل أو شرب الشاي وإنما لعدم تصريفه طاقة عاطفية إنفعالية أريد لها الإشباع بطريقة قد تكون غير سوية. والحقيقة أن الصبي استُعمل هنا كسيمياء symbol وكعامل ردعٍ منعه من دخول البيت وهذا بالتأكيد لصالح الرجل على المدى البعيد، وعليه ينبغي مكافأته وليس تهديده.
لقد وَجَدْتُ أن الأديب ألقاص والناقد محسن الطوخي قد وظف ألعنوان ليتوازن وبشكل لافت للنظر مع السرد فقد تطابق تماماً للنهاية معه، وهذا يتطلب تكنيكاً غير اعتيادي يحسب له، أضافة للتكثيف والأختزال الذي أعطى مدىً لايستهان به في المحور العامودي للقصة من خلال لغة مضغوطة لا تخلو من مجازات واضحة أضفت على جمال النص جمالاً وسببت بنفس الوقت بعض الغموض والتساؤلات التي تحتاج لِرُوِيَّةٍ في التحليل. وأخيراً لابد من التساؤل : كيف يستمر الإنسان "الممصوص" والصبي بالعمل منذ الصباح حتى " عند اقتراب الأصيل..." بلا أكل ولا ماء؟ تساؤل مشروع قد تحله عتبة النص. أجل إنه "الجوع"، وهذا تبئير للنص فاق حدوده.
ألأديب ألقاص والناقد الأستاذ محسن الطوخي تحياتي ويسلم إبداعك.
علي البدر/ قاص وناقد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق