السبت، 24 أغسطس 2019

(ســـــيكولوجيــة الاســــس الشـــــعريـــــــة بين الحداثـــة والمعاصـــرة . القسم الثاني . بقلم : فالح الكيـــــلاني / العراق ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

(ســـــيكولوجيــة الاســــس الشـــــعريـــــــة بين الحداثـــة والمعاصـــرة
.
القسم الثاني
.

بقلم : فالح الكيـــــلاني

,
لذا فالشعر وجد باعتباره محاكاة للإنطباعات الذهنية ومن ثم يتبين انه ليس نســــخا ً مبــــاشراً للحيــــاة. وإنما هو تمثيلٌ لها ينبع منها ويصب فيها . ويتبين بأن الشاعر الفذ يحاكي الأشياء كما هي، أو كما كانت أو كما ينبغي أن تكون اي على حالتها او وجوديتها في الطبيعة وربما – كما اعتقد الناس – بأنها كانت كذلك، أي أن هذا الشاعر الذي ربما كان متهما بالبعد عن الحقيقة المعروفة عند الناس، يمكن أن يدافع عن موقفه بأن يعرض الأشياء الحاضرة والماضية وبمثالية أو بما يعتقده الناس فيها.
والشعر قد يكون سماوياً وهذ ا لا يعني أنه يجب أن يكون كذلك او انها لازمة ضرورية له ومن هنا يتضح لنا ان مزامير نبي الله داود عليه السلام هي إغانٍ قد نظمت في أوزان معينة الا انها ليست شعرا حيث ان الوزن وحده لا يقيم شعراً بمفرده اذ يفتقد الايقاع او النغمة الموسيقية والعاطفة .لذا يتوجب الحصول على الإبداع الحيوي الذي يمثل الخاصية المميزة للشاعر وتقاس امكاناته الشعرية بقدرها او بقدر ما يأتيه منها فهو يبدع أشياء جديدة معتمداً على فطنته الذاتية او فطرته وما عاناه او يعانيه خلال ساعة النظم او الكتابة او يتفكر فيه .
فالشعر معرفة انسانية تحمل معطيات الرؤية و الاحساس النابع من القلب وهذا الاحساس المعني هو المصدر الوحيد لمعرفة الاشياء في هذا العالم الذاتي, أي ان الشعر الذي ينبثق من الروح اللاعقلية و اللاتصورية مضاد لكل تفسير منطقي .اي ان ما عناه الشاعر ربما يبقى مبهما عند الاخرين وبما يحقق المقولة المعروفة ( المعنى في قلب الشاعر) ومن هنا يتضح ان الشعر في الاتجاه الرمزي ربما يكون تعبيراً عن العلاقات التي تخلفها اللغة لو تركت لذاتها بين الحد العيني والتجرد المادي والمثالي وبين المجالات المختلفة للحواس. او بمعنى اخر أن الشعر هو الإيحاء لصور مثالية قد تتصاعد إلى الإعلى محلقة باجنحة شعرية منبثقة من روحية الشاعر وعاطفته المنبعثة من اعماقه وممتزجة بخوالجه المتدفقة منها و المشحونة بها والتي يخترعها في شعره والتي قد تتبخر في بعض الاحيان فينكص الشاعر عن قوله في تلك اللحظة او الفترة الزمنية ( فترة الالهام ) او نقول أن الشعر هو الخلق الجميل الوقع ، و يقصد فيه التبصر والسمو و التأمل في تجربة ذاتية لنقل الصورة الجميلة المعبرة عما يجيش في نزعات الشاعر وممتزجة بأقوى عناصر الجمال الشعري والشعوري الذي يتمثل في الموسيقى الكلامية المنبعثة من امكانية الشاعر في الايتاء بها او تقائها من خلال تمازج او تزاوج الحروف اللغوية مع بعضها بحيث تعطي نمطا او نسقا موسيقيا معينا ونغما رائعا تبعا لأمكانية الشاعر ومقدرته على الخلق والابداع وامكاناته في سبر اغواراللغة لأنها طريق السمو بالروح نحو مسارات عالية ذات نغمات تبثق من نفسية هذا الشاعر وعواطفه وامكانيته التعبيرية والتي هي السبيل للإيحاء وللتعبير عما يعجز التعبير عنه الاخرون .
راجع مقالتيّ ( النغم والايقاع ) و(عبد القادر الكيـلاني نموذج من الشعر الصوفي ) المنشورتا ن في كتابي ( في الادب والفن) ص 60 وص 82 )
من هذا نفهم ان الشاعر يتميز بخاصية فنية ابداعية فطرية في اغلب الاحيان ربما تُشحذ بالاكتساب والتعامل مع النصوص والمطالعة او بالمران ويتحقق من ذلك انه – أي الشاعر – يمثل قمة الاحساس النفسي في ذاته بحيث تنثال شاعريته في اغلب الاحيان انثيالا فلا يتأتى ما ترد عليه لغيره من الذين يبقون ناكصين مهطعين مقنعي رؤوسهم ازاء ذلك بينما ينظر أصحاب الشعر الخالص او الشعراء الفحول ويسلمون الى أن جوهر الشعر هو حقيقة مستترة عميقة وايحائية لا سبيل إلى التعبير عنها بمدلول الكلمات بل بعناصر الشعر الخالصة، وهذه العناصر الخالصة غير مقصورة على جرس الكلمات وجماليتها ورنين قافيتها وتاثيرتها وايقاع التعبير السامي وموسيقى الوزن وتغماتها – فهذه كلها قد لا تصل إلى المنطقة العميقة التي يتحدر منها الإلهام – بل تتعداها الى ارهاصات التفكير الاسنى وارتعاش القلب الوالع ونوازع النفس الشاعرة وانتشاء الروح المتلقية بما يحقق الامل المرجو منها .
بدأت بوادر النهضة الفنية في الشعر العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، حيث بدات كشذرات خافتة لدى بعض الشعراء او ضئيلة الشأن وكأنها أصوات هامشية كما عند الشاعر ناصيف اليازجي وولده ابراهيم اليازجي وغيرهما ثم أخذ عودها يقوى ويشتد على ايد ي الشاعر محمود سامي البارودي وغيره من شعراء ذلك الزمن فجاءت مندفعة بجد نحو الرقي والاكتمال حتى اذا اكتملت خلال القرن العشرين فاضحت متبلورة في اتجاهات شعرية مختلفة في نهضة ادبية شعرية قد حددت مذاهب الشعر العربي الحديث و تفوقاته ورصدت اتجاهاته – راجع كتابي ( شعراء النهضة العربية ) – مستفيدة من التراث العالمي وخاصة الفكر الاوربي آخذةً منه ما يوائم القيم والتقاليد العربية الأصيلة سائرة في سمتها الاصيل نحو الافضل ودائرة في محورها وبالوقت نفسه رافضة مفهوم القصيدة الشعرية كعملية تأليف أو تنظيم كنظم القواعد او نظريات علمية بل فتحت آفاقاً شعرية جديدة غير مسبوقة في تاريخ الشعر العربي مثل الشعر الحر( شعر التفعيلة ) الذي رسم الشعر وفق اوزان معينة هي نصف بحور اوزان عمود الشعر ومنه يقول الشاعر بدر شاكرالسياب في قصيدته ( غريب على الخليج ) :
مازلت اضرب،
مترب القدمين أشعث
في الدروب تحت الشموس الأجنبية
مـتخافق الأطمار
أبسط بالسؤال يدا نديه
صفراء من ذل وحمى
ذل شحاذ غريب بين العيون الأجنبية
بين احتقار، وانتهار، وازورار.. أو خطيه
والموت أهون من خطيه
من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبية
قطرات ماء.. معدنية
ثم ولدت قصيدة النثر او ما يسمى بالسطر الشعري بالشعر الحديث او المعاصر والتي أثبتت في نهايات القرن العشرين وبدايات هذا القرن حضورا متميزا في الساحة الشعرية العربية على الرغم من شدة المعارضة – من اصحاب عمود الشعر او الشعر التقليدي ( التقييدي ) ا و الذين شكّلوا دافعاً قويّاً لاستهداف التغيير والحط من قيمته ومكانته – غير عابهين بهم او غير مستمعين – للتطور الزمني الرافض لهذه الحالة والسائر في مسيرة متقدمة نحو المستقبل بنزعاته وارهاصاته وفيه تقول الشاعرة المغربية فاطمة المنصوري في قصيدتها (آهات قمر ):
على جناح الطير الشادي
سافرت ....
الى الورد الجوري
وكتائب البوح تنادي
من اعماق النيلوفر
خرجت حكاية
ترويها الحواري
على نغمات اليمام
وجرس الحمام
رعد في قلوب الجبناء
يغتال العنجهية
على نغمات الاوتار
وحفيف الاشجار
شددت تلابيب عمري المندلق
ازحف بين الافاعي
ارسم طريقا
اجتث شوكا
فالشعر الحديث صمد أمام تيارات الرفض هذه وبدأت هذه المعارضة الرافضة تضعف رويداً رويداً أمام رغبة الأغلبية في حتمية التغيير والتحديث وذلك لان الشعر عالمٌ يختلف كليا عن عالمنا المرئي فهو عالم ملئ بالسحر والجمال والطقوس والرمزية ( المعاصرة ) في بعض الاحيان بعيداً ومتجرداً تماماً من المادة . راجع كتابي – ( الموجز في الشعر العربي ) – الرمزية في الشعر المعاصر ج 4 صفحة\632 وما بعدها)
اما الشعر الجيد فهو الكنز الثمين والوجه الحقيقي للواقع الإنساني ولطالما حلم الإنسان به منذ أقدم العصور بأ ن يكون شاعرا او يولد شاعرا . لذا استطيع ان اقول ان الشعر حالة روحية او نفسية تكتنفها العاطفة الحقة و تتأ رجح بين التأمل والالهام والحدس فالانسان الحديث ربما كانت له حالة مركبة من المشاعر الرومانسية والألم الواقعي والرموز السيريالية والقلق الوجودي فهو غير الانسان العربي القديم الذي كان هائما في الصحراء ينشد الكلآ والماء ويتغنى بما يجيش في نفسه من مشاعر واحا سيس في حدود امكانيته وظروف طبيعته فالإنسان العربي الحديث ربما تعتريه حالة او مجموعة حالات متناقضة بما تمليه عليه نفسيته والواقع المعاش في الوقت الحاضر وتناقضات المجتمع الانساني المختلفة المحيطة به .
والشاعر الحقيقي هو هذا الذي يرخي عنان قصائده فتخرج عفوية حصيلة ثقافة انسانية عالية ومشاعر مركبة ومعبرة عن طموحات نفسية الشاعر ومدى تأثيرها في الاخرين و ابداعات خلابة وطموحة . فالقصيدة الحالية تمثل كائنا حيا او هي أشبه بالكائن الحي حيث يمثل شكل القصيدة او بنيتها جسده . ومضمونها روحيته فهي تمثل الصدى الذي تنبلج منه اسرار روح الشاعر واراؤه ممتزجة بعواطفه واحاسيه .ومن المفيد ان ابين ان الشاعر الحديث المطبوع شاعر تتمثل فيه غزارة الثقافة في امتدادات عميقة وكأنه وارث الحضارات كلها ومطلع على ثقافات الامم المختلفة .
لذا اصبح متمكنا من استخدام مفردات اللغة لتصوير افكاره وارائه وعواطفه وخلجات نفسه دون تاثير من خارج او امر من احد و يرتكز على فلسفة عميقة غنية تحصنه عن القول الضحل الفاني او الركيك الى القول العميق والرصين فهو اذن يمثل فيضا هادرا وتلقائيا للمشاعر النفسية القويَّةِ المنبثقة من اعماقه يَأْخذُ بها مِنْ العاطفة المتأملة المتجددة المنطلقة نحو الافضل متألقة متناغمة تنشد الحياة والانتشاء فيها والحب للانسان المثالي ونحو الافضل في توليده للافكار والابداعات الشعرية الجميلة ومحـــاولة خلـــقها مـــن جــديد واختم بحثي بقصيدة الشاعرة الفلسطينية المعاصرة ( ا يمان مصاروة )وهي تغني لمدينتها المقدسة القدس قصيدتها ( تنهيدة عشق) :
على أعتابِ حزنكِ قد مَضَينا
فُرادىً في المنافي نُستباحُ
أيا فجرَ الأماني في عيوني
أيا وجعاً يُناجيهِ الصباحُ
تَسيلُ دماؤُنا حِيناً فتَروي
على أعتابِها جُرحاً يُباحُ
ألا يا قدسُ يَبكي الشعرُ مِنّي
دماً يُشفَى إذا حُمِلَ السلاحُ
عروسٌ تَستقي مُرَّ النوايا
وتأنَفُ مِن هوانٍ لا يُزاحُ
أكلّمُ تربَها شوقًا كأنّي
ملَكْتُ الروحَ أن هبّت رياحُ
لِمَن هذا الشهيدُ ومَن يُصلي
هو القدسُ العتيقةُ والبِطاحُ
أيا وطنَ الجنائنِ أنتَ قلبٌ
تُكبّلُه السلاسلُ والجراحُ
.
. امير البيــــــان العربي
د. فالح نصيف الحجيةالكيلاني
العراق - ديالى - بلــــــدروز
******************

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق