الثلاثاء، 27 أغسطس 2019

هل الفن المعاصر "لاشيء"/ مقال للناقد والتشكيلي : محمد خصيف / المغرب ,,,,,,,,,,,,,,,,,,




هل الفن المعاصر "لاشيء"
محمد خصيف

كانت الانتقادات التي وجهت إلى الفن المعاصر أو الفن الراهن كما يسميه البعض تفتقر إلى الموضوعية و التحليل الجمالي الرصين، واعتبار هذا الفن "لا شيء" إنما هو حكم تعسفي في حقه، وخطأ وقع فيه من بين من وقع فيه مفكر معروف مثل جان بودريار Jean Baudrillard (1929-2007). فالفن المعاصر رغم كونه في حقيقة الأمر يتسم بالسخرية والتهجين وعدم الأصالة، فليس كله كذلك، بحيث إن منجز الجيل الأول من الفنانين الممتد من أواسط الخمسينات إلى تسعينات القرن الماضي كان له من القيم الجمالية ما جعله يتموضع بقوة داخل نسق التفكير الفلسفي/الجمالي وما منحه وجودا تاريخيا، وجعل نظريات فلسفة الفن سواء منها التحليلية أو الديالكتيكية النقدية أو حتى الفلسفة التفكيكية تعيره اهتماما كبيرا وتجعله من إشكالياتها الأساسية.
إذا تتبعنا خطى أحكام القيمة غير المعتمدة، الموسومة في أغلبها بالذاتية، والتي تعكس بوضوح " عجز بعض الخطابات في أخذ الأعمال الفنية على عاتقها" (مارك جيمنيزMarc Jimenez )، معتبرين الفن المعاصر "لا شيء" فكيف سنبرر مواقفنا الإيجابية من اتجاهات لها حضور كبير على مستوى تاريخ الفن، أذكر منها على سبيل المثال: البوب آرت (Pop Art) الذي جاء كحركة نقدية للمجتمع الاستهلاكي الأمريكي، تتمتع بسيط كبير في الأوساط الثقافية شملت، إضافة إلى الفن التشكيلي، الموسيقى والمسرح والسينما والأدب النثري والشعري وطرق العيش.
كيف سنبرر موقفنا المناهض أيضا لفن الأرض Land Art الذي جاء بدوره منتقدا الأزمات البيئية والتراثية وما وصلت إليه الطبيعة من رجات مصدرها التطور التكنولوجي، وقد عبر فنانو هذا الاتجاه بقوة عن هذه الأزمات وإلا فما معنى تغليف الفنان الأمريكي كريستو Christo (1935) لمعالم تاريخية عبر العالم إن لم يكن يثير انتباهنا إلى ضرورة حفظها ورعايتها. هذه أمثلة حية تدفعنا لتغيير رأينا تجاه الفن المعاصر واعتبار أعماله الفنية مظهرا عينيا للمشروع الإنساني. وإن الفلسفة الجمالية تسعى دائما إلى تحويل تلك العينية الخاصة بالعمل الفني إلى مفاهيم ونظريات ومقولات تبتغي التفسير والتوضيح لما يراه الآخرون مبهما وملتبسا حتى تتمكن "المجموعة" البشرية، حسب تعبير بيير فرانكاستيل1900) Pierre Francastel -1970)، من المشاركة في التجربة الجمالية وتكون طرفا مساهما فاعلا لا محايدا Indifférent. فالحكم المطلق المعتمد على الرؤية البصرية وحدها غير كاف لتقييم عمل فني، لأن" رؤية شيء ما كفن يتطلب شيئا لا يمكن إدراكه بحاسة البصر، كمعرفة مناخ النظرية الفنية، تاريخ الفن وعالم الفن"(دانتو).
وحسب نلسون غودمان Nelson Goodman (1906-1998) أن "الأعراض" التي يقصد بها الحمولة الرمزية والعناصر المميزة للعمل الفني، أي التشكيلية/الجمالية، لا تسمح فقط بتحديد ماهية العمل الفني وانتماءاته التاريخية بل تلعب على قصد اعتماله. "إن نظرية الرموز قد سمحت لغودمان باستبدال السؤال الذي كان سائدا في الجمالية الكلاسيكية والمتمثل فيما هو الفن؟ بسؤال آخر وهو متى يكون ثمة فن؟ ومن تم نتساءل كيف يمكن التوفيق بين شيء يتمتع بصفات تابته (الأعراض) "واعتماله" كعمل فني؟ والعبارة القائلة "يكون شيء ما عملا فنيا عندما يعتمل في أوقات معينة بصورة رمزية" لا تعطي سوى إجابات نسبية على الإشكاليات التي تعترض الجمالية والتساؤلات التي تطرحها هذه الأخيرة والتي ستبقى تطرحها.
وفي ظل هذا كله أصبح الفن المعاصر ذو الطرائق المتنوعة والموارد المختلفة والمتعذر توقع تعابيره لدرجة الفجأة، يتحدى "كل مبدأ منطقي مماثل لما كان يعرفه الفن في القرون السابقة". ولا ينبغي أن نندهش بالكلية إذا جزمنا بأن أي قراءة تأويلية وتحليلية للأعمال الفنية الراهنة "قد أصبحت تتساءل اليوم عن وجود ما يسمى: " العقلانية الجمالية" (La rationalité esthétique)". ولا أريد أن أدخل هنا في نقاش فلسفي لهذا المفهوم حتى لا أتيه في المفارقة التي يحملها والمتلخصة في "مفهومين تقليديين اعتبرا دوما متناقضين، بحيث لدينا من جهة العقل... ومن جهة أخرى الحساسية..." (مارك جمنيز).
يرى مارك جيمنيز أن "التوترات" التي تتجاذب الفن المعاصر وتضفي عليه الغموض واللبس لا تعود إلى الفنانين ذوي السلوكيات الغرائبية وحدهم، بل لها ارتباط عضوي بالإبداع الفني المرتبط هو أيضا بالتحديد الاجتماعي والتاريخي" للفن المعاصر نفسه.
" إن الغرائبية المزعومة للفن المعاصر والذي يوصف أحيانا بكونه "أي شيء كان" لا تعبر عن العالم كما هو قائم أو كما تم تأويله"، لا تعبر عن حقيقة وواقع عالم الفن المعاصر. فقبل أن يظهر هذا الفن ك «لا شيء" وقبل أن يقدم فنانوه "أي شيء كان"، كانت فترة الجيل الأول منه شيئا حقيقيا عينيا جعل ما بعد حداثته تنقلب على الحداثة الفنية انقلابا ملؤه التنكر والنكران، وتخترق جسدها لتكشف للمتلقي عن شيء جديد لم يعرفه من قبل، وهذا الجديد غاب عن كثير من معارضيه لأن الذاتية غلبت على أفكارهم، فلم تصدم "تفكيكات ونشاز الحداثيين حساسية الهواة" وحدهم وإنما خلخلت مشاعر العارفين من أهل الفن كذلك.
إن "الإنتاج الفني الراهن لا يمكن اعتباره أقل مشروعية من فن العصور الماضية"، ربما ستكون شهادتنا غير هذا إذا كنا رجعيين في أفكارنا ودغمائيين، نرى كل الفنون من منظار واحد ووحيد، نقيس أشكالها وجمالياتها بمعايير متجاوزة. "ففكرة إمكانية وجود نظرية جمالية عامة تشمل مختلف جوانب الإبداع الفني أصبحت اليوم بالية بل غير معقولة" (مارك جيمينز).
مع ظهور الفن المعاصر اختفت كل "الرهانات التقليدية للنقد الجمالي-كما حددها كل من دوني ديدرو Denis Diderot (1713-1784) وشارل بودلير Charles Baudelaire (1821-1867) "، ورغم حدة النقاشات وقوتها وتعدد مصادرها ومنابرها، التي تأخذ مسارا سياسيا في بعض الأحيان، (قصة جان بودريار مع اليمين الفرنسي المتطرف)، رغم هذا كله يلاحظ تراجع النقد الجمالي مقارنة مع ما كان عليه في السابق. فما كتب وما قيل عن الفن المعاصر، صلاحيته ومدى توافقه مع المعايير الجمالية وخضوعه «للدولة الثقافية" حسب مقولة مارك فومارولي Marc Fumaroli وسوق الفن، رغم كل ذلك لوحظ على تلك النزاعات أنها لم تبد بآرائها حول نوعية المنجزات الفنية المحققة. وانطلاقا من ذلك الوضع نجد أنفسنا أمام خطابات عامة تتفادى "المواجهة المباشرة مع الأعمال الفنية"، المنتمية إلى فن مستقل بالكامل بأشكاله وخاماته يتحدى الرقابة الأكاديمية بل ينتهك قوانينها ويكسر قواعدها ممارسا "لعبة الاختراق" (نتالي هني( Nathalie Heinich إلى اقصى حد. إذا كانت بعض الخطابات عاجزة ومرتبكة في تناول مباشر للأعمال الفنية المعاصرة - وهذا على المستوى النظري وبكيفية منسجمة- فلا يجوز أن نعزو ذلك الفشل، إن صح التعبير، إلى الفن المعاصر، رغم أن هذه الأعمال تتمادى وتستمر في جعل أنماط تفكيرنا وعاداتنا الإدراكية تعيش تشويشا مقصودا أبديا. فالجمالية المعاصرة عرفت تكتما ملحوظا حيال الفن الراهن، الذي هو في طور التشكل ومتحفظة للإدلاء برأيها حول أعماله الجديدة، مقتصرة على دراسة وتقييم الإبداعات الفنية المعترف بها تاريخيا ومؤسساتيا، والمأخوذة على أنها من المنجزات الإنسانية الخالدة.
ومادام الخطاب النقدي لم يستقل بأشكاله ومنهاجياته كما استقل الفن المعاصر بذاته، ومادام ذلك الخطاب تابعا لنظم ثقافية سائدة، لا يرفع "تحدي التأويل والحكم والتقييم"فلنفلن يتأسس نقاش نقدي جاد وحقيقي حول الفن المعاصر. ومادام كل واحد منا يطلق حكما جماليا حرا خاصا به، فلن نتجاوز عتبة الغموض والتباين في الأحكام التي نصدرها على منجزات هذا الفن.
ذهب بيير فراكستيل إلى أنه "ليس هناك ما يجمع الفن المعاصر للعقود الثلاثة الأخيرة (من القرن العشرين) بالإبداع الفني". وربما أنه هنا يقصد بقوله هذا الجيل الثاني من الفن الراهن، الأكثر عنفا واحتجاجا واستفزازا والذي تحدث عنه جان كلير Jean Clairسنة 2006 قائلا: " سأصبح متشككا ثم بعد ذلك معاديا لهذه الطليعة (المؤسساتية) Institutionnalisée والمفروضة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والمبيوعة والمعززة لدرجة أنها أصبحت علامة تجارية، إنه فن ينتمي إلى الأوليغارشية العالمية ويفتقد إلى ذوق اليوم" . (إن ارتباط الفن بالمؤسسة هي فكرة تعود إلى الفيلسوف الأمريكي جورج ديكيGeorges Dikies (1926) الذي يقول بأن الشيء لا يعرف كعمل فني إلا باعتراف المؤسسة الاجتماعية التي "تسجل فيها الأعمال الفنية"، نفس الفكرة نجدها عند بيتر بورغر Peter Berger (1929( الذي أكد على أهمية العلاقة الجدلية التي تربط العمل الفني بالإطار المؤسساتي. انطلاقا من هنا يمكن أن نتساءل إذا كان الاعتراف المؤسساتي لا يختلف من مؤسسة إلى أخرى، إذا تغيرت بنية النظام المؤسساتي ومؤهلات أهلها؟ )
يبدو أن فرانكاستيل (1900-1970) يستبعد نهائيا إدراج فن تسعينيات القرن العشرين، أي فن الجيل الثاني ضمن المسار التطوري لتاريخ الفن. "يبدأ من عصر النهضة ويمر بالحركة الانطباعية ليصل مباشرة إلى مرحلة ظهور التكعيبية"؟ بالنسبة له القيام بعملية الربط هذه يراها "في حقيقة الأمر طريقا محفوفا بالمخاطر"(مارك جمنيز). ويبدو أن فرانكستيل يرى المسار التاريخي والانتقال من كلاسيكية عصر النهضة إلى فترة الفن الحديث وصولا بالتكعيبية أمرا مشروعا، لكن لماذا توقف عند التكعيبية أي عند نهاية الحرب العالمية الأولى، واستثنى باقي الحركات الطليعية الأخرى؟ ألا يشك هو بدوره في مشروعية وجودية الفن الحديث، ما بعد التكعيبي؟ هل كان فرانكاستيل يرى في الفن الحديث ملامح أولى لأزمة الفن المعاصر؟ أسئلة تبقى معلقة إلى حين الإجابة عنها...
"إن ما يسمى أزمة الفن المعاصر، التي تعتبر ظاهرة غير مسبوقة تدل لا محالة على استياء عالم الفن والجمهور من نقص في المشروعية، أصبح يعرفها فن مضلًل ومضلل أحيانا". فالعمل الفني له دور تواصلي على جانب دوره الجمالي المبني على الذوق والمتعة واللذة. وهي ما اسماها مارك جمنيز " الطقوس السرية" وبتعزيز الدور التواصلي ستكون الخطابات الجمالية بدون شك معبرا وصلة وصل بين "العمل الفني الغامض أحيانا الصامت أحيانا الخفي دوما والجمهور"(مارك جمنيز). فالجمالية تسعى إلى المصالحة مع المتلقي وجعله يكسب ثقة الإبداع الفني، تلك الثقة المفقودة باستمرار والتي تسببت فيها الحركات الحداثوية والطليعية فأربكت ذائقة الجمهور.
ملحوطة: من المعلوم أن التكعيبية كان لها صدى كبير على مدى تاريخ الفن العالمي، حيث تلاحظ آثارها على أجناس فنية مختلفة كالنحت والمعمار بل وصلت تلك الآثار إلى الأدب.
بيبليوغرافيا
1- مارك جيمنيز – الجمالية المعاصرة، الاتجاهات والرهانات، ترجمة د. كمال أبو منير – منشورات الاختلاف الرباط، 2012
2- إبراهيم الحيدري – النظرية الجمالية عند تيودور أدورنو – موقع الحوار المتمدن عدد 4062 –
3- Adorno ( Th.W), Théorie esthétique, trad. M. Jimenez, Klincksieck, nouv. Éd. 1995
4- Jean Clair, Considérations sur l’état des beaux-arts, Paris, Gallimard, 1993 .
5- Goodman (Nelson), Langage de l’art, trad. J.Morizot, Nimes, 1990 .
6- Jimenez (Marc), Adorno et la modernité. Vers une esthétique négative, Paris, Klincksieck, 1986 .
- Qu’est-ce que l’esthétique ? Paris, Gallimard, coll. « Folio Essais », 1997.
7- Francastel (Pierre), Peinture et société. Naissance et destruction d’un espace plastique. De la Renaissance au cubisme, Paris, Gallimard, 1965.
8- Heinich (Nathalie), Structure d’une révolution artistique, Paris, Gallimard, 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق