الاثنين، 16 سبتمبر 2019

( البنية القصدية لسريلة النص السردي ) دراسة تحليلية في ق. ق. " بداخل كفي " للاديب المغربي " حسين الباز / باسم عبد الكريم الفضلي / العراق ,,,,,,,,,,,,,,,

( البنية القصدية لسريلة النص السردي )
دراسة تحليلية في ق. ق. " بداخل كفي "
للاديب المغربي " حسين الباز "

النص القصصي :
***********
..رمقت كفي لأقرأ حظي، قيل إن مالك خط متصل زهري، ماالخطوط سوى بصمات.. أقول!
حين أخذت كفي تتمدد وتتمدد حتى بلعتني.
..بداخلها وجدت حظي ينتظرني، أمسك بي ورافقني إلى قصوره، كل قصر به شرفات،كل شرفة بها أبواب، كل باب بها نوافذ، كل نافذة تطل منها امرأة،
وكل امرأة فيها حبيبات، وكل حبيبة فيها مدن، وكل مدينة فيها شوارع، وكل شارع فيه أرصفة، وكل
رصيف فيه أناس... وكل فرد هو أنا..رأيتني شعبا يمشي، يتسوق، يعمل، يتعب، يفرح، يحزن، يعيش، يموت...
وقبورا تعد لي، ومآتم تنصب، فكفنتني، ودفنتني، وصليت علي الجنازة، وخلفتني لأكمل المشوار وتناسيتني، وكلما مت أقمت علي طقوس الوداع...
وهكذا أستمر.!
_ ياه.!قلت.. كم أنا محظوظ!
..تهت الطريق، وكفي مرشدي لا يزال يعصرني، طرقات تحوي أزقة، كل زقاق يبتلع المارة، يضج بالباعة، وأنا مفرد بكلي، أسكن جميع الديار، أجلس في المقاهي، وأعمر المساجد، وأشتغل موظفا وبائعا وفلاحا وفرانا وناذلا، وبرلمانيا ورئيسا، و...!
ألج السينما، أتفرجني، السيناريو أنا كاتبه، والمخرج والمنتج والأبطال، حتى بائع التذاكر هو أنا، أجري وأجري.. البرد قارس، الحر ساخن، وأنا أجري!
ثرت وانقلبت، حكمتني، قتلتني، سجنتني، ولا أنتهي!
يا لحظي..!
..لا أود الخروج من كفي،الشمس تحرقني، والقمر يطفئني، النهار ينشرني والليل يلبسني...
وأنا نائم!!
...............................................
توطئة :
(واقع ما فوق الواقع ) وهذا هو المعنى الحرفي لكلمة سريالية باللغات الأجنبية. إنه ( فواقع ) مرسوم في افاق الخيال بفرشاة الحلم والتوترات النفسية الدفيتة في اعماق اللاواعي (الوعي الباطني )، و تعبر عنه ادبياً ، لغة تلقائية منعتقة من قيود العقل الواعي ومنطقية قياساته ، القامعة لكل نزعة ذاتية بالبوح الحر عما يجول في خاطرها ( اعني تلك الذات ) من مشاعر ورغبات بحجة خروجها على حدود قياساته انفة الذكر . مما يمكن مقاربة دلالاتهما التضادية بهذا التقابل :
شمولية سلطة العقل / رحابة تحررية المتخيل
وقد تمظهر هذا التقابل الصراعي بجدلية ( الانا / الآخر ) في العديد من الآثار الانسانية الابداعية (الفن ادبية) ، وباساليب تعبيرية متنوعة ، ومن هذا التمظهر التقابل بين الذات النازعة للحرية وتأكيد معناها الوجودي ، وبين واقعها الجمعي المستلب من قبل الآخر المؤسساتي السلطوي الشمولي ، يصادر انسانيتها ، يراقب افكارها الدفينة ، ويرصد مشاعرها المكبونة ، قامعا منها ماقد يتمرد على امتثالها وتبعيتها لمشيئته القاهرة،
و الحركة السريالية من اكثر الحركات الثقافية مابعد الحداثوية التي عالجت هذه الجدلية التقابلية في نتاجاتها الادبية داعية الى اطلاق العنان للخيال ليعبر بتلقائية عما في أختزن في اعماق الذات الداخلية ، من مشاعر ورغبات واحلام قمعها ( الآخر ) ، وتحرير الطاقات الدفينة الكامنة فيه، والانعتاق من سطوة العقل وقيود احكامه المنطقية .و ماقبلية الضوابط والقياسات الجمالية و الأخلاقية الجمعية، وهي هنا انما استهدفت جانبه الموظف من قبل ذلك الآخر في تدعيم اركانه المؤسساتية المؤدلجة سياسياً ودينياً وثقافيا ، ( اي جانبه السلبي المصادر لحرية وانسانية الانسان )، بمعنى انها جعلته مكافئاً موضوعياً لذلك الاخر ، فهي قد اقرت بوجود ( عقل باطني ) كما اسلفت ، ودعت لنشدان ميتا واقع الحلم و الرغبات الدفينة في اللاواعي .ليكون البديل المقابل للواقع الاخروي الحائل دون تحقيق الانسان لذاته .
وثيمة قصتنا ، موضوع دراستي هذه ، تعالج تلك الجدلية باسلوبية سردية مراوغة ، فهي تبدو لمن يمر عليها على عجالة ، مسريلة اللغة والعرض ، فلاعقلانية ترابطية بين اشاراتها ، جملها ، و عباراتها ،ولا قصدية حدثية لفكرتها ، ولا تسلسلية زمانية احداثها الفرعيةً ، لكن قراءتها المتأنٍية ، و دراستها تحليلياً ، تكشفان حقيقة فكرتها المسكوت عنها ، وما يضمره خطابها من رسائل مشفرة ، وماتستره لغتها من معانٍ تحتانية ، وكل هذا يشكل سمات غائية واعية تتعارض مع مفهوم الادب السريالي اللاواعي التعبير ، الخيالي العوالم ، المنغلق والمحايث اللغة ، اللاتواصلي الخطاب ، فما غاية الكاتب من هذه السريلة القناع لقصته ؟ وماهي تلك الرسائل الخطابية التي يبعثها والى من ؟ ستشتغل دراستي على الوصول الى مقاربات اجاباتية عن هذه الاسئلة ، مع تحديد تمفصلاتها / تباعديتها ، مع وعن اللغة السريالية ،
اولاً ـ بنية عتبة العنوان
ـ البنية النحوية :
جملة العنوان الاسمية ، مزاحة تركيباً بحذف المبتدأ / وهو جائز لإفادة التأكيد.
ـ البنية الدلالية:
الاشارة ( كف )، بالاحالة على مطلع متن القصة (( رمقت كفي لأقرأ حظي )) يتولد لها معنى مقامي السياق / خارجي : الموروث الاجتماعي / قراءة الكف ، وهي من اعمال الشعوذة بقصد التنبؤ بالمستقبل وما تخبؤه الاقدار لصاحب الكف من حظوظ ، وهذا تعارض مع تجردية اللغة الادبية السريالية وانغلاقيتها .
العنوان بعد التعرف على تحتانيته الدلالية، قدم لنا مفتاحية القصة وهيأ وعي القارئ للدخول في عالم قصة عجائبية
سيمائية لغة وعناصر السرد :
تتمفصل لغة القصة في ظاهرها مع اللغة الادبية السريالية في انها تكسر علاقة الدال بمدلوله كما في (( كفنتني ، دفنتني ، صليت عليّ ، خلقتني ، حكمتني ، سجنتني ... ))، مفرغة من اي معنى مألوف ،وهي عجائبية الوصف والصور (( كفي تتمدد وتتمدد حتى بلعتني / وكل حبيبة فيها مدن / رأيتني شعباً ... / كلما متُّ أقمت عليّ طقوس الوداع ....))،/ ، ونجد طغيان الاشارت المتخيلة / تتمدد ، بلعتني ، فيها مدن،كفنتني، دفنتني، خلفتني ، حكمتني، قتلتني، سجنتني ...
على الاشارات الواقعية / كفي ، حبيبة . مدن ، شوارع ، مساجد الشمس تحرقني ...
كما انها لغة مكتظة بالاشارات المنطوية على مفارقات ساخرة متهكمة ((ثرت ،انقلبت، حكمتني، قتلتني، سجنتني ، اتفرجني ...)،
اما النسق الحدثي فهو تضميني ، يدخل حدثاً فرعياً في اخر قبل اكتمال صيرورته وكاسر لتسلسله الزمني ، فبعد ان يذكر القاص مثلاً (( وكلما مت أقمت علي طقوس الوداع...وهكذا أستمر.! ))، ويحمل القارئ على توقع استمرارية هذا الحدث الثانوي في زمن قريب ، كما مهد لذلك بالاشارة الحالية الفعل / استمر ، نجده ينتقل الى حدث ثانوي اخر وقع في زمن مضى ((..تهت الطريق ))، وهذا بدوره متضاد الدلالةً مع مابعده (( وكفي مرشدي )) في ( تهت / مرشدي ) مما يزيد من تصدع حبكة الحدث القصصي ، وتشظي فكرته .
والفضاء المكاني ميتافيزيقي ، تخيّلي ، لاعقلاني ، فالقصور ، المدن ،الشوارع ، الارصفة ، اماكن غير محددة الملامح ، بلا وصف خارجي يقارب موضعتها سوسيولوجياً .
كما لاوصف داخلي يحدد ملامح الصراع النفسي لبطل القصة الذي يمثله الراوي بضمير المتكلم بانواعه المنفصلة والمتصلة ، الظاهرة والغائبة ( انا ، تاء الفاعل ، ياء المفعولية واخرى متضايفة ) مما يجعله غير محايداً في روايته ، والكاتب وظف هذا الضمير في مستويين صوتيين كما سيتضح لاحقاً
والقاص التزم بالخصيصة السريالية في جعل تشظي البنية السردية تخدم
عجائبية الدلالات والمعاني ، لتشكل واقعاً لامعقولاًً يمنح القارئ الدهشة والجنوح بخياله لتصور عالم بلا حقائق (( الج السينما، أتفرجني، السيناريو أنا كاتبه، والمخرج والمنتج والأبطال، حتى بائع التذاكر هو أنا )) ، مشوّه المعاني ، ويحمله على البحث عن المغزى من كل هذا الهذيان .
فيما عدا هذا تبدو اللغة السردية لاتواصلية / لاخطابية ( لا مرسل / لارسالة / لامرسل اليه ) ،
لكن ما ضمنه الكاتب اشاراته الغرائبية من مقاصدً مخبوءة تحتانياً ، ينفي عنها سياقها الهذياني اللاواعي / يميط عنها قناعها المسريل ، ويكشف عن حقيقتها القصدية المشفرة الدلالات ،لاتكائها على الازاحتين الدلالية والتركيبة ، وان تمفصلها مع السريلة انما كان بقصد اخفاء رسائلها الخطابية عن عين الرقيب السلطوي وهذا ما سيظهره تفكيك الاشارات السابقة :
( ثرت وانقلبت، حكمتني، قتلتني، سجنتني، ولا أنتهي! ) فدلالاتها التحتانية متضامة تضادياً في سياق توليدي تعاقبي ، فكل اشارة تولِّد مقابلها الذي تليها ، مما يخرجها عن لاقصديتها وهذيانية اتساقها ، ويحيلها الى سياق الفعل الثوري الشعاراتي، ضمير المتكلم موظَّف هنا للتدليل على من قام بفعل الثورة ( وكذلك الافعال التالية له ) وهو مستوى مغاير للمتكلم الراوية ، فالكاتب استفاد مما اتاحته له لاعقلانية اللغة السريالية من قفز فوق منطقية الدلالات ، فأحل ضمير المفرد المتكلم ( تاء الفاعل ) بدل الضمير ( واو الجمع ) فحقيقة الفعل / ثاروا ، انقلبوا ...الخ وذلك بقصد التمويه واخفاء حقيقة المعنى عن الرقيب ايضاً كما يلي :
ـ ثرت : فعل تغيير جذري للواقع نحو الافضل ً ، متضام مع ضديده / انقلبت : فعل تغيير الواقع شكليا ،اي ابدال وجوه الحكام المثار ضدهم فقط ، والإبقاء على شمولية سلطتهم في الواقع ) ،
ـ الواو التي عاطفت بين ثرت و انقلبت : اعطت دلالة نسقية تتابعية بمعنى ان الثورة والانقلاب هما فعلان متتابعان على نسق واحد، والافعال التي تلت كانت مقطوعة العطف ( الغطف المختزل بحذف حرفه ) للتدليل على ان هذه الافعال هي معطوفة بذاتها على (الانقلاب ) كونها من نتائجه المباشرة
هنا الكاتب ( دسَّ ) هذا الحرف العاطف ( الواو ) ، كمفتاح دلالي مكمل لمفتاح العنوان ، ليشير الى قصدية نصه السردي ، بكيفية تعبيرية مخادعة ومضللة للرقيب.
المقاربة الدلالية : الثورة الزائفة / الشعاراتية ،
ـ حكمت : بالاحالة على / ثرت ، يقتضي ان يكون الحكم عادلاً وفق القياس المنطقي : الصفة الكلية توازي بالتشابه الصفة الجزئية
فلما كان الفعل الثوري يتصف بأنه مغيّرايجابي كلي /اي لجميع جوانب الحياة، فصفته هذه تشمل الجزئي وهو نظام الحكم فيقتضي هنا ان يكون حكماً عادلاً
ولما كانت الثورة شعاراتية ، جاءت صفتها الكلية زائفة ايضاً
فاتصف الجزئي / الحكم ، بالجور والبطش مما ولَّد الاشارتين التاليتين له :
ـ قتلتُ و سجنت : اعدام المعارضين واعتقالهم.
ِ~الاشارات ((كفنتني، دفنتني، صليت علي الجنازة) مقامية السياق تحيل خارجياً الى سياق العادات والتقاليد الاجتماعية العربية الاسلامية /الطقوس الدينية الخاصة بالتكفين والدفن والصلاة على الميت .
هنا الكاتب يخرق بوضوح ما دعت اليه السريالية في بيانها التأسيسي بالتخلص واقصاء الضوابط والعادات السلوكية والاعراف الجمعية والتعاليم الدينية ، وعمل على ( موضعة ) قصته ( عربياً ) مما يجعلنا نحيل الى هذه الموضعة تلك التقابلات سالفة الذكر .
~ الاشارتان المتعاطفتان (خلفتني ....،و تناسيتني ):
.خلقتني : بالاحالة على شعاراتية الثورة ، تسكت عن دلالة تأليه المخلوق / الحاكم ، ورفعه الى مرتبة الخالق ، وهذه الاشارة مولدة للاشارة ( الحاكم الثيوقراطي / ظل الله في الارض ) .
. نسيتني : دلالة على نسيان ذلك الحاكم وعوده الوردية لأبناء الشعب ماان يتولى السلطة.
بالتعرف على هذه الرسائل بعد تفكيك شيفرات دلالاتها التحتانية نستدل على هوية المرسل اليه فهو المواطن العربي الذي يغيش واقعاُ يهيمن عليه حكام متألهون ، شعاراتيون ، يصادرون حاضره ومستقبله ويقهرون حلمه بالحرية ، وتحقيق ذاته ، ويحوله الى كائن يعيش حياة رتيبة فارغة من معاني الخلق والابداع ((....وكل فرد هو أنا..رأيتني شعبا يمشي، يتسوق، يعمل، يتعب، يفرح، يحزن، يعيش، يموت. )) ، وتدفعه لايقينية واقعه الاخروي ،للبحث خارج مدارات المنطق ، وراء عقلانية المعاش ، في عالم الخيال ، عن ملاذ امن ، يعانق فيه سلامه الداخلي ، ولايغادره (( ..لا أود الخروج من كفي،))
تنتهي القصة بضربة فنية ذكية (( الشمس تحرقني، والقمر يطفئني، النهار ينشرني والليل يلبسني...
وأنا نائم!! ))
دوران الحياة ستمر بلا توقف ، والمواطن العربي لما يزل ينعم بعناق ذاته في ملاذه الامن .. لكن .. وهو نائم !!
ـ باسم الفضلي العراقي ـ
16 / 9 / 2019

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق