Mohamed Khassif
ملامح حداثة معطوبة – 3
محمد خصيف
كان على الفنان أيضا أن يروض الماضي وهو يبتكر المستقبل حتى يتجرد العمل الفني وينفلت من الزمن، وحتى يتسامى في سباته المغناطيسي عبر تلك الاستعادة الدائمة للزمن. (الخطيبي)
أظن أن الحداثة الفنية بصيغتها العربية لم تستطع لا "ترويض الماضي" ولا "ابتكار المستقبل"، بل سعت إلى خلق ثقافة بصرية، عبارة عن "لعبة مرايا يجرب فيها كل فنان عربي حظه ويبيع أعماله". (الخطيبي)
إنها لعبة مرايا لم تساعد أبدا على التحرر من القيود التي لزمتنا منذ قرون ووسعت سوار "الحلقة المفقودة" التي باتت من خصوصيات زمننا الثقافي وتاريخنا الجمالي. وكي نحقق ذلك الانعتاق لزمنا أن نتخذ موقفا واضحا "يتلخص في رفض تراثين: تراث الثقافة المسيطرة على عالمنا الحاضر التي تدعي العالمية والإلمامية وتعرض نفسها علينا إلى حد الإلزام والضغط ولا تفتح لنا سوى باب التقليد أو الاعتراف بالقصور، وتراث ثقافة الماضي الذي اخترناه تعبيرا لنا في عهودنا السابقة لكنه لم يعد اليوم يعبر عن جميع جوانب نفسيتنا". (العروي)
فالفنان العربي لم يفلح في خلق نهج جديد "مبني على التجربة والمخاطرة"، لتجاوز مأزق التكرار والاجترار. فتجربته، رغم ما وصلت إليه من عالمية وهمية، لم "تتبلور في شخصية جديدة، وفي موقف جديد، وفي إحساس جديد، وفي تعبير جديد". (العروي). فهو لم يستطع تكوين شخصية جديدة ينافس به الآخر، المهيمن والمسيطر ليساير ركب الحداثة العالمية، بل نجده يعمل على "خلق ثقافة منا وإلينا"، ساعدت على إجهاض مشروع الحداثة الفنية فبقيت "في الواقع (ك) خلق فلكلور جديد لا أقل ولا أكثر". (العروي)
والمؤسف له أن هذا الواقع "الفلكلوري" تكرس بشدة خلال العقدين الأخيرين، واشتد عوده، وباتت الحركة التشكيلية العربية تنظر إلى الوراء، وتتقبل بصدر رحب أي شيء وارد، دون اعتمال الشكوك في النوايا والمقاصد.
في الوقت الذي نجد الحداثة الفنية الأوروبية تقطع نسبيا، حبل الصرة مع التقاليد الجمالية اليونانية -اللاتينية والتراث الفني الكلاسيكي، وما يرتبط به من قواعد وأسس وسلوكات، تبقى الحداثة الفنية العربية لصيقة بالتراث الفني العربي-الإسلامي -الأمازيغي، حيث صبت ما غرفته منه في قوالب حداثية غربية متجاوزة. "ففي الحين الذي كان فيه الفن الأوروبي في نهاية القرن 19 وبدايات القرن 20 يبتكر حداثته، كان الشرق يدخل، عبر لعبة مرايا دائمة ومدواخة، في التشخيص ويعود باستمرار للتجريد" (عبد الكبير الخطيبي)
لقد قطعت الحداثة الغربية مع ماضيها وتراثها وتاريخها، وكانت القطيعة نسبية ولم تكن مطلقة، كما يعتقد البعض. فهي بدورها "استمدت مشروعيتها عبر إحداث وصل مع الماضي وإعادة الاعتبار له". فلولا الارتشاف من تراث أمم وشعوب غير أوروبية (عربية وإفريقية وأمريك لاتينية...)، ما كانت الحداثة الفنية الغربية لتطلع علينا بالصورة التي عرَّفتنا عليها منذ بزوغها مع مطلع القرن العشرين. فمن بين التأثيرات التي تعتبر حاسمة في نشأة الفن الحديث، تلك التي تنتمي إلى الشرق الأقصى (الصين واليابان)، وفنون العالم الإسلامي، وأفريقيا السوداء وأمريكا اللاتينية. فقد اكتشف الفنانون الأوروبيون أعمال زملائهم اليابانيين، هوكوساي Hokusai (1760-1849)، وهيروشيغي Hiroshi gué (1797-1858)، ويوتامارو (1753-1806)، وتبقى رسومات سيشو (1420-1506) مفتاحا لاستيعاب جمالية أعمال الهولندي فنسنت فان غوغ. (طوني ماريني)
محمد خصيف
كان على الفنان أيضا أن يروض الماضي وهو يبتكر المستقبل حتى يتجرد العمل الفني وينفلت من الزمن، وحتى يتسامى في سباته المغناطيسي عبر تلك الاستعادة الدائمة للزمن. (الخطيبي)
أظن أن الحداثة الفنية بصيغتها العربية لم تستطع لا "ترويض الماضي" ولا "ابتكار المستقبل"، بل سعت إلى خلق ثقافة بصرية، عبارة عن "لعبة مرايا يجرب فيها كل فنان عربي حظه ويبيع أعماله". (الخطيبي)
إنها لعبة مرايا لم تساعد أبدا على التحرر من القيود التي لزمتنا منذ قرون ووسعت سوار "الحلقة المفقودة" التي باتت من خصوصيات زمننا الثقافي وتاريخنا الجمالي. وكي نحقق ذلك الانعتاق لزمنا أن نتخذ موقفا واضحا "يتلخص في رفض تراثين: تراث الثقافة المسيطرة على عالمنا الحاضر التي تدعي العالمية والإلمامية وتعرض نفسها علينا إلى حد الإلزام والضغط ولا تفتح لنا سوى باب التقليد أو الاعتراف بالقصور، وتراث ثقافة الماضي الذي اخترناه تعبيرا لنا في عهودنا السابقة لكنه لم يعد اليوم يعبر عن جميع جوانب نفسيتنا". (العروي)
فالفنان العربي لم يفلح في خلق نهج جديد "مبني على التجربة والمخاطرة"، لتجاوز مأزق التكرار والاجترار. فتجربته، رغم ما وصلت إليه من عالمية وهمية، لم "تتبلور في شخصية جديدة، وفي موقف جديد، وفي إحساس جديد، وفي تعبير جديد". (العروي). فهو لم يستطع تكوين شخصية جديدة ينافس به الآخر، المهيمن والمسيطر ليساير ركب الحداثة العالمية، بل نجده يعمل على "خلق ثقافة منا وإلينا"، ساعدت على إجهاض مشروع الحداثة الفنية فبقيت "في الواقع (ك) خلق فلكلور جديد لا أقل ولا أكثر". (العروي)
والمؤسف له أن هذا الواقع "الفلكلوري" تكرس بشدة خلال العقدين الأخيرين، واشتد عوده، وباتت الحركة التشكيلية العربية تنظر إلى الوراء، وتتقبل بصدر رحب أي شيء وارد، دون اعتمال الشكوك في النوايا والمقاصد.
في الوقت الذي نجد الحداثة الفنية الأوروبية تقطع نسبيا، حبل الصرة مع التقاليد الجمالية اليونانية -اللاتينية والتراث الفني الكلاسيكي، وما يرتبط به من قواعد وأسس وسلوكات، تبقى الحداثة الفنية العربية لصيقة بالتراث الفني العربي-الإسلامي -الأمازيغي، حيث صبت ما غرفته منه في قوالب حداثية غربية متجاوزة. "ففي الحين الذي كان فيه الفن الأوروبي في نهاية القرن 19 وبدايات القرن 20 يبتكر حداثته، كان الشرق يدخل، عبر لعبة مرايا دائمة ومدواخة، في التشخيص ويعود باستمرار للتجريد" (عبد الكبير الخطيبي)
لقد قطعت الحداثة الغربية مع ماضيها وتراثها وتاريخها، وكانت القطيعة نسبية ولم تكن مطلقة، كما يعتقد البعض. فهي بدورها "استمدت مشروعيتها عبر إحداث وصل مع الماضي وإعادة الاعتبار له". فلولا الارتشاف من تراث أمم وشعوب غير أوروبية (عربية وإفريقية وأمريك لاتينية...)، ما كانت الحداثة الفنية الغربية لتطلع علينا بالصورة التي عرَّفتنا عليها منذ بزوغها مع مطلع القرن العشرين. فمن بين التأثيرات التي تعتبر حاسمة في نشأة الفن الحديث، تلك التي تنتمي إلى الشرق الأقصى (الصين واليابان)، وفنون العالم الإسلامي، وأفريقيا السوداء وأمريكا اللاتينية. فقد اكتشف الفنانون الأوروبيون أعمال زملائهم اليابانيين، هوكوساي Hokusai (1760-1849)، وهيروشيغي Hiroshi gué (1797-1858)، ويوتامارو (1753-1806)، وتبقى رسومات سيشو (1420-1506) مفتاحا لاستيعاب جمالية أعمال الهولندي فنسنت فان غوغ. (طوني ماريني)
وفي عام 1911، نقرأ للفنان الروسي فاسيلي كاند نسكي Wassily Kandinsky
(1866-1944)، رائد المدرسة التجريدية، ما كتبه إلى زميله فرانز كارك Franz
Marc (1880-1916)، وهو على أهبة الاستعداد لتأليف روزنامة "الفارس الأزرق"٭
L’almanach du Der Blaue: "لدي مشروع جديد. نوع من روزنامة مصحوبة بنسخ
مصورة ومقالات...إنه ارتباط مع الماضي ووهج يضيء المستقبل. يجب أن نجعل هذه
المرآة حية ... سنضع عملاً مصريًا بجوار زيه صغير (اسم طفلين موهوبين
للرسم) وعملا صينيا بجوار عمل هنري روسو Douanier Rousseau ٭، ورسم شعبي
بجانب عمل لبيكاسو وهكذا".
شهدت هذه الفترة أيضًا اهتمامًا متزايدًا بفنون العالم الإسلامي. وقد تركز الاهتمام بشكل خاص على الأرابيسك والمنمنمة والخط. فقد وجد كل من إدوار فويلار (1868-1940)، إميل برنار (1868-1941)، موريس دوني (1870-1943)، بيار بونار (1868-1947)، هنري ماتيس (1869-1954)، غوستاف كليمت (1862-1918)، راؤول دوفي (1877-1953) ... مسارهم الفني ينحرف نحو أشكال نقية، متعرجة وخطية. وغزت فضاءاتهم التشكيلية مساحات مؤثتة بألوان مسطحة، تحمل كل معانيها بداخلها. مساحات تحاول "إعطاء العلامة والحركة استقلال الشكل الصافي". فأعلن بيار بونار أن اللوحة "يجب أن تكون عالمًا صغيرا مستقلا". وليس من قبيل الصدف أن يتكلم إخصائي في الفن الإسلامي مثل ألكسندر بابادوبولو، في مؤلفه الرائع "الإسلام والفن الإسلامي"، عن "عالم مستقل"، خاص بأنساق الفن الإسلامي الجمالية، يراوغ من خلالها المروق اللاهوتي والحظر الديني.
إنه أيضًا هذا العالم المستقل والمتحرر الذي يدعونا للتأمل في اللوحات التكعيبية، حتى قبل النظر في تجربة "كاندينسكي" التجريدية. فلوحات الرسامين التكعيبيين، التي متحت من الفنون الإفريقية بعض نواظمها الجمالية...لم تنفلت هي كذلك من قبضة الموروث الفني الإسلامي. كتبت الناقدة T. Maraini في هذا الصدد: "نحن ننسى أنه بعد 1910، كانت تكويناتهم (أي التكعيبيين) -المطوية إلى السطح، والمتداخلة والمبنية طبقا لنظام بؤرات النظر المتعددة – تتصرف داخل فضاء ثنائي الأبعاد، مثل السجاد، والنوافير، والهياكل الهندسية الممثلة من أعلى، أو متدرجة في الارتفاع ومطوية لأسفل، كما هو الحال في العديد من المنمنمات العربية والفارسية. انظروا كشواهد، بعض تأسيسات عمل جورج براك".
الحقيقة أنه يصعب مماثلة النصوص التكعيبية لمرجعيات فنية إسلامية. فمن العسير جعل الفضاء التشكيلي التكعيبي الذي أُنشئ وفقاً لمفاهيم ومعايير فنية معينة، يتماهى مع أنظمة جمالية انكتبت عليها تأسيسات المنمنمات العربية أو الفارسية.
أخذ الخط العربي بإيماءاته، وحياده اللوني، وروحانيته، وصوفيته القسط الأوفي من فهرست العوامل المؤثرة في فناني الحداثة الأوروبية. لقد كان نَفَسا بالنسبة لغالبية الفنانين ذوي الميول التجريدية الذين اعتمدوا في لوحاتهم الحركة والبصمة والإيماء والشاعرية. وأتمثل هنا بجورج ماتيو (1921-2012)، فرانز كلاين (1912-1962)، هانز هارتونغ (1904-1989)، بيير سولاج (97 عاما)، ومارك توبي (1890-1976).
الواقع كما أشارت إلى ذلك طوني ماريني، أن فناني الحداثة الأوروبية ارتحلوا بعقولهم وعواطفهم نحو الشرق، البعض منهم وطأ حقيقة تربة فنونه، بينما تجاوز آخرون ذلك المشرق بأحلامهم ووعيهم. ويبقى السفر المزدوج من الأساسيات لإدراك طبيعة جوانب معينة من الفن الحديث وإضافاته الجمالية والمفاهيمية المستقاة من الثقافات الأخرى. "من خلال فنون الآخر، جعل الرسامون بعض أعماق الوعي تطفو على السطح، مقللين من الأسئلة الحرجة حول الوجود واللغة". (طوني ماريني). فسفرهم لم يسقطهم في فخاخ التكرار، بل كان "ضرورة (ل) نهج طريق، جديد بعيدا عن إرادة الاستعادة والتكرارية". (العروي)
وهكذا يمكن استيعاب الدور الذي لعبته التنقلات في نشأة العديد من الحركات الفنية مثل: الفنون والحرف Arts and Crafts والفن الجديد Art Nouveau ou Jugendstil والرمزية، ومجموعة الأنبياء Nabis والفارس الأزرق، والددائية والسريالية والتجريدية...
"عاش جمال الشرق"...
شعار رفعت رايته عاليا حركة Rayonnisme الروسية، عبر بيانها عام 1913. وأي جمال تُتَصوَّرُ المطالبةُ به في تلك الفترة الحامية والمشتعلة بالشعارات الطليعية؟
من المؤكد أن ذلك الجمال هو ما اكتشفه، بعد أربعين سنة، الفنان المغربي أحمد الشرقاوي (1934-1967) عندما زار معرضا لروجر بيسيير Roger Bissière (1886-1964)، أحد أعمدة مدرسة باريس الفرنسية. يقول أحمد الشرقاوي متأثرا وهو يتأمل لوحات الفنان الفرنسي: "لما رأيته أول مرة كنت متأثرا حتى بكيت. لقد شعرت بصدمة غريبة إزاء أعماله. كنت أرى أمامي الجمال مجسدا".
هوامش ومراجع:
* الفارس الأزرق (بالألمانية: Der Blaue Reiter) إحدى الحركات الفنية التي ظهرت في أوروبا وأسسها كل من الفنانين التشكيليين فاسيلي كاندينسكي (Wassily Kandinesky) وفرانز مارك (Franz Marc) في مدينة ميونخ الألمانية عام 1911. ولأن كلا منهما يحب استخدام اللون الأزرق في اعماله الفنية، ولأن مارك كان يهوى رسم الخيول بينما فاسيلي كاندينسكي يفضل رسم الفرسان فقد سميت (جماعة الفارس الأزرق) وضمت مجموعة من الفنانين امثال كوفكا (Kofca) الذي طبع ألوان لوحاته بطابع موسيقي فريد، والفنان روبرت ديلوني (Delawny) والذي تميزت اعماله الفنية بألوانها الجوهرية الصافية. الشكل والجمال: اهتم كاندينسكي بالجانب الروحي في الفن وألف كتابه (فن الانسجام الروحي) عام 1912. (Wikipédia)
*الرسام العصامي هنري روسي الملقب ب Douanier Rousseau (1844-1910)، حظي بتشجيع رواد الحداثة الفنية الفرنسية منهم بيكاسو وماتيس وبراك والشاعر أبولينير. فقد اكتشفوا في لوحاته ما كانوا يبحثون عنه: العفوية، التعبير الحر، الخروج عن القواعد الرسمية للفن.
- الفن العربي المعاصر للدكتور عبد الكبير الخطيبي -شبكة قامات الثقافية. http://www.qamat.org/909vb/showthread.php?t=779
- عبد الله العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، المركز الثقافي العربي، ط3، الدار البيضاء 1992.
- كمال التومي، "ظاهرة التجريد في الرسم المغربي: إضاءات لموقف عبد العروي" مجلة علامات، http://saidbengrad.free.fr/al/n9/8.htm
- Toni Maraini-Ecrits sur l’art، Editions Le Fennec، Casablanca, 2014
شهدت هذه الفترة أيضًا اهتمامًا متزايدًا بفنون العالم الإسلامي. وقد تركز الاهتمام بشكل خاص على الأرابيسك والمنمنمة والخط. فقد وجد كل من إدوار فويلار (1868-1940)، إميل برنار (1868-1941)، موريس دوني (1870-1943)، بيار بونار (1868-1947)، هنري ماتيس (1869-1954)، غوستاف كليمت (1862-1918)، راؤول دوفي (1877-1953) ... مسارهم الفني ينحرف نحو أشكال نقية، متعرجة وخطية. وغزت فضاءاتهم التشكيلية مساحات مؤثتة بألوان مسطحة، تحمل كل معانيها بداخلها. مساحات تحاول "إعطاء العلامة والحركة استقلال الشكل الصافي". فأعلن بيار بونار أن اللوحة "يجب أن تكون عالمًا صغيرا مستقلا". وليس من قبيل الصدف أن يتكلم إخصائي في الفن الإسلامي مثل ألكسندر بابادوبولو، في مؤلفه الرائع "الإسلام والفن الإسلامي"، عن "عالم مستقل"، خاص بأنساق الفن الإسلامي الجمالية، يراوغ من خلالها المروق اللاهوتي والحظر الديني.
إنه أيضًا هذا العالم المستقل والمتحرر الذي يدعونا للتأمل في اللوحات التكعيبية، حتى قبل النظر في تجربة "كاندينسكي" التجريدية. فلوحات الرسامين التكعيبيين، التي متحت من الفنون الإفريقية بعض نواظمها الجمالية...لم تنفلت هي كذلك من قبضة الموروث الفني الإسلامي. كتبت الناقدة T. Maraini في هذا الصدد: "نحن ننسى أنه بعد 1910، كانت تكويناتهم (أي التكعيبيين) -المطوية إلى السطح، والمتداخلة والمبنية طبقا لنظام بؤرات النظر المتعددة – تتصرف داخل فضاء ثنائي الأبعاد، مثل السجاد، والنوافير، والهياكل الهندسية الممثلة من أعلى، أو متدرجة في الارتفاع ومطوية لأسفل، كما هو الحال في العديد من المنمنمات العربية والفارسية. انظروا كشواهد، بعض تأسيسات عمل جورج براك".
الحقيقة أنه يصعب مماثلة النصوص التكعيبية لمرجعيات فنية إسلامية. فمن العسير جعل الفضاء التشكيلي التكعيبي الذي أُنشئ وفقاً لمفاهيم ومعايير فنية معينة، يتماهى مع أنظمة جمالية انكتبت عليها تأسيسات المنمنمات العربية أو الفارسية.
أخذ الخط العربي بإيماءاته، وحياده اللوني، وروحانيته، وصوفيته القسط الأوفي من فهرست العوامل المؤثرة في فناني الحداثة الأوروبية. لقد كان نَفَسا بالنسبة لغالبية الفنانين ذوي الميول التجريدية الذين اعتمدوا في لوحاتهم الحركة والبصمة والإيماء والشاعرية. وأتمثل هنا بجورج ماتيو (1921-2012)، فرانز كلاين (1912-1962)، هانز هارتونغ (1904-1989)، بيير سولاج (97 عاما)، ومارك توبي (1890-1976).
الواقع كما أشارت إلى ذلك طوني ماريني، أن فناني الحداثة الأوروبية ارتحلوا بعقولهم وعواطفهم نحو الشرق، البعض منهم وطأ حقيقة تربة فنونه، بينما تجاوز آخرون ذلك المشرق بأحلامهم ووعيهم. ويبقى السفر المزدوج من الأساسيات لإدراك طبيعة جوانب معينة من الفن الحديث وإضافاته الجمالية والمفاهيمية المستقاة من الثقافات الأخرى. "من خلال فنون الآخر، جعل الرسامون بعض أعماق الوعي تطفو على السطح، مقللين من الأسئلة الحرجة حول الوجود واللغة". (طوني ماريني). فسفرهم لم يسقطهم في فخاخ التكرار، بل كان "ضرورة (ل) نهج طريق، جديد بعيدا عن إرادة الاستعادة والتكرارية". (العروي)
وهكذا يمكن استيعاب الدور الذي لعبته التنقلات في نشأة العديد من الحركات الفنية مثل: الفنون والحرف Arts and Crafts والفن الجديد Art Nouveau ou Jugendstil والرمزية، ومجموعة الأنبياء Nabis والفارس الأزرق، والددائية والسريالية والتجريدية...
"عاش جمال الشرق"...
شعار رفعت رايته عاليا حركة Rayonnisme الروسية، عبر بيانها عام 1913. وأي جمال تُتَصوَّرُ المطالبةُ به في تلك الفترة الحامية والمشتعلة بالشعارات الطليعية؟
من المؤكد أن ذلك الجمال هو ما اكتشفه، بعد أربعين سنة، الفنان المغربي أحمد الشرقاوي (1934-1967) عندما زار معرضا لروجر بيسيير Roger Bissière (1886-1964)، أحد أعمدة مدرسة باريس الفرنسية. يقول أحمد الشرقاوي متأثرا وهو يتأمل لوحات الفنان الفرنسي: "لما رأيته أول مرة كنت متأثرا حتى بكيت. لقد شعرت بصدمة غريبة إزاء أعماله. كنت أرى أمامي الجمال مجسدا".
هوامش ومراجع:
* الفارس الأزرق (بالألمانية: Der Blaue Reiter) إحدى الحركات الفنية التي ظهرت في أوروبا وأسسها كل من الفنانين التشكيليين فاسيلي كاندينسكي (Wassily Kandinesky) وفرانز مارك (Franz Marc) في مدينة ميونخ الألمانية عام 1911. ولأن كلا منهما يحب استخدام اللون الأزرق في اعماله الفنية، ولأن مارك كان يهوى رسم الخيول بينما فاسيلي كاندينسكي يفضل رسم الفرسان فقد سميت (جماعة الفارس الأزرق) وضمت مجموعة من الفنانين امثال كوفكا (Kofca) الذي طبع ألوان لوحاته بطابع موسيقي فريد، والفنان روبرت ديلوني (Delawny) والذي تميزت اعماله الفنية بألوانها الجوهرية الصافية. الشكل والجمال: اهتم كاندينسكي بالجانب الروحي في الفن وألف كتابه (فن الانسجام الروحي) عام 1912. (Wikipédia)
*الرسام العصامي هنري روسي الملقب ب Douanier Rousseau (1844-1910)، حظي بتشجيع رواد الحداثة الفنية الفرنسية منهم بيكاسو وماتيس وبراك والشاعر أبولينير. فقد اكتشفوا في لوحاته ما كانوا يبحثون عنه: العفوية، التعبير الحر، الخروج عن القواعد الرسمية للفن.
- الفن العربي المعاصر للدكتور عبد الكبير الخطيبي -شبكة قامات الثقافية. http://www.qamat.org/909vb/showthread.php?t=779
- عبد الله العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، المركز الثقافي العربي، ط3، الدار البيضاء 1992.
- كمال التومي، "ظاهرة التجريد في الرسم المغربي: إضاءات لموقف عبد العروي" مجلة علامات، http://saidbengrad.free.fr/al/n9/8.htm
- Toni Maraini-Ecrits sur l’art، Editions Le Fennec، Casablanca, 2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق