أسمهان بدير
الأفق اللغوي وكثافة الصور في قيم الشهادة
قراءة في قصة ((الموت المحيي))
أياد النصيري
الشاعرة الدكتورة اسمهان بدير لها مكانتها الأدبية في سوح الادب العربي بما تمتلك من ادوات وتراكيب لغوية ولها مساحة واسعة في شتى الموضوعات -اضافة الى الشعر والرسم والموسيقى وقد صدر لها 32 مطبوع متنوع بشتى صنوف الادب والشعر وعلم الاجتماع والفلسفة هي خريجة جامعة السوربون فإنها تجيد كتابة القصص القصيرة
نقرأ للكاتبة نصا آخر في مسيرتها الأدبية والثقافية والفلسفية جدارته بما يعلن
النص الذي يعطينا- هو الذي يستحق كل ما يأخذه منا
النص الحر اقرب إلى القلب
إن الكاتب القصصي الناجح هو الذي يستلهم مادته من واقع الحياة من حوله مع عمل نوع من الدمج بين الواقع والخيال ورغم قلة ملامح الخيال في القصة إلا أن الكاتبة قد جعلتنا نحلق معها ومع بطل قصتها في رحاب عالم الشهادة بكل ما فيه من طهر وسمو وترفع عن كل ماديات الحياة.
بالرغم من أن متابعة سير الأحداث توحي للقارئ بعض الشيء بنهاية القصة إلا أن ذلك لا يمنع من التأثر بما قام به(( الشيخ موسى))من تضحية بروحه من أجل وطنه وأرضة والآخرين.
(( الشهادة))كانت هي الحدث الرئيس ومحور حياة البطل وقد استطاعت الكاتبة((أسمهان)) ( تجسيد ذلك من خلال اعتمادها الألفاظ المعبرة فقد استخدمت الكاتبةالكلمات
الشهادة(8))الموت(9))الرصاصة((8)الأرض((8)
وبملاحظة النسبة العددية للكلمات المذكورة نجد أن كلمات ((الشهادة +الموت)) قد ذكرت ((17)) وبالمقابل ذكرت كلمتي ((الأرض +الرصاصة) (16)مرة كأن المحصلة اللغوية تأخذنا في النهاية إلى ما أرادت الكاتبة توصيله إلينا من خلال الأحداث وحياة البطل ألا وهو: (قيمة الشهادة))
لو تعمقنا قليلا في ما وراء المعنى سنجد أننا أمام مفارقة ذات دلالات نفسية وفكرية فالنص في بعده الفكري الظاهر هو خطاب مرسل الى متلقي يخبر عن أحداث حقيقية مروعة حدثت في العديد من ارجاء الوطن العربي لها أهداف سياسية معينة تنقل وجهة نظر القاصة ، اما في بعدها النفسي والاجتماعي العميق نجد ان هذه الأهداف ما هي إلا سرد تسعى الكاتبة القاصةمن خلاله لجعل النص أكثر صدقا أمام المتلقي ولا يمكن ان نكتشف ذلك الى مافي نهاية القصة حيث ينكشف البعد الاخر الاكثر عمقا والذي يفضح لنا أنساق نفسية تتوق لمعنى وقيم الشهادة وكذلك اجتماعية أضمرها النص خلف المعاني السائدة والمتكررة
. ((أصيب حتمًا ، يصرخ ، يستنجد ، لعلها لحظة الشهادة. ، لحظة الموت ..
لا شيء يشبه لحظة الشهادة ، انه يسمع الأصوات ، هتافات قوية ، عالية ، رصاص مدو، ثم رصاص فقط ، رصاص ..
الأصوات تضعف ، تبعد ، تصبح أصداء ، قهقهات غير واضحة ، ولكن الرصاصة في الصدر ، ربما أكثر من رصاصة واحدة ، فقد سمع شيئًا ينكسر بعنف ، في مكان ما من الصدر ، لعله ضلع او مجموعة أضلاع))
وهنا يمكن تأمل قصة((الموت المحيي))أكثر تمثيلا لأسلوب( أسمهان) للوقوف على خاصية السرد التصويري التي تميز أسلوبها فضمنها تتأسس حساسية تعبيرية متقشفة مفارقة للثرثرة السردية السائدة إذ تجعل ((أسمهان))اللغة حسا بصريا خالصا تنبني به عوالم القصة ولا تسيجه من خارجه بتوصيفات خاطفة أقرب إلى بنائية التهجي السينمائي المؤسس على لقطات مختزنة لامتزاجات الشعور والصور
--------------------
((انها لحظة الموت المحيي .. لحظة الشهادة ، لا الدرب واحدًا واحدًا ، يرى زوجته ، أولاده ، يرى الأشياء ، جميع الأشياء ، البنادق ، الصخور ، الأبنية ، الرفاق))
وتكاد تزحزح كثافة الصور في متن القصة إلى دفق شعري فالذي يميز النثر الاعتيادي عن الشعر هو كثرة الانزياحات وهو ما يتوفر هنا عند(( أسمهان)) فالنص القصصي عندها يكتظ بصور شعرية تكاد تنسف أحيانا بنية السرد الدلالة أقرب إلى بنائية قصيدة النثر في اعتباطيتها وتكثفها وانتصارها لرجحان المعنى كقولها (( نار نار مسعورة ، مخيفة كنار جهنم )) وكذلك(( من يفلح الأرض غدًا ؟ من يحميها؟ ومن يشتل ؟)) و(طارت الرصاصة من الصدر ، تحولت إلى عصفور أبيض ، الشمس تشرق من جديد ، تعانق القمر ، تأتي الملائكة صفًا صفًا ، يملؤون الفضاء )) وهكذا فهي ضمن تلك المراوحة المحسوبة تنحت بحسها صورا مركبة ، مفعمة بالحركة وحس التدرج اللوني وتراكب الكتل والمسطحات التشكيلي والإحساس الغريزي بالزمن وتبدلات المشهد والتيقن من زاوية الرؤية التي يشكل منها في نهاية الأمر مشهدا أقرب إلى مكونات التصوير السينمائي
---------------
هنا نجد ان الأديبة ال
دكتورة((اسمهان بدير) قد اعطت في نصها القصصي إشارات تتراسل مع الحاسة البصرية أكثر مما تخاطب الأذن الأمر الذي يحتم توفر حساسية استشعار خاصة تعمل كعدسة لاقطة لتستجيب لطزاجة النص بما تتأمله على بياض الورقة لا بما تسمعه الأذن . وهنا يكمن وجه آخر للدهشة التي تولدها ( أسمهان))فالراوي عينان تلتقطان التماعات متلاحقة تنتظم كدراما بصرية دون وسائط بلاغية ، ودون أنزاح بالزمان والمكان إلى صور مجازية . كما تتولد اللذة في جانب آخر من حزمة العلامات اللغوية والدلالية البعيدة التي تضبط إيقاع القص وزمنه وبناءه المعماري
(( نام الجميع ، طارت الرصاصة من الصدر ،
،تحولت إلى عصفور أبيض ، الشمس تشرق من جديد ، تعانق القمر ، تأتي الملائكة صفًا صفًا ، يملؤون الفضاء ، انه الموت المحيي))
أي أن القصة لدى ((أسمهان)) كسرد تتجاوز مهمات الذاكرة الاسترجاعية إلى تأملات طرية تدفع بالقص بتمددها السكوني إلى أعماق الروح الإنسانية فتؤسس لخلائط من الوعي واللا وعي في مساحة ضئيلة جدا باقتدار محير على الامتداد سيكولوجيا في متخيل بعيد ،لدرجة أن النشوة التي تنتابنا بعد الفراغ من قراءة القصة تنزاح بنا إلى ضرب من توسل سر قوتها التعبيرية بحثا عن البنية الأعمق لنص أسمهان الحاضنة بالتأكيد لجماليته وبساطته أحيانا
النص
-------------------
الموت المحيي
الرصاصة في الصدر ، في مكان ما داخل الصدر ، لقد اخترقت جسمه بسهولة ، زلزلت ضلوعه ، مزقت رئتيه وما حولهما ، أحشاؤه تلتهب ، لقد أصيب .. أصيب حتمًا ، يصرخ ، يستنجد ، لعلها لحظة الشهادة. ، لحظة الموت ..
لا شيء يشبه لحظة الشهادة ، انه يسمع الأصوات ، هتافات قوية ، عالية ، رصاص مدو، ثم رصاص فقط ، رصاص ..
الأصوات تضعف ، تبعد ، تصبح أصداء ، قهقهات غير واضحة ، ولكن الرصاصة في الصدر ، ربما أكثر من رصاصة واحدة ، فقد سمع شيئًا ينكسر بعنف ، في مكان ما من الصدر ، لعله ضلع او مجموعة أضلاع .
كان صوتًا حادًّا ، حازمًا ، أحس به ، سمعه ، ثم أعقبته نار رهيبة ، شملت الصدر كله ، امتدت إلى بطنه ، ثم صعدت إلى الحنجرة ، واستقرت بالرأس ، نار نار مسعورة ، مخيفة كنار جهنم ، يتنفس بصعوبة ، يزفر دمًا ، نارًا ، ولكنه يتنفس ، لماذا الصدر ؟ لقد صوبوا بمهارة نادرة ! ولكن لماذا ؟ لماذا هو ؟ هو بالذات ! الجسم يشتعل جميع جسمه يشتعل ، انها لحظة الموت المحيي .. لحظة الشهادة ، لا ، لا ، انه يرى الناس ، الفلاحين ، يرى رفاق الدرب واحدًا واحدًا ، يرى زوجته ، أولاده ، يرى الأشياء ، جميع الأشياء ، البنادق ، الصخور ، الأبنية ، الرفاق ، ولكن الدمع يملأ عينه ، لماذا الدمع ؟ إنه يغزر ، يحجب الرؤية ، إن شيئًا ما يحدث حواليه ، شيئًا غير عادي ، المرئيات تتحول إلى أشباح ، أشباح جامدة ، وأخرى متحركة ، ، والدنيا تظلم ، تظلم ..
ماذا جرى ؟ ركبتيه على الأرض ، الأرض الذي عشقها ، الأرض التي يعطيها الحياة ، يرويها بدمائه ، وتعطيه الحياة ، بطعمها فتطعمه ، تحضن أولاده ، تعلمهم الشهادة ، تجعلهم يكبرون ، أولاده السبعة الأذكياء الشاطرون ، إنه على الأرض التي عشقها وعشقته .. الدم ينزف بغزارة .. الثقب كبير ، يسده بيده ، يده لزجة ، ثقيلة ، واليد الثانية تقبض بشدة على الكلاشنكوف الذي خيب أمله ، يقبض عليه بعصبية ، لا يستطيع التخلص منه ، انه منطرح على الأرض ، ، يشعر بدفئها ، لا يرغب في تركها ، يريد الراحة على صدرها ، ولكنه يرتفع، يرتفع ، قبضات قوية تضغط على زنديه ، أصوات متنافرة مبهمة : منصاب ، منصاب ، إصابته خطيرة ، عجل يا شيخ موسى ، عجل سيارة ، سيارة ..
أصوات غريبة ، مخيفة ، مرعبة ، الدمع يغزر ، يحجب كل شيء ، يتبين بعض الأشباح بصعوبة ، يشتد الضغط على زنديه ، لم يعد يحس بحضن الأرض ، انها تبتعد عنه ، رأسه يثقل ، إنها الكوفية ، تؤلمه ، تشد على رقبته ، تتمسك به ، يسند رأسه الى شيء جامد ، صلب ، ، لعله حجر ، لعله رأس رفيق يحضنه ، لعلها لحظة الفراق ، قبضة الموت ، الموت !، لماذا الموت ؟ لمذا الموت ؟ ، لا ، لا ، الإصابة ليست مميتة ، ، ليست مميتة ، ليس الموت بمثل هذه السهولة ، ، يترأى له وجه زوجته ، تببتسم له ، تشد على يده .. وجع رهيب ، وجع فقط ، سيزول ، ، سيسلم المحصول ، ويقطف الزيتون ، الأولاد ينتظرون عودتي ، الأرض تنتظر ، لم يكن وحده ، خروجوا كلهم ، كلهم مديونون لهذه الأرض ، كلهم مجاهدون ، خروجوا جميعًا ، فمن أصيب ، ومن استشهد.
أجفانه تغدو ثقيلة ، ، لا يرى شيئًا ، لا يسمع شيئًا ، لم يعد يشعر بالوجع ..، لكنه ليس الموت ، فهو يرى الان أولاده ، يراهم جميعًا ، يراهم في أوقات النهار ، يراهم عندما ينامون ، وعندما يستيقظون ، ويسمع أصواتهم وهم يدرسون ، وهم يلعبون ويتشاجرون ، غدًا يتضاعف المصروف ، غدًا نحصل على حاجاتنا ، وهو يرى التبغ ، تبغه ، تعبه ، يرى شتلاته في الحقل ، ، ويراه معلقًا في سقف البيت ، ويراه موضبًا ، التبغ هو الحياة ، وهو الرصاصة المستقرة بصدره ، سيُصبِح عاجزًا ، ، الأولاد صغار ، الدنيا كافرة ، والعدو شرس ، ، من يفلح الأرض غدًا ؟ من يحميها؟ ومن يشتل ؟ من يوضب ؟ السمع يضعف ، لا هتافات ولا طلقات ، انتهى كل شيء ، هدوء تام ، مات الجميع ، إنه الْيَوْمَ الموعود ، ، اين الشيخ موسى ؟ لقد كان معنا في الميدان ، لعله استشهد ؟ لا انه يرى الناس المندفعين كالسيل ، يرى قريته بيتًا بيتًا ، يرى اولاده ، يرى حقل الزيتون ، لعل الشيخ موسى قد استشهد؟ من يقرؤه الشهادة ؟ الدنيا تظلم تظلم لعله الليل ، نام الجميع ، طارت الرصاصة من الصدر ، تحولت إلى عصفور أبيض ، الشمس تشرق من جديد ، تعانق القمر ، تأتي الملائكة صفًا صفًا ، يملؤون الفضاء ، انه الموت المحيي
الأفق اللغوي وكثافة الصور في قيم الشهادة
قراءة في قصة ((الموت المحيي))
أياد النصيري
الشاعرة الدكتورة اسمهان بدير لها مكانتها الأدبية في سوح الادب العربي بما تمتلك من ادوات وتراكيب لغوية ولها مساحة واسعة في شتى الموضوعات -اضافة الى الشعر والرسم والموسيقى وقد صدر لها 32 مطبوع متنوع بشتى صنوف الادب والشعر وعلم الاجتماع والفلسفة هي خريجة جامعة السوربون فإنها تجيد كتابة القصص القصيرة
نقرأ للكاتبة نصا آخر في مسيرتها الأدبية والثقافية والفلسفية جدارته بما يعلن
النص الذي يعطينا- هو الذي يستحق كل ما يأخذه منا
النص الحر اقرب إلى القلب
إن الكاتب القصصي الناجح هو الذي يستلهم مادته من واقع الحياة من حوله مع عمل نوع من الدمج بين الواقع والخيال ورغم قلة ملامح الخيال في القصة إلا أن الكاتبة قد جعلتنا نحلق معها ومع بطل قصتها في رحاب عالم الشهادة بكل ما فيه من طهر وسمو وترفع عن كل ماديات الحياة.
بالرغم من أن متابعة سير الأحداث توحي للقارئ بعض الشيء بنهاية القصة إلا أن ذلك لا يمنع من التأثر بما قام به(( الشيخ موسى))من تضحية بروحه من أجل وطنه وأرضة والآخرين.
(( الشهادة))كانت هي الحدث الرئيس ومحور حياة البطل وقد استطاعت الكاتبة((أسمهان)) ( تجسيد ذلك من خلال اعتمادها الألفاظ المعبرة فقد استخدمت الكاتبةالكلمات
الشهادة(8))الموت(9))الرصاصة((8)الأرض((8)
وبملاحظة النسبة العددية للكلمات المذكورة نجد أن كلمات ((الشهادة +الموت)) قد ذكرت ((17)) وبالمقابل ذكرت كلمتي ((الأرض +الرصاصة) (16)مرة كأن المحصلة اللغوية تأخذنا في النهاية إلى ما أرادت الكاتبة توصيله إلينا من خلال الأحداث وحياة البطل ألا وهو: (قيمة الشهادة))
لو تعمقنا قليلا في ما وراء المعنى سنجد أننا أمام مفارقة ذات دلالات نفسية وفكرية فالنص في بعده الفكري الظاهر هو خطاب مرسل الى متلقي يخبر عن أحداث حقيقية مروعة حدثت في العديد من ارجاء الوطن العربي لها أهداف سياسية معينة تنقل وجهة نظر القاصة ، اما في بعدها النفسي والاجتماعي العميق نجد ان هذه الأهداف ما هي إلا سرد تسعى الكاتبة القاصةمن خلاله لجعل النص أكثر صدقا أمام المتلقي ولا يمكن ان نكتشف ذلك الى مافي نهاية القصة حيث ينكشف البعد الاخر الاكثر عمقا والذي يفضح لنا أنساق نفسية تتوق لمعنى وقيم الشهادة وكذلك اجتماعية أضمرها النص خلف المعاني السائدة والمتكررة
. ((أصيب حتمًا ، يصرخ ، يستنجد ، لعلها لحظة الشهادة. ، لحظة الموت ..
لا شيء يشبه لحظة الشهادة ، انه يسمع الأصوات ، هتافات قوية ، عالية ، رصاص مدو، ثم رصاص فقط ، رصاص ..
الأصوات تضعف ، تبعد ، تصبح أصداء ، قهقهات غير واضحة ، ولكن الرصاصة في الصدر ، ربما أكثر من رصاصة واحدة ، فقد سمع شيئًا ينكسر بعنف ، في مكان ما من الصدر ، لعله ضلع او مجموعة أضلاع))
وهنا يمكن تأمل قصة((الموت المحيي))أكثر تمثيلا لأسلوب( أسمهان) للوقوف على خاصية السرد التصويري التي تميز أسلوبها فضمنها تتأسس حساسية تعبيرية متقشفة مفارقة للثرثرة السردية السائدة إذ تجعل ((أسمهان))اللغة حسا بصريا خالصا تنبني به عوالم القصة ولا تسيجه من خارجه بتوصيفات خاطفة أقرب إلى بنائية التهجي السينمائي المؤسس على لقطات مختزنة لامتزاجات الشعور والصور
--------------------
((انها لحظة الموت المحيي .. لحظة الشهادة ، لا الدرب واحدًا واحدًا ، يرى زوجته ، أولاده ، يرى الأشياء ، جميع الأشياء ، البنادق ، الصخور ، الأبنية ، الرفاق))
وتكاد تزحزح كثافة الصور في متن القصة إلى دفق شعري فالذي يميز النثر الاعتيادي عن الشعر هو كثرة الانزياحات وهو ما يتوفر هنا عند(( أسمهان)) فالنص القصصي عندها يكتظ بصور شعرية تكاد تنسف أحيانا بنية السرد الدلالة أقرب إلى بنائية قصيدة النثر في اعتباطيتها وتكثفها وانتصارها لرجحان المعنى كقولها (( نار نار مسعورة ، مخيفة كنار جهنم )) وكذلك(( من يفلح الأرض غدًا ؟ من يحميها؟ ومن يشتل ؟)) و(طارت الرصاصة من الصدر ، تحولت إلى عصفور أبيض ، الشمس تشرق من جديد ، تعانق القمر ، تأتي الملائكة صفًا صفًا ، يملؤون الفضاء )) وهكذا فهي ضمن تلك المراوحة المحسوبة تنحت بحسها صورا مركبة ، مفعمة بالحركة وحس التدرج اللوني وتراكب الكتل والمسطحات التشكيلي والإحساس الغريزي بالزمن وتبدلات المشهد والتيقن من زاوية الرؤية التي يشكل منها في نهاية الأمر مشهدا أقرب إلى مكونات التصوير السينمائي
---------------
هنا نجد ان الأديبة ال
دكتورة((اسمهان بدير) قد اعطت في نصها القصصي إشارات تتراسل مع الحاسة البصرية أكثر مما تخاطب الأذن الأمر الذي يحتم توفر حساسية استشعار خاصة تعمل كعدسة لاقطة لتستجيب لطزاجة النص بما تتأمله على بياض الورقة لا بما تسمعه الأذن . وهنا يكمن وجه آخر للدهشة التي تولدها ( أسمهان))فالراوي عينان تلتقطان التماعات متلاحقة تنتظم كدراما بصرية دون وسائط بلاغية ، ودون أنزاح بالزمان والمكان إلى صور مجازية . كما تتولد اللذة في جانب آخر من حزمة العلامات اللغوية والدلالية البعيدة التي تضبط إيقاع القص وزمنه وبناءه المعماري
(( نام الجميع ، طارت الرصاصة من الصدر ،
،تحولت إلى عصفور أبيض ، الشمس تشرق من جديد ، تعانق القمر ، تأتي الملائكة صفًا صفًا ، يملؤون الفضاء ، انه الموت المحيي))
أي أن القصة لدى ((أسمهان)) كسرد تتجاوز مهمات الذاكرة الاسترجاعية إلى تأملات طرية تدفع بالقص بتمددها السكوني إلى أعماق الروح الإنسانية فتؤسس لخلائط من الوعي واللا وعي في مساحة ضئيلة جدا باقتدار محير على الامتداد سيكولوجيا في متخيل بعيد ،لدرجة أن النشوة التي تنتابنا بعد الفراغ من قراءة القصة تنزاح بنا إلى ضرب من توسل سر قوتها التعبيرية بحثا عن البنية الأعمق لنص أسمهان الحاضنة بالتأكيد لجماليته وبساطته أحيانا
النص
-------------------
الموت المحيي
الرصاصة في الصدر ، في مكان ما داخل الصدر ، لقد اخترقت جسمه بسهولة ، زلزلت ضلوعه ، مزقت رئتيه وما حولهما ، أحشاؤه تلتهب ، لقد أصيب .. أصيب حتمًا ، يصرخ ، يستنجد ، لعلها لحظة الشهادة. ، لحظة الموت ..
لا شيء يشبه لحظة الشهادة ، انه يسمع الأصوات ، هتافات قوية ، عالية ، رصاص مدو، ثم رصاص فقط ، رصاص ..
الأصوات تضعف ، تبعد ، تصبح أصداء ، قهقهات غير واضحة ، ولكن الرصاصة في الصدر ، ربما أكثر من رصاصة واحدة ، فقد سمع شيئًا ينكسر بعنف ، في مكان ما من الصدر ، لعله ضلع او مجموعة أضلاع .
كان صوتًا حادًّا ، حازمًا ، أحس به ، سمعه ، ثم أعقبته نار رهيبة ، شملت الصدر كله ، امتدت إلى بطنه ، ثم صعدت إلى الحنجرة ، واستقرت بالرأس ، نار نار مسعورة ، مخيفة كنار جهنم ، يتنفس بصعوبة ، يزفر دمًا ، نارًا ، ولكنه يتنفس ، لماذا الصدر ؟ لقد صوبوا بمهارة نادرة ! ولكن لماذا ؟ لماذا هو ؟ هو بالذات ! الجسم يشتعل جميع جسمه يشتعل ، انها لحظة الموت المحيي .. لحظة الشهادة ، لا ، لا ، انه يرى الناس ، الفلاحين ، يرى رفاق الدرب واحدًا واحدًا ، يرى زوجته ، أولاده ، يرى الأشياء ، جميع الأشياء ، البنادق ، الصخور ، الأبنية ، الرفاق ، ولكن الدمع يملأ عينه ، لماذا الدمع ؟ إنه يغزر ، يحجب الرؤية ، إن شيئًا ما يحدث حواليه ، شيئًا غير عادي ، المرئيات تتحول إلى أشباح ، أشباح جامدة ، وأخرى متحركة ، ، والدنيا تظلم ، تظلم ..
ماذا جرى ؟ ركبتيه على الأرض ، الأرض الذي عشقها ، الأرض التي يعطيها الحياة ، يرويها بدمائه ، وتعطيه الحياة ، بطعمها فتطعمه ، تحضن أولاده ، تعلمهم الشهادة ، تجعلهم يكبرون ، أولاده السبعة الأذكياء الشاطرون ، إنه على الأرض التي عشقها وعشقته .. الدم ينزف بغزارة .. الثقب كبير ، يسده بيده ، يده لزجة ، ثقيلة ، واليد الثانية تقبض بشدة على الكلاشنكوف الذي خيب أمله ، يقبض عليه بعصبية ، لا يستطيع التخلص منه ، انه منطرح على الأرض ، ، يشعر بدفئها ، لا يرغب في تركها ، يريد الراحة على صدرها ، ولكنه يرتفع، يرتفع ، قبضات قوية تضغط على زنديه ، أصوات متنافرة مبهمة : منصاب ، منصاب ، إصابته خطيرة ، عجل يا شيخ موسى ، عجل سيارة ، سيارة ..
أصوات غريبة ، مخيفة ، مرعبة ، الدمع يغزر ، يحجب كل شيء ، يتبين بعض الأشباح بصعوبة ، يشتد الضغط على زنديه ، لم يعد يحس بحضن الأرض ، انها تبتعد عنه ، رأسه يثقل ، إنها الكوفية ، تؤلمه ، تشد على رقبته ، تتمسك به ، يسند رأسه الى شيء جامد ، صلب ، ، لعله حجر ، لعله رأس رفيق يحضنه ، لعلها لحظة الفراق ، قبضة الموت ، الموت !، لماذا الموت ؟ لمذا الموت ؟ ، لا ، لا ، الإصابة ليست مميتة ، ، ليست مميتة ، ليس الموت بمثل هذه السهولة ، ، يترأى له وجه زوجته ، تببتسم له ، تشد على يده .. وجع رهيب ، وجع فقط ، سيزول ، ، سيسلم المحصول ، ويقطف الزيتون ، الأولاد ينتظرون عودتي ، الأرض تنتظر ، لم يكن وحده ، خروجوا كلهم ، كلهم مديونون لهذه الأرض ، كلهم مجاهدون ، خروجوا جميعًا ، فمن أصيب ، ومن استشهد.
أجفانه تغدو ثقيلة ، ، لا يرى شيئًا ، لا يسمع شيئًا ، لم يعد يشعر بالوجع ..، لكنه ليس الموت ، فهو يرى الان أولاده ، يراهم جميعًا ، يراهم في أوقات النهار ، يراهم عندما ينامون ، وعندما يستيقظون ، ويسمع أصواتهم وهم يدرسون ، وهم يلعبون ويتشاجرون ، غدًا يتضاعف المصروف ، غدًا نحصل على حاجاتنا ، وهو يرى التبغ ، تبغه ، تعبه ، يرى شتلاته في الحقل ، ، ويراه معلقًا في سقف البيت ، ويراه موضبًا ، التبغ هو الحياة ، وهو الرصاصة المستقرة بصدره ، سيُصبِح عاجزًا ، ، الأولاد صغار ، الدنيا كافرة ، والعدو شرس ، ، من يفلح الأرض غدًا ؟ من يحميها؟ ومن يشتل ؟ من يوضب ؟ السمع يضعف ، لا هتافات ولا طلقات ، انتهى كل شيء ، هدوء تام ، مات الجميع ، إنه الْيَوْمَ الموعود ، ، اين الشيخ موسى ؟ لقد كان معنا في الميدان ، لعله استشهد ؟ لا انه يرى الناس المندفعين كالسيل ، يرى قريته بيتًا بيتًا ، يرى اولاده ، يرى حقل الزيتون ، لعل الشيخ موسى قد استشهد؟ من يقرؤه الشهادة ؟ الدنيا تظلم تظلم لعله الليل ، نام الجميع ، طارت الرصاصة من الصدر ، تحولت إلى عصفور أبيض ، الشمس تشرق من جديد ، تعانق القمر ، تأتي الملائكة صفًا صفًا ، يملؤون الفضاء ، انه الموت المحيي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق