هل وصل الفن إلى نهايته؟
1ـ هيجل و"موت الفن"
1ـ هيجل و"موت الفن"
محمد خصيف
إن هيجل لم يتوقع "التطور الذي لم يسبق له مثيل في حقل الجمالية وعلم الفن"، منذ فجر الأزمنة الحديثة، بل هو أول من توقع "نهاية الفن". فقد جاء في إحدى محاضراته: "إن الفن، أو على الأقل، إن غايته المثلى هي بالنسبة لنا شيء من الماضي. ولذا فقد الفن حقيقته وحياته".
ففي كتابه "الجمالية" Esthétique، يطرح هيجل فكرة "نهاية الفن" مع بداية الرومانسية. "فمنذ نشأة الرومانسية أعلن هيجل عن الموت الوشيك للفن الرومانسي بل للفن نفسه"(مارك جيمينيز)، وبالتالي أعلن عن زوال القيم والمعالم وأنه لم يعد هناك فنانون. الفن الرومانسي يؤدي إلى المفارقة التي تذيب كل المحتوى. فالتلذذ الجمالي ضاع مع اندثار العالم اليوناني.
"لم يعد الفن يوفر ذلك الرضا الذي باتت تبحث عنه الاحتياجات الروحية والأزمنة والشعوب القديمة ووجدته فقط في الفن نفسه. الفن بالنسبة لنا، من ناحية أعلى وجهته، أصبح شيئا من الماضي. نتيجة لذلك، فقد حقيقته وحيويته الأصيلة"
الفن شيء من الماضي، لقد تجاوزه الزمن. لكن التجاوز بالنسبة إلى هيجل هو تجاوز روحي وليس موتا ماديا فيزيائيا. فالأطروحة الهيجلية لا تقصد نهاية مادية للفن، فالفن يستمر كإنتاج فردي يعبر عن إبداع خوالج الذات.
لم تعد للفن وجهة مطلقة، ولكن هذا لا يعني أنه لا يوجد هناك فن، وإنما يلاحظ سقوطه من جديد في الاحتمالات والعرضية. إذ أصبح الفن بمثابة "لعبا بالأشياء" حيث يتم التعبير عن الإبداع الفردي، فأصبح الفنان "يعتبر نفسه أعلى من موضوعه وعمله الفني، متوهما بذلك أنه تحرر من مجمل الشروط التي تفرضها الطبيعة المحددة للمضمون وللشكل معا، معتقدا أنه يملك الأفكار وكيفية معالجتها، متخيلا أن كل شيء أصبح يتوقف على فكره وقوة موهبته". ربما أن هذه الأفكار تبطن لتنبؤ بأساسيات جمالية الفن الحديث الذي ظهر بعد عقود من وفاة الفيلسوف هيغل!
لم يعد الفن توافقياً: فهو لم يعد يعبر عن روح الشعب، ومن هنا كانت صعوبة الاعتراف بالشيء l’objet كعمل فني. إنها من إشكاليات الفن الراهن الأساسية، وسنعود إلى تحليل هذه النقطة فيما بعد.
يكتب هيجل: " بقي الفن – نظرا لغاياته العليا – كشيء من الماضي وبذلك فقد حقيقته وحيويته الأصلية وأصبح أدنى من ذلك". ويضيف: أن" الأثر الفني غير قادر على إرضاء حاجتنا الخيرة إلى المطلق، وفي أيامنا ما عدنا نبجل الأثر الفني، كما أن تصرفنا إزاء إبداعات الفن هو أكثر برودة ومدعاة للتفكير".
هناك من الفنون الرومانسية، في نظر هيجل، من هو جد مرتبط بالمشاعر الداخلية للروح، كتصوير البورتريه والموسيقى مثلا. لكن الرسم والموسيقى يجب أن يفسحا المجال أمام الشعر الأقرب إلى باطني المفهوم. أدى الفن الرومانسي إلى تناقض يتجلى في ترفع الذات عن الموضوع، وارتفاع الموضوع على حساب الكائن. إنه انتصار التفاهة والسخافة.
وحتى نزيل اللبس القائم يجب التوضيح أن الرومانسية التي يقصدها هيجل امتدت من القرون الوسطى الى القرن التاسع عشر، حيث تجسدت العودة الى التراث المسيحي القوطي Gothique وبدت معالمها واضحة في فن العمارة على الخصوص.
حسب الجمالية الهيجلية، ينقسم الفن إلى ثلاث مراحل تاريخية: الرمزية والكلاسيكية والرومانسية.
الرمزية: يتأسس هذا التصنيف على بنية الرمز، يشير الشكل الفني هنا إلى الفكرة رمزاً، ولا يفصح عنها إفصاحا خليق بالفكرة ذاتها، حيث يوجد عدم تطابق inadéquation بين الموضوع والمعنى، تؤكده الفجوة hiatus القائمة بين الشيء والعلامة. هذه الفجوة وفقا لهيجل ضرورية لنوع معين من الفن بما في ذلك العمارة (برونو هاس). ويتمثل الفن الرمزي في الفنون الشرقية الهندوسية والفنون الفرعونية. فالهرم الفرعوني مثلا يرفض الكشف عن دلالاته من أول وهلة، فتتراجع المادة الحسية للتعبير عن الفكرة، إذ الشكل الهرمي وكومة الأحجار يشيران إلى الفكرة رمزاً ويتضح أن الكتلة تفشل في الإفصاح عن حمولتها الفكرية إفصاحاً بينا وواضحا.
الكلاسيكية: المصطلح في حد ذاته لا يعني شيئا، فهو من باب حكم القيمة. يعتمد التصنيف الكلاسيكي الهيجلي على براديغم الصورة، الأيقونة. الصورة الشفافة التي لا تحتاج للتأويل أو الشرح. فهي كافية بنفسها ولنفسها. ويتجسد ذلك حسب هيجل، في النحت الإغريقي "الذي وصل إلى مرحلة الكمال، حيث تَوازى الشكل مع المضمون واتخذت الفكرة تعبيرها المطابق لها. [وتجسد ذلك بوضوح في الفن الإغريقي الذي يمثل] الحياة الروحية للشعب اليوناني. إنه دين جمالي. عندما يصل الفن إلى كماله، فهو دين الشعب اليوناني".
الرومانسية: تتمثل في فنون القرون الوسطى المسيحية وفنون القرن التاسع عشر، وهنا يفقد الشكل أهميته وينزاح لصالح المضمون. فأصبح الفن تعبيرا عن مشاغل الدين. وعندما يتم استيعاب الدين، تتحقق نهاية الفن العظيم. بالنسبة لهيجل، الفن ينتمي إلى الماضي لأن الدين قد استوعِب مع المسيحية.
يقول مارك جمنيز: " علينا أن نعرف أن العصر الرومانسي بالنسبة إلى هيجل يعني تلك المرحلة الفنية التي جاءت مع بداية الغرب المسيحي والتي عرفت عصرها الذهبي في العصر الوسيط وقد امتدت إلى غاية بداية القرن التاسع عشر".
وفي نظر هيجل أن كل مراحل الفن الرومانسي قد "تم اجتيازها" وأن كل الموضوعات والأشكال قد "تم استنفادها"، وفي غياب التجديد "ضرب الفنانون صفحا عن تفكيرهم" ويعني أن الفنانين المحدثين الذين عاشوا في بداية القرن التاسع عشر تحت طائلة التكرار والاجترار لم يكتفوا بإعادة إنتاج الفن الذي كان سائدا في العصور السابقة.
إن هيجل يتحدث عن الفنانين المحدثين الذين كانوا في بداية القرن 19، فهم محدثون بالنسبة لعصره أولا، وبالنسبة للفنون التي يعتبرها هو ويؤمن بها، أي تلك التي "تستجيب للتطلعات الروحية للأفراد". فهؤلاء كانوا يجترون ويكررون ما سبق دون أي مبادرة للتجديد.
ترى أي نوع من الفنانين يقصده هيجل بكلامه؟ وماهي التيارات الفنية التي عاشت مع بداية القرن 19 وكانت في نظره، معروفة بالاجترار والتكرار؟
ففي كتابه "الجمالية" Esthétique، يطرح هيجل فكرة "نهاية الفن" مع بداية الرومانسية. "فمنذ نشأة الرومانسية أعلن هيجل عن الموت الوشيك للفن الرومانسي بل للفن نفسه"(مارك جيمينيز)، وبالتالي أعلن عن زوال القيم والمعالم وأنه لم يعد هناك فنانون. الفن الرومانسي يؤدي إلى المفارقة التي تذيب كل المحتوى. فالتلذذ الجمالي ضاع مع اندثار العالم اليوناني.
"لم يعد الفن يوفر ذلك الرضا الذي باتت تبحث عنه الاحتياجات الروحية والأزمنة والشعوب القديمة ووجدته فقط في الفن نفسه. الفن بالنسبة لنا، من ناحية أعلى وجهته، أصبح شيئا من الماضي. نتيجة لذلك، فقد حقيقته وحيويته الأصيلة"
الفن شيء من الماضي، لقد تجاوزه الزمن. لكن التجاوز بالنسبة إلى هيجل هو تجاوز روحي وليس موتا ماديا فيزيائيا. فالأطروحة الهيجلية لا تقصد نهاية مادية للفن، فالفن يستمر كإنتاج فردي يعبر عن إبداع خوالج الذات.
لم تعد للفن وجهة مطلقة، ولكن هذا لا يعني أنه لا يوجد هناك فن، وإنما يلاحظ سقوطه من جديد في الاحتمالات والعرضية. إذ أصبح الفن بمثابة "لعبا بالأشياء" حيث يتم التعبير عن الإبداع الفردي، فأصبح الفنان "يعتبر نفسه أعلى من موضوعه وعمله الفني، متوهما بذلك أنه تحرر من مجمل الشروط التي تفرضها الطبيعة المحددة للمضمون وللشكل معا، معتقدا أنه يملك الأفكار وكيفية معالجتها، متخيلا أن كل شيء أصبح يتوقف على فكره وقوة موهبته". ربما أن هذه الأفكار تبطن لتنبؤ بأساسيات جمالية الفن الحديث الذي ظهر بعد عقود من وفاة الفيلسوف هيغل!
لم يعد الفن توافقياً: فهو لم يعد يعبر عن روح الشعب، ومن هنا كانت صعوبة الاعتراف بالشيء l’objet كعمل فني. إنها من إشكاليات الفن الراهن الأساسية، وسنعود إلى تحليل هذه النقطة فيما بعد.
يكتب هيجل: " بقي الفن – نظرا لغاياته العليا – كشيء من الماضي وبذلك فقد حقيقته وحيويته الأصلية وأصبح أدنى من ذلك". ويضيف: أن" الأثر الفني غير قادر على إرضاء حاجتنا الخيرة إلى المطلق، وفي أيامنا ما عدنا نبجل الأثر الفني، كما أن تصرفنا إزاء إبداعات الفن هو أكثر برودة ومدعاة للتفكير".
هناك من الفنون الرومانسية، في نظر هيجل، من هو جد مرتبط بالمشاعر الداخلية للروح، كتصوير البورتريه والموسيقى مثلا. لكن الرسم والموسيقى يجب أن يفسحا المجال أمام الشعر الأقرب إلى باطني المفهوم. أدى الفن الرومانسي إلى تناقض يتجلى في ترفع الذات عن الموضوع، وارتفاع الموضوع على حساب الكائن. إنه انتصار التفاهة والسخافة.
وحتى نزيل اللبس القائم يجب التوضيح أن الرومانسية التي يقصدها هيجل امتدت من القرون الوسطى الى القرن التاسع عشر، حيث تجسدت العودة الى التراث المسيحي القوطي Gothique وبدت معالمها واضحة في فن العمارة على الخصوص.
حسب الجمالية الهيجلية، ينقسم الفن إلى ثلاث مراحل تاريخية: الرمزية والكلاسيكية والرومانسية.
الرمزية: يتأسس هذا التصنيف على بنية الرمز، يشير الشكل الفني هنا إلى الفكرة رمزاً، ولا يفصح عنها إفصاحا خليق بالفكرة ذاتها، حيث يوجد عدم تطابق inadéquation بين الموضوع والمعنى، تؤكده الفجوة hiatus القائمة بين الشيء والعلامة. هذه الفجوة وفقا لهيجل ضرورية لنوع معين من الفن بما في ذلك العمارة (برونو هاس). ويتمثل الفن الرمزي في الفنون الشرقية الهندوسية والفنون الفرعونية. فالهرم الفرعوني مثلا يرفض الكشف عن دلالاته من أول وهلة، فتتراجع المادة الحسية للتعبير عن الفكرة، إذ الشكل الهرمي وكومة الأحجار يشيران إلى الفكرة رمزاً ويتضح أن الكتلة تفشل في الإفصاح عن حمولتها الفكرية إفصاحاً بينا وواضحا.
الكلاسيكية: المصطلح في حد ذاته لا يعني شيئا، فهو من باب حكم القيمة. يعتمد التصنيف الكلاسيكي الهيجلي على براديغم الصورة، الأيقونة. الصورة الشفافة التي لا تحتاج للتأويل أو الشرح. فهي كافية بنفسها ولنفسها. ويتجسد ذلك حسب هيجل، في النحت الإغريقي "الذي وصل إلى مرحلة الكمال، حيث تَوازى الشكل مع المضمون واتخذت الفكرة تعبيرها المطابق لها. [وتجسد ذلك بوضوح في الفن الإغريقي الذي يمثل] الحياة الروحية للشعب اليوناني. إنه دين جمالي. عندما يصل الفن إلى كماله، فهو دين الشعب اليوناني".
الرومانسية: تتمثل في فنون القرون الوسطى المسيحية وفنون القرن التاسع عشر، وهنا يفقد الشكل أهميته وينزاح لصالح المضمون. فأصبح الفن تعبيرا عن مشاغل الدين. وعندما يتم استيعاب الدين، تتحقق نهاية الفن العظيم. بالنسبة لهيجل، الفن ينتمي إلى الماضي لأن الدين قد استوعِب مع المسيحية.
يقول مارك جمنيز: " علينا أن نعرف أن العصر الرومانسي بالنسبة إلى هيجل يعني تلك المرحلة الفنية التي جاءت مع بداية الغرب المسيحي والتي عرفت عصرها الذهبي في العصر الوسيط وقد امتدت إلى غاية بداية القرن التاسع عشر".
وفي نظر هيجل أن كل مراحل الفن الرومانسي قد "تم اجتيازها" وأن كل الموضوعات والأشكال قد "تم استنفادها"، وفي غياب التجديد "ضرب الفنانون صفحا عن تفكيرهم" ويعني أن الفنانين المحدثين الذين عاشوا في بداية القرن التاسع عشر تحت طائلة التكرار والاجترار لم يكتفوا بإعادة إنتاج الفن الذي كان سائدا في العصور السابقة.
إن هيجل يتحدث عن الفنانين المحدثين الذين كانوا في بداية القرن 19، فهم محدثون بالنسبة لعصره أولا، وبالنسبة للفنون التي يعتبرها هو ويؤمن بها، أي تلك التي "تستجيب للتطلعات الروحية للأفراد". فهؤلاء كانوا يجترون ويكررون ما سبق دون أي مبادرة للتجديد.
ترى أي نوع من الفنانين يقصده هيجل بكلامه؟ وماهي التيارات الفنية التي عاشت مع بداية القرن 19 وكانت في نظره، معروفة بالاجترار والتكرار؟
يكتب هيجل في المجلد الثاني من "جمالية"، ص. 340: "لا أي هوميروس ولا أي سوفوكليس ولا أي دانتي ولا أي أرسطو ولا أي شكسبير لا يمكن أن ينتجهم عصرنا فما أنشد بهذه الروعة، وما جرى التعبير عنه بالحرية التي فعلها هؤلاء الشعراء الكبار، حصل لمرة واحدة وأخيرة".
وكتب أيضا قبل هذا الكلام:" بلغنا ختام الرومانسية، عتبة الفن الحديث، الذي نقى على تحديد ميله العام بالأمر التالي، وهو أن فردية الفنان تتوقف عن أن تكون محكومة بالشروط المعطاة لهذا المضمون أو ذاك ولهذا الشكل أو ذاك، بل يسود هذا مثل ذاك ويحتفظ كل منهما بحرية اختياره وإنتاجه". ص. 335.
ولا بد أن نشير إلى أن مثل هذا التفكير ولفهمه واستيعابه يجب وضعه في إطار نسقه العام الجمالي والفلسفي الهيجلي وإلا سنسقط في متاهات التأويل المجانية والمغالطات التي ربما تؤدي بنا إلى تحريف مقاصد الفيلسوف.
إن هيغل يتحدث عن واقع عصره الذي يرى فيه "انحطاط" و"تفكك" الفنون. فهو يتحدث عن نهاية الفن الرومانسي منذ مقدمة كتابه، تلك النهاية التي توافق الفن كله.
"نحترم الفن، نعجب به إلا أننا ما عدنا نرى فيه شيئا غير قابل للتخطي ولا الظهور الحميمي للمطلق، بتنا نخضعه لتحليل تفكيرنا ولا نقوم بهذا بقصد استثارة إبداع آثار فنية جديدة..."
"إن أيام الفن الإغريقي الجميلة والعصر الذهبي في القرون الوسطى المتأخرة انقضت ولم تعد الظروف العامة في زماننا مناسبة للفن (...) يبقى الفن لنا في أشكاله كلها وفي مآله الخير شيئا من الماضي. وبهذا الفعل فقد في أنظارنا ما كان فيه متأصلا، وأنه حقيقي وحيوي، في واقعه والحاجة إليه، ويجد الفن نفسه من الآن فصاعدا متدني الرتبة في تصوراتنا".
من خلال هذا الكلام يتضح أن هيغل لا يصرح مباشرة بموت الفن ونهايته ولا أن الفنانين اختفوا وانقرضوا، ولكنه يرى أن فن عصره لم يعد يعبر عما كان يعبر عنه من انتظارات واعتقادات الحضارات القديمة، لذلك يبقى الفن الإغريقي والفن الوسيطي (القوطي) شيئا من الماضي.
هذه الفكرة تطرح أفكارا أخرى اتخذت كإشكاليات كبيرة في الجمالية لدى القدامى والمحدثين، ألا وهي فكرة "التقدم والرجعية" في الفن. ومن تم تطرح مسألة تطور الإبداع الفني نحو الأحسن، مع الاعتقاد أن تاريخ الفن يكشف لنا ربما عن درجات امتياز نصل بها إلى مستوى الجودة.
نتساءل إذا: هل يوجد تأخر في الفن؟ أي هل يمكن الحديث عن تقهقر من الأحسن إلى الأسوأ؟ وما معنى الجودة في الفن؟ وما مقاييسها؟ وهل هي مطلقة وقارة في الزمن الفني؟
وكتب أيضا قبل هذا الكلام:" بلغنا ختام الرومانسية، عتبة الفن الحديث، الذي نقى على تحديد ميله العام بالأمر التالي، وهو أن فردية الفنان تتوقف عن أن تكون محكومة بالشروط المعطاة لهذا المضمون أو ذاك ولهذا الشكل أو ذاك، بل يسود هذا مثل ذاك ويحتفظ كل منهما بحرية اختياره وإنتاجه". ص. 335.
ولا بد أن نشير إلى أن مثل هذا التفكير ولفهمه واستيعابه يجب وضعه في إطار نسقه العام الجمالي والفلسفي الهيجلي وإلا سنسقط في متاهات التأويل المجانية والمغالطات التي ربما تؤدي بنا إلى تحريف مقاصد الفيلسوف.
إن هيغل يتحدث عن واقع عصره الذي يرى فيه "انحطاط" و"تفكك" الفنون. فهو يتحدث عن نهاية الفن الرومانسي منذ مقدمة كتابه، تلك النهاية التي توافق الفن كله.
"نحترم الفن، نعجب به إلا أننا ما عدنا نرى فيه شيئا غير قابل للتخطي ولا الظهور الحميمي للمطلق، بتنا نخضعه لتحليل تفكيرنا ولا نقوم بهذا بقصد استثارة إبداع آثار فنية جديدة..."
"إن أيام الفن الإغريقي الجميلة والعصر الذهبي في القرون الوسطى المتأخرة انقضت ولم تعد الظروف العامة في زماننا مناسبة للفن (...) يبقى الفن لنا في أشكاله كلها وفي مآله الخير شيئا من الماضي. وبهذا الفعل فقد في أنظارنا ما كان فيه متأصلا، وأنه حقيقي وحيوي، في واقعه والحاجة إليه، ويجد الفن نفسه من الآن فصاعدا متدني الرتبة في تصوراتنا".
من خلال هذا الكلام يتضح أن هيغل لا يصرح مباشرة بموت الفن ونهايته ولا أن الفنانين اختفوا وانقرضوا، ولكنه يرى أن فن عصره لم يعد يعبر عما كان يعبر عنه من انتظارات واعتقادات الحضارات القديمة، لذلك يبقى الفن الإغريقي والفن الوسيطي (القوطي) شيئا من الماضي.
هذه الفكرة تطرح أفكارا أخرى اتخذت كإشكاليات كبيرة في الجمالية لدى القدامى والمحدثين، ألا وهي فكرة "التقدم والرجعية" في الفن. ومن تم تطرح مسألة تطور الإبداع الفني نحو الأحسن، مع الاعتقاد أن تاريخ الفن يكشف لنا ربما عن درجات امتياز نصل بها إلى مستوى الجودة.
نتساءل إذا: هل يوجد تأخر في الفن؟ أي هل يمكن الحديث عن تقهقر من الأحسن إلى الأسوأ؟ وما معنى الجودة في الفن؟ وما مقاييسها؟ وهل هي مطلقة وقارة في الزمن الفني؟
هوامش:
ـ مارك جيمينيز ـ ما الجمالية؟ ترجمة د. شربل داغر، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى: بيروت، نيسان (أبريل) 2009
ـ Hegel Georg Wilhelm Friedrich. Esthétique. Trad. Ch. Bénard, revue et complétée par B. Timmermans et P. Zaccaria, Paris, Le livre de poche. 1997
ـ مارك جيمينيز ـ ما الجمالية؟ ترجمة د. شربل داغر، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى: بيروت، نيسان (أبريل) 2009
ـ Hegel Georg Wilhelm Friedrich. Esthétique. Trad. Ch. Bénard, revue et complétée par B. Timmermans et P. Zaccaria, Paris, Le livre de poche. 1997
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق