قصص ودراسات نقدية يوسف عبود جويعد
دراستي النقدية للمجموعة الشعرية كلما كسروا قلمي طويت ورقي للشاعر جواد غلومالمنشورة في جريدة الدستور ليوم 11-2-2019
حزمة الضوء في المجموعة الشعرية..." كلما أفسدوا قلماً؛ طويت ورقي " للشاعر جواد غلوم
دراسة نقدية يوسف عبود جويعد
عندما ينبثق النص الشعري من زحمة خراب شامل، خراب في البلد، وخراب في العلاقة الإنسانية، سواءً كان ذلك بين المرأة والرجل في تلك العلاقة الإنسانية التي اتحدت بين زوجين، او علاقة الصداقة، أو العلاقة مع الناس كل الناس،أو العلاقة مع الذات عندما تكون مع كل هذه الفوضى، عندها تحدث الإنكسارات الكبيرة، والهزات الروحية المتكررة التي تشبه تلك الهزات الارتدادية التي تحدث في الطبيعة، ليتمخض عنها نصوص شعرية لا فراغ فيها، ويكون الإحساس فيها أشبه بإنطلاقة لحزمة ضوء تنشطر الى عدة أجزاء، لتدخل الى الوجدان والذهن والروح لتحيلها كتلة متحدة، مع النص هذا ما سوف نجده، في المجموعة الشعرية (كلما أفسدوا قلماً،طويت ورقي) للشاعر جواد غلّوم،كما أن تلك النصوص أتاحت لي فرصة، لكي أمر على علاقة الشاعر بالنص الذي يقوم بصياغته، وماهي تلك العلاقة؟، وكيف تكون، ومالذي ينتج عنها؟،إذ أننا سنقف على حقيقة مهمة جداً وتدخل ضمن إنشاء وتكوين الشعر، ومستواه في الوعي والنسق الفني وثيماته الكبيرة وموضوعاته التي تختلف بإختلاف كل شاعر من حيث الوعي والثقافة ومعرفته لصناعة القصيدة، إذ أننا سوف نكتشف ومن خلال رحلتنا من تلك النصوص، أن الشاعر جواد غلّوم، لم يتمكن أن ينسج قصيدته بهذا النسق الفني الرائق، مالم يكن قد سبر أغوار فن صناعة القصيدة الشعرية بكل أنماطها، وتسلح بالثقافة والمعرفة التامة، وتمكن من اللغة بشكل مبهر، وخاض التجارب المستمرة من أجل الوصول الى هذا النضج الفني، لأننا سوف نكتشف بأن كل شيء في فضاء النص هو عالم من الشعر الصافي النقي الإصيل،وهذا لايعني الإطراء والغلو في المديح، لأن ذلك إن لم يكن في مكانه الصحيح سيكون حديثا زائفا وكاذبا ، فالحكم بيننا هو التكوين والتشكيل والبناء لبنية القصيدة، حيث وجدت .
إن القصيدة لدى الشاعر، قد إكتمل بناؤها نضجاً وفناً وثيمة وموضوعاً ومفردات تنتمي الى هذا العالم الكبير، ، عالم الشعر، كونه قد إستحضر كل أدوات أعداد النص الشعري، وكما تشير بنية العنونة، التي نحس من خلالها أن الشخصية التي رسم ملامحها في النص الشعري، وهي ذات الشاعر، قد حاول إنتزاعها من كل هذا الخراب ليكون شاهدا نقيا صافيا صادقا .
يقدم لنا حقيقة هذا الإنقلاب المرعب الرهيب في وجه الحياة، والتي تأثر بها فإحدثت له الاهتزازات الارتدادية التي أنتجت هذه النصوص، التي نجد فيها الدهشة والاستغراب، ونجد فيها الصورة النقية الصافية مضمرة تحت هذا البناء للنص الشعري،لأن الجمال لايمكن أن يتوضح الا إذا شاهدنا الوجه المضاد له القبح، وكلما كبر وإزداد هذا القبح ظهر الجمال موازياً له.
كما أن العناوين التي إختارها الشاعر لتكون مدخلاً لنصوصه الشعرية، هي مجتزأة من متن النص الشعري، قد تكون من البداية، او الوسط، أو نهاية القصيدة، وهي ليست كلمة واحدة،وإنما حسب سياق القصيدة واسلوب تناولها.
وهكذا فنحن مهيأين تماماً لخوض غمار تجربة الشاعر، للولوج الى عالمه الشعري، وسبر كنهه.
في قصيدة (أستوي على عرشِ جَمْرِكِ وأبتردُ) نرحل معه وهو يقدم لنا رؤيته الشعرية،لعلاقته مع امرأة تمردت عليه، واختلت موازين العلاقة بينهما فيقول :
أتدركين ياحفيدة الدهاءُ
بأنكِ استويتِ أعلى العرشْ
مليكة يؤمُّها الحاشيةُ الكبارُ
والرعيةُ الصغارْ
آلهةٌ يحيطُها الملائك الأبرار
وأنني سأمتطي جنونَ ثورٍ هائجٍ
وصهوةٍ من نارْ
بكرنفالٍ صاخبٍ عريضْ
وأنني ضحية مقطّعةْ
بين ذئاب جائعةْ
وسط سيوف لامعةْ
بالأمس كنتِ كالشغافِ في الفؤادِ
كالسنى الطالع في الآفاق
فهل تنمّرتْ عيونُكِ الزرقُ
وكيف يقوى قلبي الطافح بالحنانِ
أن يغازلَ اللبوةَ والذئبةَ
وفي النص الشعري ( القصيدة الثانية لابن زريق البغدادي) ولكي نكتشف مضمون هذا النص، علينا أن نمر بشكل موجز عن حياة ابن زريق البغدادي.
(ابن زريق البغدادي (المتوفي سنة 420 هـ / 1029 م) هو أبو الحسن علي أبو عبد الله بن زريق الكاتب البغدادي شاعر عباسي.
ارتحل ابن زريق من بغداد موطنه الأصلي قاصداً بلاد الأندلس، لعله يجد فيها من لين العيش وسعة الرزق ما يعوضه عن فقره، ويترك الشاعر في بغداد زوجة يحبها وتحبه كل الحب، ويخلص لها وتخلص له كل الإخلاص، فمن أجلها يهاجر ويسافر ويغترب وهناك في بلاد الأندلس – كما تقول لنا الروايات والأخبار المتناثرة – يجاهد الشاعر ويكافح من أجل تحقيق الحلم، لكن التوفيق لا يصاحبه، فهناك يمرض ويشتد به المرض وتكون نهايته ووفاته في الغربة؛ ويضيف الرواة بعداً جديداً للمأساة، فيقولون أن القصيدة التي لا يعرف له شعرٌ سواها وجدت معه عند وفاته سنة أربعمائة وعشرين من الهجرة. قصيدة ( لا تعذليه فإن العذل يولعه).
وهكذا نجد هذا النص متصلاً اتصالاً حميماً مع حياة ابن زريق في رحلته وغربته ووفاته في الغربة:
تركتُ مُناي ببغدادَ مُتَّكأٌ للحنين
بُنياتي الناضراتُ قذىٌ في العيون
وزوجيَ أرجوحةٌ تقاذفها الهمُّ والغمُّ
تأبى الوقوفَ ولا تستكين
وقلبي جمُرٌ كوتُّهُ الشجون
كفاني أجوب الفيافي الطوال
سلكتُ القفار، ذرعتُ البراري
خياميَ بادت، فلا وتدٌ يستطيل
متى أستظل بأفياء أهلي؟!
حين يعمى مسار الطريق
ويصدأُ وجهُ البريق
أنا شاعرٌ أثقلتْهُ الصعاب
جاع أولادهُ
وهوى ضوؤهُ
كنتُ أمشي أحاذي الجدار
وأبعد عن زمرةِ المدْحِ والقدْح
لي عالمي الذي ضمني
أصوغُ القنوتَ الى الله شِعراً ثرياً
وأدعو الى الحب والصلوات
لم أكن داعراً مثل صحبي
ولا شاتماً أحداً
ولا شاحذاً مثل شطارنا .
وفي قصيدة ( حمامتي والطيور السود) التي يقول عنها :
( كتبت هذه القصيدة إثر سقوط طيور سود على رؤوس المارّة وفي الطرقات في لويزيانا وأركنسو قبل بضع سنوات)
بينا أنا أتحسس بطاقة "ألبان أمريكان"
التي دسستها في جيب معطفي
فإذا صدمةُ طائرٍ هطلت على رأسي
كنتُ حزمتُ أمتعتي مسافراً إلى وطني
قل لي أيها الرأس:
حتامَ تبقى مشتتاً؟
فإذا بطائر أسود آخر لطم رأسي
وفي قصيدة (هزيمة بنكهة النصر) نكون مع فضاء نص شعري، تتحول فيه الهزيمة الى نصر.
لا أعبأ من رصاصة تصوّب نحوي من بعيد
إنها بالكاد تلامس أناملي
تدغدغ سكوني
خوفي من حجارةٍ ترمى عليَّ عن قرب
فتشج رأسي وتُدمي قلبي
إنها حجارةُ أهلي رماةِ المنجنيق
أما قصيدة (ماذا لو صارت إذاً جازمةٌ) التي نجد فيها حالة من الثورة الشعرية الرافضة لواقع منبوذ تجتاح النص.
إذا أوقف المتفيقهون فتاواهم الفاسدة
وانحسرتْ روائحُهم الكريهة
من أفواههم
وابيضتْ أسنانهم الصفر
وأخضرت أعينهم العور
سأستعير ظهرَ أيةِ سلحفاة مُسنّة
وأرفع بعاتقي كلَّ المسلاتِ الكونكريتية
الجاثمةِ على صدر عاصمتي
وفي قصيدة (ما ضرّني جمرةٌ تجثو علي جسَدي) التي نطوف فيها عبر لغة شعرية، بين الوطن بالامس واليوم.
نحن ابتلينا بإبليس وزمرتهِ
أشاع فينا الأسى والفقر والجرَبا
ضاق َ الفضاءُ بهم من فرطِ لوثتهمْ
وأطفئوا الشمس والأقمار والشهبا
ما ضرّني جمر تجثو على جسدي
بل شاقني صحبةٌ صاروا لها لهبا
أين النجوم التي كانت تلاحقنا
تحدو الزمان إلى الأمجاد والحقبا؟
أين العراق الذي ناخ الجميع له
وأنبت الطّهرَ والأطهار والنجبا؟
رشَّ الحضارات عطراً وافراً ثملا
تضوّعَ المجدُ منه حيثما سكبا
قاد الريادة في الاصقاع منفرداً
وأجزل الكرَمَ المعطاء ما وهبا
وهي قصيدة طويلة تستعرض بكل دقة واقع هذا البلد الاصيل المتصل بعمق التاريخ
وبما أن الذات التي إنسلخت من روح الشاعر لتدخل فضاء النص، هي
ناقمة مستاءة من سوء الحياة وإنقلاب الصحب والخلان, وإنتشار الكذب والرياء، وساد الخراب وشمل كل نواحي الحياة، فأنه لا يجد سوى البيت منجىً وواحة لراحة باله، هذا ما تقدمه قصيدة ( فمالي إلا البيتُ منجىً وواحةٌ):
وفي الروح شرخٌ والجسوم هزيلة
وفي الحلقِ قيء والسماوات لا تصبو
فليس أمامي غير قحط وغُصة
أرى القتل طغياناً إذا ضُيعَ اللّبُ
بلادي ميادينٌ من السحتِ والأسى
أحبتنا تنْأى وفرساننا تكبو
فمالي إلا البيت منجىً وواحةٌ
إذا ثُقِبَ المشحوفُ والمركبُ الصعبُ
الى الله شكوانا فقد طفح الضنى
فليس لنا غير الرؤوف لنا حسبُ
وعن الشعر والشاعر، وإستسهال تدوين القصيدة، والسرعة في إعدادها يقدم لنا الشاعر قصيدة (شاعر ثقيل الظل):
ليت هذا الشاعر الذي يلاحقهُ صبيةُ الشعر
ويرفعونه الى منابر تجاور الانجم
يلبسونه عباءةَ المهابة
ويُتوجونهُ بباروكة شكسبير
يشدون عنقه بربطة "اليوت"
يكسون جسده بطيلسان أبي محسّد
ليت هذا المكثر بدواوينهِ
المسرفُ أمواله بين جيوب الناشرين
وصائدي الكلمات الرثة
ليته يطبع في ذاكرتنا بيتاً جميلاً واحداً
ضمت هذه المجموعة نصوص شعرية كبيرة تضاهي في جودتها ونضوجها ورصانة بنائها الأعمال الكبيرة لشعرائنا الذين أجادوا صياغة القصيدة الشعرية باستحضار كامل ادواتها، كما نجد في هذا المجموعة الوعي والثقافة واللغة الطيعة المرنة .
هذه المجموعة الشعرية هي من إصدارات أمل الجديدة – طباعة – نشر – توزيع –سورية –دمشق لعام 2018.
دراسة نقدية يوسف عبود جويعد
عندما ينبثق النص الشعري من زحمة خراب شامل، خراب في البلد، وخراب في العلاقة الإنسانية، سواءً كان ذلك بين المرأة والرجل في تلك العلاقة الإنسانية التي اتحدت بين زوجين، او علاقة الصداقة، أو العلاقة مع الناس كل الناس،أو العلاقة مع الذات عندما تكون مع كل هذه الفوضى، عندها تحدث الإنكسارات الكبيرة، والهزات الروحية المتكررة التي تشبه تلك الهزات الارتدادية التي تحدث في الطبيعة، ليتمخض عنها نصوص شعرية لا فراغ فيها، ويكون الإحساس فيها أشبه بإنطلاقة لحزمة ضوء تنشطر الى عدة أجزاء، لتدخل الى الوجدان والذهن والروح لتحيلها كتلة متحدة، مع النص هذا ما سوف نجده، في المجموعة الشعرية (كلما أفسدوا قلماً،طويت ورقي) للشاعر جواد غلّوم،كما أن تلك النصوص أتاحت لي فرصة، لكي أمر على علاقة الشاعر بالنص الذي يقوم بصياغته، وماهي تلك العلاقة؟، وكيف تكون، ومالذي ينتج عنها؟،إذ أننا سنقف على حقيقة مهمة جداً وتدخل ضمن إنشاء وتكوين الشعر، ومستواه في الوعي والنسق الفني وثيماته الكبيرة وموضوعاته التي تختلف بإختلاف كل شاعر من حيث الوعي والثقافة ومعرفته لصناعة القصيدة، إذ أننا سوف نكتشف ومن خلال رحلتنا من تلك النصوص، أن الشاعر جواد غلّوم، لم يتمكن أن ينسج قصيدته بهذا النسق الفني الرائق، مالم يكن قد سبر أغوار فن صناعة القصيدة الشعرية بكل أنماطها، وتسلح بالثقافة والمعرفة التامة، وتمكن من اللغة بشكل مبهر، وخاض التجارب المستمرة من أجل الوصول الى هذا النضج الفني، لأننا سوف نكتشف بأن كل شيء في فضاء النص هو عالم من الشعر الصافي النقي الإصيل،وهذا لايعني الإطراء والغلو في المديح، لأن ذلك إن لم يكن في مكانه الصحيح سيكون حديثا زائفا وكاذبا ، فالحكم بيننا هو التكوين والتشكيل والبناء لبنية القصيدة، حيث وجدت .
إن القصيدة لدى الشاعر، قد إكتمل بناؤها نضجاً وفناً وثيمة وموضوعاً ومفردات تنتمي الى هذا العالم الكبير، ، عالم الشعر، كونه قد إستحضر كل أدوات أعداد النص الشعري، وكما تشير بنية العنونة، التي نحس من خلالها أن الشخصية التي رسم ملامحها في النص الشعري، وهي ذات الشاعر، قد حاول إنتزاعها من كل هذا الخراب ليكون شاهدا نقيا صافيا صادقا .
يقدم لنا حقيقة هذا الإنقلاب المرعب الرهيب في وجه الحياة، والتي تأثر بها فإحدثت له الاهتزازات الارتدادية التي أنتجت هذه النصوص، التي نجد فيها الدهشة والاستغراب، ونجد فيها الصورة النقية الصافية مضمرة تحت هذا البناء للنص الشعري،لأن الجمال لايمكن أن يتوضح الا إذا شاهدنا الوجه المضاد له القبح، وكلما كبر وإزداد هذا القبح ظهر الجمال موازياً له.
كما أن العناوين التي إختارها الشاعر لتكون مدخلاً لنصوصه الشعرية، هي مجتزأة من متن النص الشعري، قد تكون من البداية، او الوسط، أو نهاية القصيدة، وهي ليست كلمة واحدة،وإنما حسب سياق القصيدة واسلوب تناولها.
وهكذا فنحن مهيأين تماماً لخوض غمار تجربة الشاعر، للولوج الى عالمه الشعري، وسبر كنهه.
في قصيدة (أستوي على عرشِ جَمْرِكِ وأبتردُ) نرحل معه وهو يقدم لنا رؤيته الشعرية،لعلاقته مع امرأة تمردت عليه، واختلت موازين العلاقة بينهما فيقول :
أتدركين ياحفيدة الدهاءُ
بأنكِ استويتِ أعلى العرشْ
مليكة يؤمُّها الحاشيةُ الكبارُ
والرعيةُ الصغارْ
آلهةٌ يحيطُها الملائك الأبرار
وأنني سأمتطي جنونَ ثورٍ هائجٍ
وصهوةٍ من نارْ
بكرنفالٍ صاخبٍ عريضْ
وأنني ضحية مقطّعةْ
بين ذئاب جائعةْ
وسط سيوف لامعةْ
بالأمس كنتِ كالشغافِ في الفؤادِ
كالسنى الطالع في الآفاق
فهل تنمّرتْ عيونُكِ الزرقُ
وكيف يقوى قلبي الطافح بالحنانِ
أن يغازلَ اللبوةَ والذئبةَ
وفي النص الشعري ( القصيدة الثانية لابن زريق البغدادي) ولكي نكتشف مضمون هذا النص، علينا أن نمر بشكل موجز عن حياة ابن زريق البغدادي.
(ابن زريق البغدادي (المتوفي سنة 420 هـ / 1029 م) هو أبو الحسن علي أبو عبد الله بن زريق الكاتب البغدادي شاعر عباسي.
ارتحل ابن زريق من بغداد موطنه الأصلي قاصداً بلاد الأندلس، لعله يجد فيها من لين العيش وسعة الرزق ما يعوضه عن فقره، ويترك الشاعر في بغداد زوجة يحبها وتحبه كل الحب، ويخلص لها وتخلص له كل الإخلاص، فمن أجلها يهاجر ويسافر ويغترب وهناك في بلاد الأندلس – كما تقول لنا الروايات والأخبار المتناثرة – يجاهد الشاعر ويكافح من أجل تحقيق الحلم، لكن التوفيق لا يصاحبه، فهناك يمرض ويشتد به المرض وتكون نهايته ووفاته في الغربة؛ ويضيف الرواة بعداً جديداً للمأساة، فيقولون أن القصيدة التي لا يعرف له شعرٌ سواها وجدت معه عند وفاته سنة أربعمائة وعشرين من الهجرة. قصيدة ( لا تعذليه فإن العذل يولعه).
وهكذا نجد هذا النص متصلاً اتصالاً حميماً مع حياة ابن زريق في رحلته وغربته ووفاته في الغربة:
تركتُ مُناي ببغدادَ مُتَّكأٌ للحنين
بُنياتي الناضراتُ قذىٌ في العيون
وزوجيَ أرجوحةٌ تقاذفها الهمُّ والغمُّ
تأبى الوقوفَ ولا تستكين
وقلبي جمُرٌ كوتُّهُ الشجون
كفاني أجوب الفيافي الطوال
سلكتُ القفار، ذرعتُ البراري
خياميَ بادت، فلا وتدٌ يستطيل
متى أستظل بأفياء أهلي؟!
حين يعمى مسار الطريق
ويصدأُ وجهُ البريق
أنا شاعرٌ أثقلتْهُ الصعاب
جاع أولادهُ
وهوى ضوؤهُ
كنتُ أمشي أحاذي الجدار
وأبعد عن زمرةِ المدْحِ والقدْح
لي عالمي الذي ضمني
أصوغُ القنوتَ الى الله شِعراً ثرياً
وأدعو الى الحب والصلوات
لم أكن داعراً مثل صحبي
ولا شاتماً أحداً
ولا شاحذاً مثل شطارنا .
وفي قصيدة ( حمامتي والطيور السود) التي يقول عنها :
( كتبت هذه القصيدة إثر سقوط طيور سود على رؤوس المارّة وفي الطرقات في لويزيانا وأركنسو قبل بضع سنوات)
بينا أنا أتحسس بطاقة "ألبان أمريكان"
التي دسستها في جيب معطفي
فإذا صدمةُ طائرٍ هطلت على رأسي
كنتُ حزمتُ أمتعتي مسافراً إلى وطني
قل لي أيها الرأس:
حتامَ تبقى مشتتاً؟
فإذا بطائر أسود آخر لطم رأسي
وفي قصيدة (هزيمة بنكهة النصر) نكون مع فضاء نص شعري، تتحول فيه الهزيمة الى نصر.
لا أعبأ من رصاصة تصوّب نحوي من بعيد
إنها بالكاد تلامس أناملي
تدغدغ سكوني
خوفي من حجارةٍ ترمى عليَّ عن قرب
فتشج رأسي وتُدمي قلبي
إنها حجارةُ أهلي رماةِ المنجنيق
أما قصيدة (ماذا لو صارت إذاً جازمةٌ) التي نجد فيها حالة من الثورة الشعرية الرافضة لواقع منبوذ تجتاح النص.
إذا أوقف المتفيقهون فتاواهم الفاسدة
وانحسرتْ روائحُهم الكريهة
من أفواههم
وابيضتْ أسنانهم الصفر
وأخضرت أعينهم العور
سأستعير ظهرَ أيةِ سلحفاة مُسنّة
وأرفع بعاتقي كلَّ المسلاتِ الكونكريتية
الجاثمةِ على صدر عاصمتي
وفي قصيدة (ما ضرّني جمرةٌ تجثو علي جسَدي) التي نطوف فيها عبر لغة شعرية، بين الوطن بالامس واليوم.
نحن ابتلينا بإبليس وزمرتهِ
أشاع فينا الأسى والفقر والجرَبا
ضاق َ الفضاءُ بهم من فرطِ لوثتهمْ
وأطفئوا الشمس والأقمار والشهبا
ما ضرّني جمر تجثو على جسدي
بل شاقني صحبةٌ صاروا لها لهبا
أين النجوم التي كانت تلاحقنا
تحدو الزمان إلى الأمجاد والحقبا؟
أين العراق الذي ناخ الجميع له
وأنبت الطّهرَ والأطهار والنجبا؟
رشَّ الحضارات عطراً وافراً ثملا
تضوّعَ المجدُ منه حيثما سكبا
قاد الريادة في الاصقاع منفرداً
وأجزل الكرَمَ المعطاء ما وهبا
وهي قصيدة طويلة تستعرض بكل دقة واقع هذا البلد الاصيل المتصل بعمق التاريخ
وبما أن الذات التي إنسلخت من روح الشاعر لتدخل فضاء النص، هي
ناقمة مستاءة من سوء الحياة وإنقلاب الصحب والخلان, وإنتشار الكذب والرياء، وساد الخراب وشمل كل نواحي الحياة، فأنه لا يجد سوى البيت منجىً وواحة لراحة باله، هذا ما تقدمه قصيدة ( فمالي إلا البيتُ منجىً وواحةٌ):
وفي الروح شرخٌ والجسوم هزيلة
وفي الحلقِ قيء والسماوات لا تصبو
فليس أمامي غير قحط وغُصة
أرى القتل طغياناً إذا ضُيعَ اللّبُ
بلادي ميادينٌ من السحتِ والأسى
أحبتنا تنْأى وفرساننا تكبو
فمالي إلا البيت منجىً وواحةٌ
إذا ثُقِبَ المشحوفُ والمركبُ الصعبُ
الى الله شكوانا فقد طفح الضنى
فليس لنا غير الرؤوف لنا حسبُ
وعن الشعر والشاعر، وإستسهال تدوين القصيدة، والسرعة في إعدادها يقدم لنا الشاعر قصيدة (شاعر ثقيل الظل):
ليت هذا الشاعر الذي يلاحقهُ صبيةُ الشعر
ويرفعونه الى منابر تجاور الانجم
يلبسونه عباءةَ المهابة
ويُتوجونهُ بباروكة شكسبير
يشدون عنقه بربطة "اليوت"
يكسون جسده بطيلسان أبي محسّد
ليت هذا المكثر بدواوينهِ
المسرفُ أمواله بين جيوب الناشرين
وصائدي الكلمات الرثة
ليته يطبع في ذاكرتنا بيتاً جميلاً واحداً
ضمت هذه المجموعة نصوص شعرية كبيرة تضاهي في جودتها ونضوجها ورصانة بنائها الأعمال الكبيرة لشعرائنا الذين أجادوا صياغة القصيدة الشعرية باستحضار كامل ادواتها، كما نجد في هذا المجموعة الوعي والثقافة واللغة الطيعة المرنة .
هذه المجموعة الشعرية هي من إصدارات أمل الجديدة – طباعة – نشر – توزيع –سورية –دمشق لعام 2018.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق