راءة نقدية : بقلم صالح هشام /المغرب
في شعر عبد الجبار الفياض / العراق
في شعر عبد الجبار الفياض / العراق
عبد الجبار الفياض !
هذا شاعر في زمن بدأت فيه القصيدة الشعرية العربية تعرف نوعا من الاحتضار ، والركود في غياب الرغبة في تنويع المخزون الثقافي، و توسيع المعارف التي تمد المبدع بالمادة الأساسة لنحت قصيدته ، و الذي يساعد ه على ولادة نص شعري متميز ، فلا شعر يأتي من خواء ولا إبداع يأتي من فراغ ، بدون ذلك فإنه سيعتمد على صور مبتذلة عشوائية التوظيف .
و توظيف انزياحات خجولة من خلال تراكيب لغوية لا ترقى بمستوى الصورة الشعرية إلى مراتب التميز والجمال لخلق متعة القراءة والإدهاش والغرابة في نفس الباحت عنها في النص الشعري ، و الذي يدفعه للإبحاقر في عالم العلم والمعرفة من أجل قراءة متذوقة سليمة !
وأنا هنا لا أهاجم القصيدة الشعرية الحديثة بشكل عام وإنما أركز على بعض الشعراء الشباب ، الذين يجهلون أو يتجاهلون عنوة أهمية المعرفة الموسوعية نسبياً للمبدع ، لأن (فاقد الشيء لا يعطيه ،) ولأن النص الشعري بشكل أو بآخر هو قراءة وإعادة كتابة الماضي والحاضر والمتح من مختلف حضارات الفكر الإنساني في نسيج رائع جميل، ومن خلال نموذج فكري معين وفق كفاءات فنية تختلف من شاعر لآخر تبعا لمكوناته وتراكماته المعرفية ، و كذلك من قصيدة إلى أخرى وقد تكون للشاعر نفسه !
وسط هذا النشاز الشعري الذي تعرفه الساحة الأدبية والشعرية على وجه الخصوص ، تبرق قصيدة عبد الجبار بريق البرق في هذه العتمة الشعرية التي اختل فيها الذوق الشعري والذائقة الجمالية العربية ، إذ فقدت القصيدة سلطتها كأرقى فن من الفنون التعبيرية ٠
ولكأني بقصيدة عبد الجبار الشعرية، تلك الحشرة الليلية المضيئة التي تقاوم ثقل ظلام دامس في ليل عزّ فيه ضوء القمر، أ فتراها تومض تحت هذا الثقل الذوقي الذي التبست فيه مفاهيم الشعر بصفة عامة ؟
يستمد الشاعر مكانته في مجال القصيدة الحديثة من كونه شاعر المعرفة الموسوعية ، فهو المدرك حق الإدراك مدى أهمية تعالق القصيدة الشعرية المتميزة مع مختلف المعارف الإنسانية ، والتي تشكل تراكماً -من مختلف العصور- قابلاً للانصهار في نسج جديد تبعا لقدرة الشاعر على التذويب والصهر ولسبكه قلائد تأخذ لبّ المتلقي ، بعبارة أخرى فالشاعر رسام بارع قادر على خلط الألوان لخلق لونه الخاص به والذي يبصمه ببصمته الخاصة ،لهذا نجده يقوم بعملية مسح لمختلف ثقافات العصور والحقب التي ينهل منها ، لتشكيل قصيدته وهذا يكاد يميز أغلب قصائد الشاعر الفياض ، فلا جمال ولا تميز في القصيدة بدون هذه الطبقات الترسبية المعرفية التي يصهرها ويذوبها في قصائده بحنكة الشاعر المتمرس ذي الذوق والذائقة الفنية ليقدمها للمتلقي عروساً آية في الجمال ترفل في دمسق الرموز وحرير العصارات المعرفية الرائعة التي تشرك هذا المتلقي المفروض فيه التميز المعرفي ليبدع على غرارها في قراءاته ، فالقراءة لا تقل أهمية عن الإبداع ، إذ هي جزء لا يتجزأ منه ، فهي ليست إلا ابداعا على إبداع أو خطابا على خطاب ، أو لغة حفر على جسد لغة النص، فيحصل التكامل وتتحقق المتعة ولذة القراءة و هذا من خلال هذا التفاعل بين القاريء المبدع والشاعر المبدع !
فالفياض كشاعر متميز يطبع ناتجه الإبداعي ببصمة الشاعر السومري الذي ما ألفناه من خلال قراءاتنا لجواهره ، إلا مبدعاً يسير على خطى أسلافه من رواد وأهرام الشعر العربي الحديث كبدر شاكر السياب وغيره من الكبار فهو أهل للصهر والتذويب ،سبّاك يخرج قصائده حمما بركانية متجانسة الثقافات والمعارف، لتجتاح مدى عالم القراءة ، في طابع فني ،جمالي متميز،قد يلمسه أغلب النقاد والقراء في هذه الأشعاره !
وما النص إلا امتصاص [كل نص هو امتصاص أو تحويل لوفرة من النصوص الأخرى ] كما تقول الناقدة الكبيرة جوليا كريستيفا ! ولعمري إن النص الذي يخلو من هذا الزخم من أصوات الماضي والحاضر لن يكون إلا نصا ضحلا فقيرا ، لا جمال ولا إبداع فيه !
وأتوجه بصفة خاصة في هذه القراءة للطابع الشعري
للفياض إلى المتلقي الباحث عن متعة الشعر في أبهى صوره وأرقى تجلياته كما تدل على ذلك رائعته [ مقامات عشق ] التي أعتبرها بحق مغارة سحرية بثلاثة عشر بابا وكل باب يفضي إلى متاهات لا حدود لها، فما عليك إلا ممارسة الاختراق والعبور إذا كنت تحسن فن الإبحار والاستغوار في عالم الرمز والإحالة والإشارة الهادفة !
فمن خلال قراءاتي مكتوبة ( نقدية ) أو غير مكتوبة ، أحس وأنا أهم بقراءة هذه [ المقامات / الدرر ] [مقامات عشق ] أو أي نص شعري آخر من نصوصه ، أني بصدد عبور عتبات سحرية تتعدد فيها المداخل والمخارج ، وتستوجب مني حسن ممارسة القراءة الواعية المبنية على أسس معرفية تساعدني على تفكيك هذا التداخل والتشابك الخيطي من الشفرات والرموز التي يوظفها الفياض بدقة الشاعر المحنك. فكل سطر شعري وكل دلالة ستقودني حتما إلى الغوص والإبحار
في مكتبات كثيرة للموتى والأحياء من مشارق الأرض ومغاربها ، ومن عربها و غربها ومن حاضرها وماضيها ، ليوقظ أمواتها من سباتهم الأبدي ، فيجعلهم بلمسته الفنية يحيون فينا ونحيى فيهم فهو بكل تأكيد يقوم بربط حلقات ماضي الإنسان بحاضره في نصه الشعري العابر بكل اقتدار، متاهات الزمن الغابر والأمكنة الضاربة في عمق القدم !
وما دمت قارئا مسؤولا عن تحديد هوية هذه الرموز التاريخية والأسطورية والفلسفية أجدني أبحث وأنقب بين هؤلاء الأحياء والأموات حتى أحسن القراءة تأويلا وتفكيكا وتحليلا ، والسبب في ذلك أنك تجد هذا الشاعر مؤرخا يثري دلالاته من التاريخ، معبرا عن ذاكرة حيّة ووعي شعري متميز ، فيحسن الإشارة والإحالة إلى وقائع تاريخية كما يقول في [مقامات عشق ] : ( العباسة لا تريد أن تصمت ... فسحابة الرشيد لم تغط سماءها ) أو (يا آل آمون ..إنكم تأكلون قصاع تريد ) وكما يختلف المبدعون في معرفة الموروث التاريخي ، يختلف كذلك القراء في المعرفة نفسها ، ومادام ما قلناه كذلك ،فإن هذا يتطلب من القراء معرفة كافية بالظروف والملابسات التاريخية لهذه الإحالات التي تؤثث القصيدة فبدون هذه المعرفة تلين شوكتهم وتضعف أمام التحليل و ربط هذا بذاك ، وتخونهم القدرة على التأويل والتفكيك ومعرفة مغزى توظيف تلك الوقائع التي تشكل بطريقة أو بأخرى وعي الشاعر ، ولا يقتصر هذا التوظيف الفني على التاريخ فحسب وإنما يغترف كذلك من الموروث الانساني الادبي والذي يختلف من حيث المكان والزمان فينسج من خلاله نسيجه باعتبار النص الشعري ليس إلا نسيجا رائعا لكن من خيوط مختلفة زمانيا ومكانيا وثقافيا وعقائديا وما إلى ذلك وأركز هنا على ( مقامات عشق ) يقول الشاعر : (ايام ...محملة ...لؤلؤ من بحور الخليل ) أو ( ليست بكأس ... أراقها ابن هانيء من دن عجوز ) أو ( يلبس الضليل حلة مسمومة ) أو ( يستلذ صاحب ولادة بجدران سجنه ) فهو رغم ذلك يترك في نصوصه ذلك الضوء الذي يمكن أن ينير للقاريء الطريق كإشارات وإحالات ، إذا كان يحسن البحث والتقصي في حقيقة كل إشارة وظفها الشاعر ، ومن ثم يسهل عليه الربط بين الدلالات ، فقد تختلف المصيبة زمانيا ومكانيا ولكنها تتحد في الملابسات وظروف الوقوع فمأساة الملك الضليل (امرؤ القيس ) لا تختلف عن مأساة (ابن زيدون) إذ كلاهما ذاق مرارة الخيانة والأذى ،وقس على ذلك في توظيفه للأسطورة وبشكل مكثف ، ولست هنا بصدد تفكيك ما ورد في مقامات الشاعر ، بقدر ما أود فقط أن أضعها في الموضع الذي اختاره لها الشاعر ، و هذه أمثلة بسيطة لمسح أدبي رائع من أعلام مختلفة في أمكنة وأزمنة مختلفة ، والجامع بينها ما تشترك فيه من مأساة !
و لكأني بالشاعر يقول صراحة ، إقرأ وابحث في إحالاتي وإشاراتي وضعها الموضع الذي تستحقه وإلا فإن القصيدة ستتمنع وتستعصي عليك، ولا تعطيك بعضها إلا إذا أعطيتها كلك: أن تعطيها كلك،يعني : أن تغوص في البحث والتقصي لتتوفق في استجلاء حقيقة هذا التوظيف ولو كان ذلك تقريبياً ووفق إسقاطاتك الخاصة شريطة أن لا تكون مدمرة ، تخلخل جمال النص وتحد من بريقه !
فالنص مفتوح على تعدد القراءات ، مفتوح على كم هائل من التأويلات وفق اختلاف الرؤى والتصورات ، والقراءة بأي حال من الأحوال كبصمات الأصابع لا تتكرر أبدا ، وهي أيضا لحظية ، ظرفية ، حربائية لا تستقر على حال ، فما تعطيكه القصيدة اليوم تعطيك غيره غدا وقد صدق من قال : [ لا نستحم في النهر مرتين ] لا أريد أن أركز على قصيدة بعينها لأن هذا الشاعر ميزته وطابعه الخاص يتجلى في ما يقوم به من مسح وتعالق معرفي زمانيا ومكانيا في القصيدة الواحدة ، ولكأني به مهندس طبوغرافي أوعالم جيولوجيا أو أنتروبولوجيا ومؤرخ أدب ،ولكل علم من هذه المعارف الإنسانية مكان خاص في القصيدة ،مع قدرة كبيرة وكفاءة رائعة في هدمها وإعادة بنائها في نص يحبل بتعدد الأصوات والدلالات ، هذه الدلالات غير القابلة للتحجيم ، فهو نص مبني على تلك الاقتباسات المتداخلة مع نصوص أخرى ومن ارجاعات وأصداء ومن لغات ثقافية غامضة تستعصي على الرصد وهذا يجعله ينتشر في النصوص التي تداخلت معه . ،إذ يعرج بطرقه الفنية المعهودة ،وذوقه الجمالي على كل ما يخدم القصيدة ويرقى بها إلى مراتب الجمال والجلال والتميز! وبالتالي يفتح الشاعر نصه كما سبق على مستوى تعدد القراءات متجاوزا في ذلك الحواجز الفكرية ، ويقبل هذه القراءات الملايينية التي لا تنتهي أبدا، ويدل هذا على هذا التكون النصّي المختلف المشارب النصية التي يهدمها من إنتاج نص شعري رائع !
ولعمري إن هذه الميزة الرائعة في القدرة على التوظيف والتذويب والصهر تحسب للشاعر وتمنحه الريادة في توليف ما اختلف من تراكيب لغوية وتنافر من رموز وهو يلبسها لباسا غير لباس عصره وربما يلاحظ القاريء أني أغفلت هذه الخاصية الجمالية في لغته الشعرية إيمانا مني بأن القادر على صهر فكر عشرات الأمم الأزمنة والأمكنة وزخم لا ينتهي من النصوص في بوتقة النص الواحد، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستعصي عليه الجمع بين المؤتلف والمختلف من الكلام ،وجمع أعناق مختلفات اللغة و التوفيق بينها في لغة شعرية تكسر المألوف ، لتحلق بالقاريء في عالم بعيد كل البعد عن جاذبية التوظيف المبتذل والنمطي للغة والذي غالبا ما نجده في بعض القصائد الشعرية الحديثة التي لازال أصحابها يجرون لاهثين وراء لمعانها الباهت ، وهم يعلمون أنها أصابها البلى وفقدت كل أسباب الإدهاش ،لكثرة التوظيف والاستعمال !
هذا الشاعر لا يقتصر على توظيف التاريخ و تاريخ الأدب والفلسلفة ، بل يوظف كذلك الأسطورة في قوالب شعرية رائعة ، توظيفا قلما رأيته في قصائدنا الحديثة ،وعندما أقول الحديثة ، فإني أستثني الشعراء الرواد الذين فتحوا الباب على مصراعيه لتحديث الشعر العربي وجعله انفجارا معرفيا منفتحا على الآخر في بنيات شعرية مشبعة بالتنوع والخصوبة المعرفية،فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر!
فالشاعر ملم بهذه المعارف الإنسانية المتنوعة من [تاريخ وأدب وأسطورة وفلسفة وغيرها ] و هي التي يعرف كيف يصهرها كالسباك ،ويهدم نصوصها هدما يعيد بناءها فيخرج منها بوليد له بنيته الخاصة مستقلا بجمالياته تقول جوليا كريستيفا : [ النص جهاز نقل لساني يعيد توزيع نظام اللغة واضعا الحديث التواصلي ، ونقصد المعلومات المباشرة في علاقات مع ملفوظات مختلفة أو متزامنة ] وترى في موضع آخر أن [ النصوص تتم صناعتها عبر امتصاص ، وفي نفس الآن عبر هدم النصوص ،الأخرى للفضاء المتداخل نصيا ، ويمكن التعبير عن ذلك بأنها ترابطات متناظرة ذات طابع خطابي ]٠
،ولعل قراءة نصوص عبد الجبار الشعرية ، ترقى كل تأكيد إلى مستوى التحفيز ودفع المتلقي إلى الإبحار في هذه العلوم ليكون في مستوى قراءة الفاحصة والمتفحصة . فالذي لا يمتلك ما سبق لن يتمكن من تحليل تلك الشفرات والرموز وهذا حتما لن يمكنه بأي حال من الأحوال من فهم قصائد شعرية متخمة بالدلالات فهما صحيحا .
وأعتقد أن القاريء سيقف على صحة ما أقول عندما يقرأ [مقامات عشق ] لأنها تبرز بشكل واضح قدرة للشاعر الإبداعية على الاغتراف من تلك الترسبات المعرفية العالقة بجدار ذاكرته ومن هذا الكم النصي !
فكل قصائده أعتبرها شخصيا - كقاريء متذوق وليس شاعرا - دررا في عقود رائعة يحسن ترتيبها في قوالب شعرية ،تتوسطها جوهرة غاية في الروعة والجمال وهي هذه [ مقامات عشق ] ذات الثلاث عشرة متاهة ،إذ لا تخرج من الأولى بسلام حتى تجد نفسك تبحر بلا مراكب في بحار أخرى ،فهي بحار بلا شطآن وربوع بلا تخوم وصحاري ، بلا رمال ، وما نشوة القراءة إلا هذا الإبحار الذي ينتشلك من واقع مترد آسن متخن بالعفونة والجراح التي قد تندمل وقد لا تندمل فتستمر في النزيف !
وربما يتفق معي القارئ على أن الشاعر عبد الجبار في مختلف قصائده لا يستحضر قارئا متلق بعينه و يجري لاهثا وراءه لإرضائه ، وإنما يكتب القصيدة لإمتاع نفسه أولا و ليمتع القارئ ثانيا ، والمبدع الذي لا يمتع نفسه لا يمكنه أن يمتع غيره والإمتاع يأتي من نزيف روحه في كل كلمة وفي كل إحالة وفي كل إشارة وفي كل رمز وما هذا النزيف إلا صدق شعري يقتسمه هذا الشاعر مع قرائه !
أقصد بذلك أن قصيدة هذا السومري لا تبحث عن قارئها وإنما تتركه يبحث عنها من خلال استفزاز ذاكرته ،و إيقاظ أعشاش الدبابير في تلافيف مخه وجره جرا للإبحار في عالم القصيدة السومرية !
وهذا سيجرنا إلى أن نصوص الشاعر نصوص مكتوبة بمفهوم[ رولان بارث ]ومفتوحة بمفهوم [ أمبرتو إيكو ] أقصد بذلك أنه يكتب القصيدة كنص باعتباره كتابة وكل كتابة تستدعي قارئا من طينة جد خاصة ، مسلح بمعرفة خاصة تمنحه القدرة علي تفكيك شفرات النص وتحليل رموزه وتأويل دلالاته الغنية حتى التخمة : وقراءة هذا النوع من النصوص لا تقدم اليقين بشكل أو بآخر وإنما تتيح بعض الاحتمال ، وهذا بطبيعة الحال هو ما يدعو القاريء إلى المشاركة بدوره في تهديم ما بناه الشاعر اعتمادا على مخزونه المعرفي ، فتظل عملية الهدم قائمة بين المبدع والقاريء ، لأن القصيدة لا تخلو من أصوات مختلفة عابرة للمكان وللزمان . ولا أريد هنا أن أكرر رواية حكاية أبي تمام مرة أخرى ، وحواره مع بعض متلقيه، و الذي لم يفهم مقاصد ه من أشعاره فحكم على نصوصه بالانغلاق ،ونفى عنه الفحولة .
يكفي أن عبد الجبار يؤهلك كمتلق من خلال توظيفه تلك الإحالات و الرموز الأسطورية والأدبية والتاريخية للوقوف على تلك النصوص الغائبة المترسبة في نصوصه والتي يستمد منها مادة إبداعه ، ولكأني به يتفق مع نزار قباني الذي يقر وكأنه (يكتب قصيدته بمعية عشرة آلاف شاعر ) ، فهو يمتص ، و نصوصه امتصاص أو تحويل لنصوص أخرى غائبة ،وتبقى مسؤولية القاريء العارف مسؤولية قائمة لتحديد هوية هذه النصوص !
وعبد الجبار لا يقل أهمية عن الشاعر الإنجليزي[ إليوت] الذي يشترط قارئا موسوعيا لنصوصه ،لأن القراءة التي لا تنبني على أسس معرفية ، قد تدمر النص وتجعل جذوته المتقدة تخبو وتنطفيء ٠
اعتبرت في إحدى مقالاتي أن الإبداع والنقد من أهم عوامل الحوافز التي تدفع إلى خوض غمار المعرفة ، لأ ن الذي لا يعرف في التاريخ أو الأسطورة أو تاريخ الأدب شيئا لن يكون بمقدوره تفكيك نصوص الشاعر عبد الجبار الفياض ، فكيف لهذا القاريء أن يبحر في متاهات ورموز (مقامات عشق ) أو (دجلة ) أو( تايتنيك) أو (النهر الميت ) أو (امراة من دخان ) وهو لا يعرف تأويل الإحالة و الإشارة التي تومض من حين لآخر في هذه القصائد ، كيف له أن يبحر وهو يفتقد الى حنكة البحار ، ويمتلك،مركبا مهترئا ومجذافا مكسورا ، فالمعرفة مسألة أساسية لقراءة نصوص عبد الجبار ، باعتبار الرمز من أبرز عناصر بنيات نصوصه الشعرية ، والتي تتأتى أهميتها الايحائية من كونها سمات تعبير جمالي في قصائده ٠
فعبد الجبار شاعر يفكر لكن في صور وهذه الصور هي التي تؤكد وعيه الناتج عن تلك الصور يقول بلنسكي : [الفن تفكير في صور ] فشعره فن ، والشعر أرقى الفنون التي أبدعها الإنسان للتعبير عن جانبه الروحي !
وأنا في قراءتي هذه لا أكبح عزيمة قراء أشعار عبد الجبار بقدر ما أدعوهم لممارسة حقهم في التسلح بالمعرفة من أجل تأويل يطبعونه ببصمتهم الإبداعية الخاصة ٠ فالنص يبقى مفتوحا على تعدد المعنى وتعدد المعنى حتما سيقود الى اختلاف القراءات ، ومعيار القراءة هنا يكون بالكيف لا بالكم ٠ فلا يمكن أبدا أن نفهم ديسيوس بمعزل عن فهمنا لمفهوم البطولة والشجاعة والدهاء والمكر وما إلى ذلك ، ولا يمكن أن نفهم توظيف الأفعى كرمز دون أن نقوم بمسح نسبي لفهم دلالاتها الرمزية في الأساطير القديمة سواء السومرية أو العبرانية أو اليونانية ، أو ما شابه ذلك من توظيفات لهذا الرمز في التراث الإنساني إن على مستوى السلب أو الإيجاب ٠
وأعتقد أنه لا يعقل أن يركب المغامر المبحر موج البحر دون التوفر على لوازم قهر الأمواج، وإلا ظل يراوح مكانه على الشاطيء ،والدرر والجواهر لا تقذف على رمال هذه الشواطيء وإنما تتطلب المغامرة السندبادية التي يكون فيها المغامر واثقا من أنه سيخرج منها بأخف الأضرار٠
يجب الجزم بأن هناك صعوبات كثيرة ستعترض القاريء أثناء تحديد ماغاب من نصوص في قصائد عبد الجبار الفياض ٠ ونحن نسلم بعمق خلفيته الثقافية والمعرفية التي يركب أمواجها لإبداع هذه النصوص المتميزة ، التي تجعلك تبحر في جماليات النص الشعري من جهة ، وتبحر في عالم المعرفة للوقوف على تلك الاحالات والاشارات والرموز الرائعة من جهة أخرى ٠ وعندما أقول القاريء فأنا لا أميز بين القاريء الباحث عن المتعة والناقد باعتباره كذلك قارئا باحثا عن هذه المتعة ، لكن قراءته مكتوبة ومدونة محسوبة له أو عليه ، فما يسري على هذا يسري على ذاك ٠ يتراوح اغتراف عبد الجبار في نصوصه ما بين الموروث العربي والغربي ، ما بين التاريخي والأسطوري و ذلك الأدبي ، مع تركيز ه على روائع هذه الروافد المعرفية ٠ وأشير هنا إلى بعض ملاحظات رواد المدارس النقدية الحديثة وأخص بالذكر [رولان بارت]وهي ملاحظات فهمها ضروري لتحقيق القراءة الواعية والناقدة للنص ويعتبرها من شروط تحقق القراءة الجيدة والسليمة للنص الشعري بصفة عامة ، و التمكن من تحليل وتفكيك تلك الشفرات التي يرسلها النص ويستقبلها المتلقي و التي يمكن أن يعيد إنتاجها في قوالب نقدية إبداعية لا تقل أهمية وإبداعا ، إذ تنفتح بدورها على قراءات نقدية أخرى ، ولا بأس من الإشارة إلى هذه الشفرات باعتبارها أنساق متحكمة في إنتاج المعنى في النص ، وإن كانت تكاد تكون أحادية المعنى و لا تليق أبدا بنصوص عبد الجبار ،وهذه الشفرات سأوجزها في ما يلي :
* شفرة تأويلية : فقاريء نصوص الشاعر عبد الجبار سيكون بصدد كم لا يستهان به من التلميحات والألغاز التي ستطرح مجموعة من الأسئلة في ذهنه ، والسؤال بطبيعة الحال عتبة والاجابة عنه عبور واختراق لمتاهات النص !
*شفرة دلالية : إن توظيف الشاعر لتراكيب وإحالات رمزية تخلق من نصوصه بنيات أكثر عمقا ،وصفا وتشخيصا في تحديد المعنى الذي أعتقد أنه من الصعب تحديده وإنما يبقى مجموعة من إسقاطات شخصية للقاريء وفق خلفيته الثقافية ومخزونه المعرفي ونظرته الفلسفية للحياة ، وربما يساعده حظه في تمثل تجربة الشاعر دون أن يقع في الإسقاطات الخاطئة التي يمكن أن تقوله ما لم يقله !
* شفرة رمزية : وهذه الشفرة تتيح تجدد المعاني على الدوام اعتمادا على اختلاف الفهم الخاص لكل قاريء ، وتعطي للنص قابلية الانعكاس سواء تعلق ذلك بالعلاقات النفسية أو العاطفية التي تسود بين البشر ، هذا فضلا عن هذه الشفرات التي تعتبر مفاتيح القراءة السليمة للنص ،هناك شفرات أخرى لا تقل أهمية عما سبق ذكره وأخص بالذكر الشفرة الثقافية باعتبارها تعتمد أساسا على تلك الإشارات للمخزون الثقافي للشاعر ، إضافة إلى الإشارات الاجتماعية والأدبية للمجتمع بصفة عامة ، هذا إذا آمنا بأن النص الشعري ابن بيئته ، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال عزله عن هذا الواقع العربي الأليم ، كيف لا وقصائده هذا الشاعر المتميز ، عرفت المخاض والولادة تحت وطأة الحديد والنار٠
في هذه القراءة المتواضعة ، أقوم فقط كعاشق وقاريء نصوص عبد الجبار الفياض ، بتوضيح بعض القضايا الفنية والجمالية التي تتميز بها قصائده والتي أرى شخصيا أنه من الضروري الاطلاع عليها ، قبل الإقبال على الخوض في ديوان من دواوينه أو قصيدة من قصائده ،هذا الشاعر الذي يدفعنا من حين إلى آخر إلى البحث والتزود بالمعرفة لفهم طبيعة الغائب في قصائده الشعرية من نصوص ، لأنه بدون هذه المعرفة لا يمكن فهمنا أبدا أشعاره ، هذا الهرم الذي سيحيي لا محالة شعر شعراء عباقرة غابت بصماتهم في شعرنا العربي في عصرنا هذا ، كالسياب و محمود درويش وأدونيس ونزار قباني وغيرهم كثير !
بقلم الأستاذ : صالح هشام / المغرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق