السبت، 23 مايو 2015

طرقات على الجدار / قصية قصيرة / الكاتبة فيروز حنين / المغرب .....

قصة قصيرة ______ طَرقاتُُ على الجدار
حدج الأب ابنه بنظرة نارية من عينين يتطاير منهما الشرر وهو يدوس فرامل سيارته بقوة متوقفا أمام إشارة المرور، ضرب المقود بعنف حتى ارتجف ابنه وانكمش في مقعده بخوف، كان فتى في الخامسة عشر من عمره، غزير الشعر ناعمه ،نحيفا بعكس أبيه القوي البنية،كان كهلا في أواخر العقد الرابع من عمره،ذو ملامح صارمة ونظرات ثاقبة..
صاح بغضب هادر:
_للمرة العاشرة أسألك ، كيف خططتَ لكل هذا من وراء ظهري؟
أجابه الفتى بارتباك:
_لقد اعتقدتُ أنك ستسعد بالمفاجأة وستكافئني لأني أرحتك من جدتي.
زفر الرجل بغضب شديد ووضع كلتا يديه على رأسه وقال :
_أنت مجرد ولد غبي وأناني !
احتج فتاه المدلل وقد استرجع بعضا من شجاعته قائلا بحماس:
_لكنها كانت تزعجك يا أبي بطرقاتها على الجدار كل ليلة بسبب وبدونه،وتعرقل خططنا للسفر في العطلات ولا تنفك تشكو و..
قاطعه والده وهو يصر على أسنانه غيظا:
_اصمت أيها الأحمق..لقد عمدتَ إلى ذلك من أجل الاستيلاء على غرفتها..وأنا الغافل كنت أظنك تهتم بتسلية جدتك بحاسوبك، كلما رأيتك تتأبطه وتطرق باب غرفتها .
هز ابنه المراهق كتفيه بلا مبالاة قائلا :
_هي من كانت تطلب مني رؤية العالم الخارجي وخاصة المناظر الطبيعية..فكنت أريها صور حدائق المؤسسات الخيرية ودور المسنين .
رفع الأب إصبعه محذرا إياه:
_ادعُ الله أن تعود جدتك معنا إلى المنزل وإلا سيكون حسابك عسيرا..
أمسك المقود بيدين نفرت منهما العروق من شدة الغضب،وقاد السيارة بسرعة محمومة،متجها نحو تلك المؤسسة،مستعينا بإرشادات ابنه.
بعد لحظات كانا داخل دار المسنين ، تقودهما موظفة الاستقبال ،أشارت إلى ركن قصي في الحديقة حيث تجلس سيدة مسنة في العقد السابع من عمرها،ضئيلة الحجم ،تضع وشاحا على كتفيها،تحدق باسمة أمامها، واضعة كلتا يديها فوق عكازها.تستمع إلى ثرثرة سيدتين تجلسان بجوارها..
تقدم الرجل بخطوات سريعة ،استدار بحدة فجأة وأمر ابنه الذي يتبعه بالوقوف بجانب شجرة بعيدة..انصاع إليه الفتى باستسلام وتابعه بنظرات وجلة..
اقترب من والدته ببطء ،وناداها بصوتٍ أجشّ، التفتت إليه ثم أطرقت برأسها فوق يديها المتكئتين على العكاز،قامت السيدتان تهمان بالانصراف وهما تتفحصان بفضول الرجل القادم نحوهما..
انحنى يقبل رأس والدته بحرارة لكنها لم تحرك ساكنا، جثا على ركبتيه أمامها ،رفع رأسها برفق ثم قال:
_لماذا تتركينني يا أمي على هذا النحو المفاجئ؟
قطبت حاجبيها ولاحت غمامة من الحزن على وجهها المغضن الذي لم تغادره مسحة من الجمال،تجاهلت سؤاله قائلة ببرود:
_ظننتُكَ خرجت اليوم للنزهة برفقة زوجتك!
حرك رأسه نافيا:
_ليس الأمر مهما بقدرك أمي..وتابع متوسلا :
_أرجوكِ عودي معي وسأسعى جاهدا لإرضائك .
أجابته والدته بنبرة حازمة وملامح جامدة:
_قد أكون عجوزا داهمها المرض وأثقل خطواتها وجعل أبسط أمورها غاية في التعقيد، كعجزي أحيانا عن خدمة نفسي وشعوري الدائم بالجوع بسبب الوجبات الخفيفة التي أدمنت زوجتك إعدادها، لكني كنت أصبّر نفسي بأن لي ابنا سيعود في المساء،ويطمئن علي ويجيب طلباتي، لكنك في أحيان كثيرة تخلد إلى النوم دون أن تطل عليّ ولو للحظات،وحين يعيل صبري أطرقُ الجدار، لعلك تتذكر أن لك أمّا بحاجة إليك..
همّ ابنها بتبرير موقفه لكنها تابعت كلامها وهي تنظر إلى أزهار الدفلى بشرود :
_وأحيانا تعجز ركبتاي عن حملي لكني أجاهد لأصل إلى المطبخ ولا أجد فيه سوى ما يعجز طقم أسناني عن مضغه..
تنهدت بحزن واسترسلت بمرارة:
_وأكثر ما كان يؤلمني ويحز في نفسي هو أني حين أتسببُ في اِحداثِ جلبة في المطبخ بدون قصد،تهب من فراشك غاضبا لتحملني بضيقٍ وتضعني في فراشي دون أن تنطق بكلمة،كأني طفلة صغيرة أخطَأَتْ ،..
كل هذا تحملته وصبرت عليه،لكني ضقت ذرعا بسجني..لقد تعاقبت عليّ فصول كثيرة وأنا بين جدران تلك الغرفة أعيش فصلا واحدا بلا لون ولا طعم ولا رائحة..
فصل كئيب وصامت،لا يشقّ سكونه سوى عودتكم مساء،وعندما يطلّ عليّ أحدكم ولو برأسه فأنا أكون محظوظة تلك الليلة..
خفض ابنها عينيه بأسف وغمغم:
_أنت تعلمين يا أمي أننا مربوطون في ساقية الحياة،ولدينا التزامات كثيرة،لكننا كنا ننوي أخذك معنا اليوم للنزهة..
عبست والدته وقالت:
_لا تسخر مني يا بني،لا زلت لم أصب بعدُ بالخرف،وأذكر أني لم أغادر البيت منذ ثلاث سنوات، أمك هرمت حقا ولكنها لا زالت تحمل بين جوانحها قلبا يخفق ويحتاج إلى لمسات من الاهتمام والود، ورئتين في حاجة إلى استنشاق هواء عبقٍ بعبير الزهور ورائحة العشب الرطب ، وعينين تودان رؤية ما أبدع الله في كونه، وأذنين تريدان سماع دبيب الحياة الجميلة في مكانٍ ما غير تلك الجدران التي كادت تطبق على أنفاسي، هناك في البيت، كنت مجرد روحٍ يائسةٍ تستعجلُ أيامها الأخيرة..
توقفت للحظات وأشرق وجهها ولمعت عيناها وأردفت بارتياح :
_ أمّا هنا، فقد شعرتُ بطفلٍة سعيدةٍ تقفزُ من خيالي،وتركضُ هنا وهناك بين الزهور والأشجار،وعجوزا فضولية تستمع إلى ثرثراتِ وضحكاتِ وأنينِِ مَنْ جار عليهن الزمن..
وأردفت باصرار:
_سأقضي هنا باقي أيامي وليست هناك من قوةٍ يمكنها زحزحتي عن قراري.
تنهد الرجل بضيق، ونفض العشب عن بنطاله، ثم قال بلهجة آمرة :
_ستعودين معي أنا ابنك وأنا من يهمه أمركِ ..
أحكمت قبضتيها على العكاز،وقفت بوهن ،وأخرجت ورقة مطوية من ثنيات ثوبها، مدتها إليه وقالت وهي تبتعد عنه بخطوات متعثرة :
_لا ترهق نفسك بهذا الإلحاح يا بني ، لأني واثقة أنك ستغير رأيك حين تقرأ هذه..
امتقع وجهه وهو يقرؤها سريعا وأدرك أن والدته تنازلت عن قطعتها الأرضية لصالح دار المسنين.تهالك على المقعد الخشبي، وهو يعيد قراءتها للمرة الثانية..
التفتت إليه واستطردت بأسى:
_تلك مجرد قطعة أرضٍ ورثتها عن والدي ، وارتأيت أن هناك من هم أحوج مني إلى ثمنها، أما أنت فعمري الذي منحتك إياه أثمن بكثير!
كانت عينا الفتى تراقبان من بعيد مجريات اللقاء وحين لمح جدته تتجه بعيدا عن والده جرى نحوها وعانقها باكيا مستعطفا إياها:
_أرجوكِ جدتي عودي معنا، سيعاقبني والدي بشدة .
ابتسمت جدته بحنان قائلة وهي تربت على ظهره :
_لا تخف يا بني ، وراءك لبؤة شرسة ، ستدافع عنك ولن يستطيع شبلي إزاءها شيئا.
نزعت خاتما فضيا من إصبعها النحيل، ووضعته في كف الفتى وتابعت:
_خده يابني إنه لجدك رحمه الله،قد تكون لئيما مثل والدك ،ولكنك ساعدتني حقا من حيثُ لا تدري.
التفت حفيدها مذعورا لنداء والده الغاضب، ثم قبل يد جدته وركض نحوه بسرعة.
حنين فيروز 17/05/2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق