الخميس، 19 نوفمبر 2015

الشعرية العربية : من القصيدة السطرية إلى قصيدة الحياة/ مقال الكاتب صالح البريني / المغرب / متابعات محرر مؤسسة فنون الكاتب / محمد لفطيسي ...

صالحا لبريني
أ
الشعرية العربية : من القصيدة السطرية إلى قصيدة الحياة

(1)

الشعر إبداع الذات والعالم باللغة، هذه اللغة المترعة بحمولات وجودية ذات أبعاد كونية واجتماعية،ثقافية وسياسية،ومن تم فلابد للغة أن تتشبع بهذه التجليات،وتغترف من هذا الموروث المشترك بين الناس،والذي يضفي عليه سمات المتخيل الذي يعتبر ماء اللغة الذي تحيا به، فبدون متخيل لا يمكن الحديث عن الجمال الفني ذي الإبداعية المستبطنة للذات والعالم. ولابد من القول إن الإبداع الشعري،منذ وجود الإنسان على هذه البسيطة ،ظل رهان الإنسان، فبه استطاعت المجتمعات التعبير عن الوجود عبر الأناشيد والأساطير والحكايات التي تجسد رؤية الإنسان للكون، هذا الملكوت الممتد في اللانهائي ،الغامض الملتبس، حير الذات وحفزها على ارتياد المغامرة لمقاومة كل ما يهدد وجوده، ويثير شهوة السؤال.
هكذا عبر الشعراء عبر العصور ،عن هذا العالم بصيغ مختلفة تتساوق مع المجتمع الذي يعيشون فيه ؛ويعايشون ما يعرفه من تحولات. وبالتالي فالنصوص المبدعة تحمل خطابا شعريا معبرا عن ذلك وراسما صورة عن الحياة التي تتشكل من هذا الكل التاريخي و الحضاري ،الجغرافي والثقافي والسياسي، وكذا من الموروث الذي يفصح عن هوية الكائن . هذا الإبداع أو التعبير عن الذات والعالم هو في جوهره مقاومة ضد النسيان والتلاشي، وترسيخ للحضور في وجه الغياب، كل هذا دفع بالشاعر إلى الغوص عميقا في التفكير مليا في هذا العالم؛ وتجسيده عبر الكتابة التي ما هي إلا وشم أبدي في ذاكرة الوجود، وإقامة دائمة في هذا المتخيل الإنساني، وإفصاح عن الانتماء؛ مادام النص الشعري كشف عن الهوية، فالشاعر الجاهلي تمكن من التعبير عن كينونته من داخل ماهو جماعي، وأرخ لعبوره بوساطة عمودية شعرية تعري العلاقة الأفقية بين الذات والجماعة، أي أن الذات كانت غير منفصلة عن الهم الجمعي؛ بقدر ماغدت منغرسة فيها، وهذا لا يعني أن الشاعر الجاهلي لم يعبر عن الذات ،وإنما كانت متخفية خلفها، ومتجلية عبر اللغة الشعرية الكاشفة عن حقيقة هذا الحضور المتواري، وكذلك الشأن بالنسبة لشعراء العصور التي جاءت بعد العصر الجاهلي، حيث الذات ظلت لصيقة ماهو خارج عن الذات. لكن ذلك لا يقر باستمرار هذه الخصيصة في الشعرية العربية، بقدر ما فتحت آفاقا جديدة في كتابة نصية شعرية تقول الذات والعالم بصيغ كتابية مختلفة، ومتباينة مع المألوف فجاءت نصوص شعرية تخترق ذلك وتشرع جغرافيات جديدة على إبداعية مفارقة.

(2)

الشعرية العربية شعرية الإبدالات التي تنسجم مع ما يعرفه المجتمع العربي من تحلحلات مست علاقة المبدع بالواقع، وهي علاقة صراع وتوتر، لكون الذات دائمة البحث عن أساليب للتعبير عن هذا الوجود المهدد بالفناء، ويتجلى لنا ذلك في مجابهة الشاعر الجاهلي فضاء الصحراء، التي تشكل خطرا حقيقيا على كينونة، هي في الأصل تتعرض لكل أصناف التعذيب الروحي؛ بفضل شراسة الطبيعة المستبدة بكيان مترع بالهشاشة، فكانت القصيدة ذات البعد الغنائي سلاحا ضد هذا الامحاق، الذي يستولي على ذات مسيجة بقهر الطبيعة والمجتمع، وهما عاملان زادا من إحساس الشاعر بالاغتراب، فدفعه ذلك إلى ارتياد أفق لنص شعري يقول العالم، من خلال الوقوف على الأطلال، هذا الوقوف ما هو إلا تعبير عن الغياب واستحضار له عبر اللغة؛ التي تستنطق المُغَيَّب لتأكيد الحضور في الوجود. وما يزكي هذا هو أن الشاعر الجاهلي حين اختار الوقوف على الطلل؛ فهو يقوم بدور المحرض للذات؛ والمستفز للمتخيل لارتياد الباطن واستغوار الشاهد/الواقع حتى تتخلق هذه النصية الشعرية ذات البعد الأنطولوجي، لكن العصر العباسي سيمثل انعطافة قوية في تحول الشعرية العربية، فالشاعر لم يعد مرتبطا بملكوت الصحراء ومناشدة الأطلال ليعبر عن وجوده؛ وإنما غدا ملتصقا بواقع جديد، واقع متسم بتحولات اجتماعية وسياسية وثقافية؛ لها ميزة الانفتاح على ثقافة الآخر؛ مما كان له تأثير عميق على بنية العقل العربي التقليدية، الشيء الذي ولَّد صراعا قويا بين العقلية المحافظة التي تستند إلى النقل وتساند الشعرية المنمطة العقلية المتفتحة على الآخر بكل مداليله المختلفة ،مما فتح المجال على بداية الإرهاصات الأولى للتجديد والتجاوز في بنية القصيدة العربية، وما الاحتفاء بالمقدمة الخمرية إلا تعبيرعن هذا التحول المنسجم مع ما طرأ من إبدلالات على جميع الأصعدة، وعلى اعتبار أن الشعر كالماء دائم التجدد، ولا يركن للجاهز،بقدر ما يحفر مجراه بأناة مؤمنا بالتغير والتبدل؛ ففي الثابت موته، وفي النجاوز والإبداع حياته، فكانت المقدمة الخمرية بمثابة إعلان عن الخروج من ذائقة شعرية لا تؤمن إلا بما هو كائن، والدخول إلى شعرية تخترق الحواجزالسائدة لتخلق ممكنها الشعري، وخطابها الذي يجسد حقيقة التحول في الرؤية للذات والعالم، فالخروج عن التنميط الشعري المهيمن هو فتح جديد في سياق حضاري متحول، وبالتالي فالإبداع، بصفة عامة ، لابد له من التأثر بهذا التغير، فتمة شعرية ترى في الذات عالما غامضا يحتاج إلى التأمل فيه، والغوص في أعماقه؛ وما الاحتفاء بها إلا احتفاء بالوجود.

(3)
لم تقف الشعرية العربية عند هذه الحدود؛ بقدر ما فتحت جغرافيات جديدة في الكتابة الشعرية، عبر نصية شعرية مختلفة وخارقة للسائد والنمطي، وقد أسهمت زمرة من العوامل من بينها انفتاح الثقافة العربية على روافد ثقافية تختلف، عن المتخيل العربي، بمتخيل يؤمن بتكسير متاريس التقليد لمعانقة عوالم الجدة والخلق والخرق، ويدخل هذا في سياق المثاقفة الفاعلة؛ ثم لابد من الإشارة إلى ما تعرض له العالم العربي ،في بداية القرن العشرين، من احتلال لدوله، الشيء الذي دفع بالشاعر إلى الوقوف مليا لتأمل واقع منذور لأعطاب تاريخية؛ مما شكل تهديدا للذات الشاعرة، فكان هذا مؤشرا على اختيار طرق تعبيرية جديدة تستطيع الإمساك بهذه التحولات، وصياغتها صياغة شعرية تليق بالمرحلة التاريخية والحضارية، بل إن المنعطف التاريخي الذي عرفته الأمة العربية ، خصوصا نكبة فلسطين 1948والعدوان الثلاثي على مصر1956 وهزيمة 1967 مما شكل القشة التي قصمت ظهر مشروع الأمة العربية الموحدة ، وبالتالي ضياع هذا الحلم. هذا الانهيارأوهذه الخيبة جعل الشاعر يحطم النصية الكلاسية بنصية أفقية على المستوى الشكلي، ولكنها عموديةعميقة على مستوى الرؤية والتصور؛ فجاءت قصيدة "الشعرية السطرية" معبرة عن هذا الارتجاج الحضاري والمجتمعي لأمة لم تستطع تجاوزماهو سائد. هذه القصيدة التي كانت مؤشرا دامغا على خلق شعرية عربية؛ لا تمتثل لماهو منمط، وإنما تسعى جاهدة لمعانقة الخرق والتجديد . هذه السمات التجديدية أغنت الكتابة الشعرية العربية بحمولات دلالية حديثة لها امتدادات على مستوى التيمات وطريقة التعبير عنها، فالنص الشعري لم يعد رهين مقولات جاهزة حول مفهوم الشعر، بقدر ما خلقت نصها الشعري الذي يقول هوية الذات في علاقتها بالعالم، هذه الهوية التي امتزج فيها ما هو فكري وفلسفي ثم حضاري لصياغة شكل تعبيري ينسجم مع رهانات جديدة وخالقة لأفق شعري ضارب غوصا في عباب الذات التلاطمة، كمرجع أساس في العملية الإبداعية، وقول الواقع بأساليب تتجاوز المحاكاة ، وتقتحم أراض جديدة في القول والتعبير، فالتماهي سمة من سمات هذه الشعرية، فالذات متواشجة ومتماهية ومتجذرة في الهم الجمعي، بطريقة مخالفة ومختلفة عن ماهو كائن في النصية التقليدية. هذا التحول استطاع إضاءة ماهو معتم وغامض في الذات والعالم، فجاءت التجربة مصطبغة بهذا الكشف الجديد؛ المتمثل في الانتهاك لحرمة النصية الكلاسية، ومعريا لكوامن الأعماق بلغة شعرية لم تعد مرتبطة بالأساليب البلاغية المألوفة، بل خلقت بلاغة جديدة تستوعب بلاغة الذات والمجتمع المتحول والمتغير. فاتسمت الذات بخصيصة الاغتراب والصراع والتوتر مع الذات، ببعدها المعقد والمتشابك، والوجود باعتباره نصا مفتوحا على الذاكرة ، على بدايات التكوين، والغموض الطافح به، فكان الشاعر الحداثي شاعر القلق والاحتراق بامتياز؛ خصوصا في ظل أوضاع تنماز بالانتكاسات والخيبات المتتالية على جسد محاصر بتقليدانية فكرية؛ وجور استعماري، مما زاد من تأزيم علاقة الشاعر بذاته وواقعة، وشعوره باللامعنى من وجود يقف سدا منيعاضد أحلامه، وضد إشاعة فكرمتنور ضارب في عقلانية بإمكانها إخراجه من التخلف ومعانقة التطور، لكن كل هذا اصطدم بجدار واقع متكلس رجعي يرفض كل ماهو جديد . ومحنة الشاعرالعربي،على مر العصور، شاهد على ذلك إذ ظل رهين المكابدات اليومية والوجودية، مما انعكس على الخطاب الشعري المؤسس من لدن تجربة "الشعرية السطرية" ، هذه التجربة؛ التي صاغت كينونتها الشعرية؛ من واقع التحول الذي مس جوهر الإنسان وقيمته، بعد حربين عالميتين مدمرتين، فتجسدت هذه المعطيات في النص الشعري معبرة عن فتوحات نصية جديدة أدت إلى صنع خرائط شعرية ممتدة على نطاق الرقعة العربية، تستلهم الموروث والرموز والأساطير والحكايات والوقائع الأليمة للإنسان لخلق خطاب شعري مترع بندوب التاريخ.

(4)
من القصيدة السطرية إلى فتح جديد في الشعرية العربية، حاول الشاعر، قدر المستطاع، ابتداع نصية شعرية بحمولات لها رؤية مغايرة ومتغيرة، فالمغامرة هي الميسم الذي يسم الشعرية العربية،بصفة عامة، مغامرة لإبداع مختلف ومربك للذائقة الشعرية المتوارثة، وجانح إلى الخرق، فجاءت قصيدة الحياة أي القصيدة التي تشعرن اليومي والذاتي، في لغة تتجاسر مع الباطن تجاسرا عميقا، في صياغة نصية تروم التعبيرعن القبح والكارثة، السأم والخيبة بلغة عارية من المسكوك البلاغي القديم، لغة تسترشد ببوصلة المكابدة الوجودية، وتبايع الواقع أميرا على خطاب شعري منثرن -إذا صح القول-أي يشعرن الواقع نثرياوسرديا. إنها شعرية النثر في تجليات إبداعية مفتوحة على المحال والمحتمل، وعلى عالم مازال في حاجة إلى اتخاذ مسافة جمالية للتأمل والغوص في التباساته المضنية والحارقة، شعرية تهتم بالمهمش والمبتذل، بالمتلاشي والمتوهج، بالمفارقة والتشظي، بالحياة بمعناها الجمالي والوجودي، بالغياب والحضور، بالتجلي والخفاء، وتخلق إبداعية منبثقة من اليومي والمنفلتة من ربقة العالم الممجوج . شعرية تنتهك الحدود بين ماهو شعري ونثري ، وتقترف جريمة التهريب التعبيري، حيث تهرِّب اليومي والمنفلت والمهمش والمبتذل والمتلاشي والتوهج بلغة ماكرة و زئبقية، مراوغة ومحرقة، لغة تقول الذات بوضوح فيه مكربالنسبة للرؤية الأفقية ، وبعمق بالنسبة للبصيرة المتعمقة في شعرية الحياة، وهذا لا يعني أن الشعريات السابقة لم تحتفل بالحياة، لكن الاختلاف يكمن في كون شعرية الحياة تحتفي بحياة الذات في صياغة متماهية مع الوجود، أما شعرية السكون والثبات لا تحتفي إلا بماهو مشاع بين الناس، فشعرية الحياة شعرية تبتغي الإفصاح عن الذات في سكينة رؤياوية ، تستسيغ كل ماهو ممجوج في الذائقة الشعرية السائدة.
إن قصيدة الحياة مفتوحة على العالم بصدرعار، وبرؤية مبطنة لجماليات ذات امتدادات في الموروث الإنساني؛ جماليات منثرنة للشعرومشعرنة للنثرمعا؛ بعبارة أدق؛ نحاول أن تجعل الشعر منثورا والنثر مشعرنا بأساليب تعبيرية غاية في الجدة والخرق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق