الأحد، 25 نوفمبر 2018

المؤسسة والانتهاك – ج4 انزلاق النقد-2 محمد خصيف / المغرب ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

المؤسسة والانتهاك – ج4
انزلاق النقد-2
محمد خصيف

يسمي فاروق يوسف في مقاله: (في مغزى أن يكون الفن معاصرا، النهار، 3 كانون الثاني 2014)، النظريات التي حددت الفاصلة بين الحداثة والمعاصرة ب “الهشة”، وهذا قول مبالغ فيه نوعا ما. فالحداثة الأوروبية بطبيعة الحال، تستوجب النظر إليها، كما أوضحنا فيما سبق، “على أنها عملية تاريخية شديدة التعقيد”(بغورة). فكما ظهرت الحداثة نتيجة للتحولات التي عرفتها أوروبا على جميع المستويات، منتقدة الماضي التاريخي والحضاري، جاءت المعاصرة أو ما بعد الحداثة بدورها نتيجة التحولات التي عرفها القرن 20 وأنتجتها الحداثة نفسها. ما بعد الحداثة أصلها حركة ثقافية نقدية لقيم الحداثة التي أضحت متأزمة، حيث إن مشاريع هذه الأخيرة كلها باءت بالفشل: ما عرفه تاريخ البشرية خلال العقود الأولى من القرن العشرين من سلبيات، وما آلت إليه الشعوب من استعمار واستبداد وهولكست نتيجة التفوق العسكري والتوسع الاستعماري والتطور التقني، وارتفاع نسبة البطالة، وتقويض النظام الاشتراكي، وعدم تحقيق مشاريع التنمية في بلدان العالم الثالث، والتلوث البيئي والدمار والخراب اللذان سببتهما الحروب والنزاعات الطائفية. إنها “الحداثة المنتصرة أو المظفرة” كما سماها الفيلسوف الفرنسي ألان تورين Alain Touraine في كتابه (نقد الحداثة).
إذا نحن وافقنا فاروق يوسف في زعمه بأن “النظريات التي حددت الفاصلة بين الحداثة والمعاصرة” هي نظريات “هشة”، فيجب أن نعمم وصف الهشاشة هذا على جميع النظريات الفلسفية الجمالية التي من الحداثة والمعاصرة والعلاقة بينهما من إشكالياتها الرئيسية، ومن تم سنضرب عرض الحائط كل الكتابات الفلسفية لمدرسة فرانكفورت ونظريتها النقدية التي كانت من بين النظريات المؤطرة لما بعد الحداثة، والفلسفة التفكيكية لجاك دريدا Jacques Derrida (1930– 2004(، وفرانسوا ليوتار François Lyotard (1924-1998) وشكه في السرديات الكبرى les métarécits، وتأويلات الفلسفة التحليلية، وأتمثل خصوصا بكل من نلسون ﯕودمان Nelson Goodman (1906-1998)، وأرتور دانتو Arthure Danto (1924-2013)، وكل نظريات الفلسفة المعاصرة بقاماتها: هيدغر و غادامير وفوكو وألتوسير وبودريار ودولوز وآخرون ممن يشتركون في الموقف المناهض للتقاليد الأيديولوجية الحداثية في الغرب.
بين نيلسون غودمان في كتابه (لغات الفن. مقاربة نظرية الرموز، (Langages de l’art. Une approche de la théorie des symboles) أن “لا فارق أساسي بين التجربة العلمية والتجربة الجمالية”. فغودمان استبعد الفن عن التمثيل ليربطه بالمعرفة. و”ما يعبر عنه العمل الفني، ومضمونه، وفكرته، لا يحسب لها أي حساب”. فلم تعد تلك المقاييس الجمالية التقليدية المتأسسة على أحكام الذوق والجمال والمتعة مجدية ولا صالحة لتقييم العمل الفني. إن نظرية نلسون غودمان تسعى للفصل بين مفهومين باتا ضحية خلط: الجمالي والفني. ففي رأي غودمان أن الحكم على عمل انطلاقا من الحساسية ليس ضروريا ولا مهما، بل ما يهم هو أن العمل يعتمل جماليا. وهذا يحيلنا إلى تساؤله “متى يكون هناك فن؟” الذي استعاض به عن التساؤل التقليدي: “ما الفن؟”. كان جواب الفيلسوف: “هناك فن حين يعمل شيء رمزيا مثل عمل فني”. (جيمنيز)، ويدعم نيلسون فكرته بمثال لوحة رامراندت التي تخلت عن وظيفتها الأصلية كعمل فني يعمر المتحف ليسد زجاجا مكسورا.
سئل أرتور دانتو: “هل أنت متفق مع نيلسون غودمان حينما يعتبر فقدان لوحة رامبراندت وظيفتها كعمل فني خروجا عن نطاق الفن؟”، وكان رده: “بالنسبة لي، هذه اللوحة ماتزال فنا رغم أنها لم تعد تؤدي وظيفة فنية. أجد أن أفكار “متى يكون هناك فن؟” لاتقود إلى شيء. إنها تؤدي إلى أنواع من التساؤلات، لكن لا يبدو لي أنها تشكل جزءا من البنية الحقيقية لمسألة الفن”.
لم يكن دانتو الفيلسوف الوحيد الذي انتقد “جمالية” غودمان التحليلية، فمارك جيمنيز(1943…) يرى أن الجمالية، رغما عن غودمان، “هي نوع من الحساسية، والانفعالات، والحدس، والشهوانية، والرغبات، أي أنها ميدان يسود فيه نزاع قاهر بين الرموز وبين نسق التدوين المناسب لها. والعمل الفني في المخيال الفردي أو العمومي، يعيش من تعدد التفاسير الممكنة، ومن الأحكام المدققة، المتناقضة أحيانا والمتغيرة التي يستثيرها”.
دفعني إلى سرد هذا الكلام كله لأبين للقارئ، عكس ما حدث في الثقافة العربية، أن الانتقال في الغرب من النهضة إلى الحداثة ومن هذه إلى المعاصرة لم يكن من باب الصدفة وأن الفواصل لم تكن من وضع “نقاد مأجورين” ولا من اختراعهم. وحتى إذا رجعنا إلى الثقافة العربية الحديثة نجد أن الانتقال من فترة الحداثة (التنوير والنهضة)، إلى ما بعد الحداثة، لم يكن من وراء رسم حدوده أشخاص بعينهم، ولكن عوامل ظرفية وتاريخية تعيشها الثقافة العربية (مرجعية التراث، محاولات التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، الهوية الوطنية، الاستعمار والتبعية، الاستشراق والاستغراب) هي من يتحكم في زمن هذه الثقافة.
فالارتباط بالزمن الماضي والتعلق بالتراث في محاولة الانصهار “مع مزاج كلاسيكي يحمل في جوهره رسالة الجمال الثابتة على مر العصور”(فاروق يوسف)، يعني رفض كل تجديد، والسير في الطريق المعاكس الذي نهجته الحداثة. وهذا ما سلكته الحداثة الفنية العربية التي أخطأت الطريق ونهجت سبيلا أدى بها إلى متاهات لم تستطع أن تنعتق من مسالكها. فسيرها في الاتجاه المعاكس تماماً للذي سارت عليه الحداثة الغربية، عبر إعادة الاعتبار للماضي التراثي والثقافي، ومحاولة إعادة الحياة لبعض النماذج التراثية كالخط العربي والزخرفة الإسلامية والفنون الشعبية والرموز أدى بها في نهاية المطاف إلى الاجترار والتكرار وإعادة نسخ ما سبق، حيث بات فنانوها يكررون أنفسهم دون توقف إلى درجة الركاكة والتقزز والملل، وكانت منجزاتهم صيغ تراثية شكلية، انسُلِخت من عوالمها الأصلية، مع فقدان قدسيتها، لتصب في قوالب تشكيلية غربية. شأنهم كمن رسم برتريه لأبيه على لوحة زيته ويدعي أصالة رسمه. لقد كانت الحداثة الفنية العربية، ومازالت، بخلاف قرينتها الغربية، تفتقد إلى خلفية معرفية وفلسفية/جمالية تؤطرها وتجعلها مشروعا مكتملا يعطيها استمرارية في التاريخ والزمن.
يضيف فاروق يوسف: “غير أن ما تتستر عليه تلك النظريات الهشة (التي فصلت بين الحداثة والمعاصرة)، من أوهام يفضحه وجود فنانين معاصرين يعنيهم أن يمتزجوا بتاريخ الفن من حيث كونه إطارا جامعا لهويتهم”، ويسرد أسماء فنانين في نظره، “لا تتعارض معاصرتهم مع مزاج كلاسيكي يحمل في جوهره رسالة الجمال الثابتة على مر العصور”. يكفي أن نرجع إلى هؤلاء الفنانين الذين أعطاهم كأمثلة ليتبن لنا أن أعمالهم لا علاقة لها ب «رسالة الجمال الثابتة” ولا بالجمال (المثالي) الذي يعنيه مضمرا بكلامه، ولا بالتوجه المزاجي الكلاسيكي. فرسومات الأمريكية كيكي سميث تفتقد عن قصد، إلى المهارة التقنية (الكلاسيكية/الأكاديمية) المعروفة، وسندي شيرمان تعبر عبر عدسة كاميرتها، أما الهندي أنيش كابور والبرازيلي إرنستو نيتو فأعمالهما مفاهيمية تنصيبية (Installation) معاصرة محضة، توظف خامات مختلفة. أتساءل إذا أين يرى فاروق يوسف الجمال والمزاج الكلاسيكي لدى هؤلاء الفنانين المعاصرين الذين سردهم كأمثلة
في مقالته؟ لا شك أنه كعدد من النقاد ينظر إلى الفن المعاصر عبر عدسة منظار تقليدية.
كان على فاروق يوسف، ليدعم فكرته عن وجود فنانين معاصرين امتزجوا بتاريخ الفن، و”لا تتعارض معاصرتهم مع مزاج كلاسيكي”، أن يبحث له عن فنانين ما بعد حداثيين أشد ارتباطا بالتوجه الأكاديمي، تصورا وتقنية ومهارة وأسلوبا، كأولئك الذين يشكلون مثلا اتجاه الواقعية المفرطة Hyperréalisme))(*)، فرغم أن هذا الاتجاه الحديث يوظف تقنيات عصرية كالرش ب آلة Aérographe والاستعانة بأجهزة عرض الشرائح، واعتماد الصورة الفوتوغرافية، والتقنيات الإلكترونية الحديثة، فهو يسعى إلى إعطاء صورة طبق الأصل للنموذج، وبالتالي يلعب على مفهوم المحاكاة La mimésis، لينتج أعمالا تصويرية تفوق جماليتها تلك التي تعطيها آلة التصوير الفوتوغرافي.
هوامش:
(*) hyperréalisme حركة فنية معاصرة ظهرت في الربع الأخير من القرن العشرين بأمريكا. وتعتمد استنساخ متطابق للصورة/النموذج لإعطاء لوحة واقعية لدرجة أن المشاهد يبدأ في التساؤل إذا كانت طبيعة العمل الفني هو لوحة أو صورة.
بيبليوغرافيا:
1- فاروق يوسف – في مغزى أن يكون الفن معاصرا، النهار، 3 كانون الثاني 2014.
2- الزواوي بغورة – الحداثة ومباعد الحداثة، محاضرة، يوتيوب
3- ألان تورين -نقد الحداثة، ترجمة أنور مغيث، المجلس الأعلى للثقافة المصري، بشراكة مع المشروع القومي للترجمة، 1997.
4- مارك جيمنيز – ماالجمالية، ترجمة شربل داغر، ط. 1، بيروت أبريل 20019المنظمة العربية للترجمة،
5- Arthur Danto, portrait du philosophe en artiste et critique – Entretien, in Revue Proteus no 7 – arts de la perturbation, 




Juillet 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق