ثورة البصر على منطق الحكي
محمد شبعة ومبدأ الضرورة الداخلية*
محمد خصيف
"اجعلوا للتشكيل مكانا في حياتكم، واعملوا على تحريره من أسر النص الجاهز، وامنحوه ثانية استقلاله وتميزه".(محمد شبعة)
لقد سبق أن افتتح محمد القاسمي مقالا له باعترافه بأن "ليس محمد شبعة بذلك الفنان الذي يمكن أن يجرى معه حوار روتيني بمناسبة روتينية هي: تنظيمه لمعرض. فاللقاء معه يخلق لديك الرغبة في الخوض في نقاشات متشعبة وطويلة تمس الحاضر والماضي والمستقبل، التجربة التشكيلية الحالية ومصادرها وآفاقها، الانقطاع والاستمرار فيها، تراكمات تجربة التشكيل في بلادنا وتحولاتها الثقافية التشكيلية وإشكالاتها..."
وتأكيدا لهذه المقولة بإمكاني أن أضيف أن الأعمال الحالية أو المرحلة الراهنة التي يعيشها محمد شبعة لا يمكن دراستها وتحليلها بدون الرجوع إلى الماضي، إلى ما سبقها من أخذ ورد وصعود وهبوط. فكما أن محمد شبعة يخلق لدى المحاور الرغبة في الخوض في نقاشات متشعبة فإن أعماله الحالية تتطلب من المشاهد قدرة النظر والتحليل والدراسة والرؤية العميقة.
وقبل أن ألج هذا العالم الغامض الذي يتعدى الألوان والأشكال أرى أنه من الضروري الإشارة إلى نقطة مهمة اثارت انتباهي مرات عديدة.
رغم النقاش الذي أثاره شبعة لدى الكتاب والمفكرين المغاربة والأجانب على السواء، ورغم الهزة التي قام بها هو ومجموعته في ميدان الفنون التشكيلية، لم يحاول أحد لحد الآن أن يتطرق إلى أعماله بنظرة نقدية وموضوعية، فالكل يعرفونه كرجل مثقف، صاحب أفكار وآراء ويجهله أو يتجاهل أعماله وقيمتها الجمالية.
فكل ما كتب عنه في الجرائد ودلائل المعارض حتى الآن مسه كإنسان مثقف، مناضل من أجل تعميم و"تعريب" ومغربة الفن التشكيلي واللوحة الفنية.
ومن المؤسف ألا نجد محمد شبعة بين صفحات الكتابين اللذين صدرا، في الآونة الأخيرة، عن الحركة التشكيلية بالمغرب، الشيء الذي يثير تساؤلات عدة، أهو عدم اعتراف به وبشخصيته كفنان مثقف، واع بما يقوله وما يخطط له؟ أم محاولة لتفادي مواجهته والابتعاد عنه؟ أم أن أولئك الذين أرخوا "للصباغة" الحديثة بالمغرب صعبت عليهم أعماله، فلم يجرؤوا على الغوص في عوالمها الغامضة، أم أنهم تعمدوا عدم ذكره لأن أعماله في نظرهم لا تثير ذائقتهم ولا تتميز بأية صبغة جمالية؟ ...
فشبعة غائب تماما في الكتاب الأول، وفي الكتاب الثاني يشير إليه المؤلف في هامش الصفحة 192 بقوله وكأنه يعتذر: "تمنيت كذلك ان أخصص عرضا لشبعة، حيث إن أهميته غنية عن التعريف لكن رغم المحاولات العديدة لم يكن بوسعي أن التقي به". وقد زاد الطين بلة كما يقولون، عدم وجود ترجمة شبعة بين أخواتها في آخر الكتاب(1).
إنني لم أتطرق إلى هذا إلا لأبين ما نحسه من محاولة الهروب من هذا الرجل "القوي" بفكره الذي يمثل الفنان التشكيلي المثقف، وأكرر المثقف، لأن هم قلة مثله عندنا. فمؤلف الكتاب في نظري تعمد فعله وإلا كان تطرق إلى أعماله من خلال صور أو وثائق مكتوبة أو زيارة لبعض القاعات التي تملك نماذج من أعماله كرواق نظر بالدار البيضاء أو رواق المعمل بالرباط(2)، بدون الاتصال به ومحاورته. فيمكن في النقد الفني أو التأريخ الفني أن نتحاور مع عمل فني في غياب شخص مؤلفه.
فمهما حاولنا تجاهل إنسان خاض المعركة منذ البداية واستمر إلى النهاية، فإن التاريخ لن يتجاهله ولن يغفر أبدا لمن حاول ذلك.
الأعمال المعروضة حاليا بقاعة نظر بالدار لبيضاء تدخل في إطار المرحلة الجديدة التي يقطعها محمد شبعة والتي سبق له أن عرض بعضا منها بقاعة "المعمل" بالرباط أواخر الربيع الماضي. فهذه الأعمال تعرفنا بشبعة ثان غير الذي عرفناه من قبل، لأن القطيعة ظاهرة للعيان: "إن هناك بالفعل انقطاعا أو قطيعة مع الماضي، إن هناك إعادة نظر وتوضيحات لمبادئ التناول..."
وكما ذكرت في البداية، لا يمكننا أن نتطرق إلى هذه المرحلة الجديدة دون أن نأخذ الأولى بعين الاعتبار، لان كلتيهما ترتبط بالأخرى رغم القطيعة، فالواحدة تكمل الأخرى وترتبط بها ارتباطا دياليكتيكيا.
فالمرحلة الأولى تعكس أعماق ذلك الرجل الملتزم بمبادئه وآرائه، الثائر على الوضع المعاش آنذاك في ميدان التشكيل، وما يحس به من ضرورة العودة غلى الاصل من اجل "بلورة ملامح مغربية للوحة". فلوحات هذه الفترة بألوانها الحادة وأشكالها الهندسية الوثيقة البنية إنما تترجم ذلك الصراع الذي كان يعانيه الفنان. والتكوينات نفسها ترمي إلى شيء من التكتل وجمع الشمل والوحدوية، الذي نجد شبعة يدعو اليها ويدافع عناه علانية، فقليلة هي المعارض والتظاهرات التي نظمها منفردا بدون الاندماج داخل مجموعة معينة.
أما المرحلة الأخيرة فإنها تأتي عكس الأولى تماما رغم أنها في نظري مكملة لها، فهي كما قال شبعة نفسه: "نوع من العودة إلى وحدانيتي وأنانيتي التي افتقدتهما في المرحلة الماضية، عودة إلى الممارسة الفنية التي تتيح لي أن اعبر عن مشاعري وأحاسيسي" ويقول كذلك:" إن هذه اللوحات التي أنجزتها بين نهاية سنة 1983 وبداية 1984 قد اشتغلت فيها في ظروف تميزت بعدم الاستقرار".
إنه يقصد الاستقرار الذاتي والنفسي مع تقديم الثاني على الأول.
إنني لا أعتبر هذا التحول المفاجئ والتدريجي في نفس الوقت عبثا لأن كل شيء في هذا العالم، عالم التشكيل، مرتبط بزمان ومكان وأحداث. ففي التكوينات الأولى تغلب الوحدة على التنوع لأن كل الحركة والدينامية والحرارة والتفاعلات تجري داخل الشكل الكبير الشامل، المغلق تقريبا، حيث لا نجد للازدواجية مفعولا.
أما المرحلة الثانية فجاءت نتيجة لما يعايشه الفنان نفسيا واجتماعيا وثقافيا، فهي تعبير عن أحاسيسه كما قال ولكنها في الواقع تتجاوز الربط بطفولته و "بتنقلاته بين الرباط وطنجة" لتلتحق بجوانب غامضة ومظلمة، مكبوتة، يعجز الفنان نفسه أن يعبر عنها بالفرشاة، لكنها تبزغ إلى الوجود العياني رغما عنه. فعمل شبعة الحالي يدخل فيما أسماه كاندنسكي(4) «مبدأ الضرورة الداخلية" الذي يهدف إلى إخراج كل ما هو أزلي/موضوعي في النفس الداخلية للإنسان وذلك في الزمني/الذاتي، أو بعبارة أوضح محاولة التعبير عن الذاتي من خلال الموضوعي.
فمن هنا يمكننا أن نتساءل عما إذا كان تبدد الأشكال داخل فضاء اللوحة يرتبط عن قرب أو عن بعد بتشتيت المجموعة التي كان ينتمي غليها الفنان؟ ذلك التشتت الذي تركه وحيدا يدافع ويكافح من أجل اثبات وجوده وذاته، إلى درجة كونه عانى من الصدام والقمع والرقابة التي بات يفرضها النظام السياسي آنذاك(3).
فالأشكال نفسها كالألوان خضعت للازدواج الذي أعطاها بعدا آخر، وفي بعض الأحيان نجد شكلا آخر يحاول التسرب من/إلى شكل أكبر حجما، مخلخلا بذلك بنية التكوين. فما معنى هذا التسرب أو الانسحاب الإزاحي؟ ما معنى هذا الازدواج الذي جعل الشكل يفقد حصانته وحدته ليصبح مرنا، خفيفا، تائها في فضاء بتول؟
تعتبر العودة إلى الفضاء الأبيض بمثلبة عودة من جديد إلى البحث عن الذات. وأظن أن هذا ما يؤكده شبعة نفسه حينما يتكلم عن عودة المسيرة الطويلة المنعزلة والوحيدة. فهذه المرحلة بالنسبة إليه ما هي إلا طور من أطوار البحث والمعاناة.
فتشتيت عناصر اللوحة بانفجارها تارة وسيلانها تارة أخرى ما هو إلا انعكاس لما يختلج داخل الفنان الذي يحاول إثبات وجوده منفردا أو من خلال انتمائه الى جماعة معينة يربطه بها نسيج ملؤه الحنين والنوستالجيا.
وخير ما يميز أعمال هذه المرحلة عن سابقاتها، تلحين الفضاء التشكيلي مع محاولة الاهتمام بالتركيب الداخلي للوحة حتى لا تفقد من وحدتها، بانجراف الأشكال في اندفاع وتدافع مستمرين. فالأشكال لم تعد كما كانت تكمل وتشد عضد بعضها وإنما أصبحت تجري من/إلى نقطة معينة لتلج فضاء محايدا.
إن وجود أشكال صغيرة بجانب أخرى كبيرة يجعل اللوحة تفقد مركز الثقل الذي يبحث عنه الفنان ويحاول التركيز عليه. فلوحات محمد شبعة لا تستدعي العين إلى التوقف عند شكل بعينه أو التمركز حول لون مقصود. فكل العناصر المكونة للفضاء التشكيلي تشملها حركة دائمة، غنية، إيقاعية وفوضوية في بعض الأحيان، تجعل البصر مداوم التنقل عبر مقاطع الفضاء دون توقف
أول مرة يلج عنصر الشفافية لوحة شبعة، وما ذلك إلا محاولة لستر ما كان حادا وقاطعا، كما أن بعض الأشكال تظهر ثانية لكن في قالب آخر، مرنة وخفيفة، تميل إلى الغنائية والشاعرية، كالشكل المسنن مثلا الذي بات تائها بين السلبي والايجابي، بين الابيض والاسود، بين الكبير والصغير...ومن هنا ندخل في ازدواجية ربما لها علاقة بكل ما يمكن أن يعيش مضمرا وراء الشكل والحجم واللون وبالتاي وراء الواقع العياني والملموس.
الحقيقة أن الأعمال الحالية تعكس بحق شخصية الفنان والحالة التي يعيشها، حالة رغم زخم نشاطها وديناميتها فهي تعتبر خجولة بالقياس مع الماضي. فهي رطبة ومرنة، سهلة وصعبة في نفس الآن. وهذا ما نلاحظه في شخصية محمد شبعة كإنسان، حيث إنه بدأ يتراجع عن بعض أفكاره القوية الانفعال التي كانت ضرورية في زمان ومكان معينين.
محمد شبعة ومبدأ الضرورة الداخلية*
محمد خصيف
"اجعلوا للتشكيل مكانا في حياتكم، واعملوا على تحريره من أسر النص الجاهز، وامنحوه ثانية استقلاله وتميزه".(محمد شبعة)
لقد سبق أن افتتح محمد القاسمي مقالا له باعترافه بأن "ليس محمد شبعة بذلك الفنان الذي يمكن أن يجرى معه حوار روتيني بمناسبة روتينية هي: تنظيمه لمعرض. فاللقاء معه يخلق لديك الرغبة في الخوض في نقاشات متشعبة وطويلة تمس الحاضر والماضي والمستقبل، التجربة التشكيلية الحالية ومصادرها وآفاقها، الانقطاع والاستمرار فيها، تراكمات تجربة التشكيل في بلادنا وتحولاتها الثقافية التشكيلية وإشكالاتها..."
وتأكيدا لهذه المقولة بإمكاني أن أضيف أن الأعمال الحالية أو المرحلة الراهنة التي يعيشها محمد شبعة لا يمكن دراستها وتحليلها بدون الرجوع إلى الماضي، إلى ما سبقها من أخذ ورد وصعود وهبوط. فكما أن محمد شبعة يخلق لدى المحاور الرغبة في الخوض في نقاشات متشعبة فإن أعماله الحالية تتطلب من المشاهد قدرة النظر والتحليل والدراسة والرؤية العميقة.
وقبل أن ألج هذا العالم الغامض الذي يتعدى الألوان والأشكال أرى أنه من الضروري الإشارة إلى نقطة مهمة اثارت انتباهي مرات عديدة.
رغم النقاش الذي أثاره شبعة لدى الكتاب والمفكرين المغاربة والأجانب على السواء، ورغم الهزة التي قام بها هو ومجموعته في ميدان الفنون التشكيلية، لم يحاول أحد لحد الآن أن يتطرق إلى أعماله بنظرة نقدية وموضوعية، فالكل يعرفونه كرجل مثقف، صاحب أفكار وآراء ويجهله أو يتجاهل أعماله وقيمتها الجمالية.
فكل ما كتب عنه في الجرائد ودلائل المعارض حتى الآن مسه كإنسان مثقف، مناضل من أجل تعميم و"تعريب" ومغربة الفن التشكيلي واللوحة الفنية.
ومن المؤسف ألا نجد محمد شبعة بين صفحات الكتابين اللذين صدرا، في الآونة الأخيرة، عن الحركة التشكيلية بالمغرب، الشيء الذي يثير تساؤلات عدة، أهو عدم اعتراف به وبشخصيته كفنان مثقف، واع بما يقوله وما يخطط له؟ أم محاولة لتفادي مواجهته والابتعاد عنه؟ أم أن أولئك الذين أرخوا "للصباغة" الحديثة بالمغرب صعبت عليهم أعماله، فلم يجرؤوا على الغوص في عوالمها الغامضة، أم أنهم تعمدوا عدم ذكره لأن أعماله في نظرهم لا تثير ذائقتهم ولا تتميز بأية صبغة جمالية؟ ...
فشبعة غائب تماما في الكتاب الأول، وفي الكتاب الثاني يشير إليه المؤلف في هامش الصفحة 192 بقوله وكأنه يعتذر: "تمنيت كذلك ان أخصص عرضا لشبعة، حيث إن أهميته غنية عن التعريف لكن رغم المحاولات العديدة لم يكن بوسعي أن التقي به". وقد زاد الطين بلة كما يقولون، عدم وجود ترجمة شبعة بين أخواتها في آخر الكتاب(1).
إنني لم أتطرق إلى هذا إلا لأبين ما نحسه من محاولة الهروب من هذا الرجل "القوي" بفكره الذي يمثل الفنان التشكيلي المثقف، وأكرر المثقف، لأن هم قلة مثله عندنا. فمؤلف الكتاب في نظري تعمد فعله وإلا كان تطرق إلى أعماله من خلال صور أو وثائق مكتوبة أو زيارة لبعض القاعات التي تملك نماذج من أعماله كرواق نظر بالدار البيضاء أو رواق المعمل بالرباط(2)، بدون الاتصال به ومحاورته. فيمكن في النقد الفني أو التأريخ الفني أن نتحاور مع عمل فني في غياب شخص مؤلفه.
فمهما حاولنا تجاهل إنسان خاض المعركة منذ البداية واستمر إلى النهاية، فإن التاريخ لن يتجاهله ولن يغفر أبدا لمن حاول ذلك.
الأعمال المعروضة حاليا بقاعة نظر بالدار لبيضاء تدخل في إطار المرحلة الجديدة التي يقطعها محمد شبعة والتي سبق له أن عرض بعضا منها بقاعة "المعمل" بالرباط أواخر الربيع الماضي. فهذه الأعمال تعرفنا بشبعة ثان غير الذي عرفناه من قبل، لأن القطيعة ظاهرة للعيان: "إن هناك بالفعل انقطاعا أو قطيعة مع الماضي، إن هناك إعادة نظر وتوضيحات لمبادئ التناول..."
وكما ذكرت في البداية، لا يمكننا أن نتطرق إلى هذه المرحلة الجديدة دون أن نأخذ الأولى بعين الاعتبار، لان كلتيهما ترتبط بالأخرى رغم القطيعة، فالواحدة تكمل الأخرى وترتبط بها ارتباطا دياليكتيكيا.
فالمرحلة الأولى تعكس أعماق ذلك الرجل الملتزم بمبادئه وآرائه، الثائر على الوضع المعاش آنذاك في ميدان التشكيل، وما يحس به من ضرورة العودة غلى الاصل من اجل "بلورة ملامح مغربية للوحة". فلوحات هذه الفترة بألوانها الحادة وأشكالها الهندسية الوثيقة البنية إنما تترجم ذلك الصراع الذي كان يعانيه الفنان. والتكوينات نفسها ترمي إلى شيء من التكتل وجمع الشمل والوحدوية، الذي نجد شبعة يدعو اليها ويدافع عناه علانية، فقليلة هي المعارض والتظاهرات التي نظمها منفردا بدون الاندماج داخل مجموعة معينة.
أما المرحلة الأخيرة فإنها تأتي عكس الأولى تماما رغم أنها في نظري مكملة لها، فهي كما قال شبعة نفسه: "نوع من العودة إلى وحدانيتي وأنانيتي التي افتقدتهما في المرحلة الماضية، عودة إلى الممارسة الفنية التي تتيح لي أن اعبر عن مشاعري وأحاسيسي" ويقول كذلك:" إن هذه اللوحات التي أنجزتها بين نهاية سنة 1983 وبداية 1984 قد اشتغلت فيها في ظروف تميزت بعدم الاستقرار".
إنه يقصد الاستقرار الذاتي والنفسي مع تقديم الثاني على الأول.
إنني لا أعتبر هذا التحول المفاجئ والتدريجي في نفس الوقت عبثا لأن كل شيء في هذا العالم، عالم التشكيل، مرتبط بزمان ومكان وأحداث. ففي التكوينات الأولى تغلب الوحدة على التنوع لأن كل الحركة والدينامية والحرارة والتفاعلات تجري داخل الشكل الكبير الشامل، المغلق تقريبا، حيث لا نجد للازدواجية مفعولا.
أما المرحلة الثانية فجاءت نتيجة لما يعايشه الفنان نفسيا واجتماعيا وثقافيا، فهي تعبير عن أحاسيسه كما قال ولكنها في الواقع تتجاوز الربط بطفولته و "بتنقلاته بين الرباط وطنجة" لتلتحق بجوانب غامضة ومظلمة، مكبوتة، يعجز الفنان نفسه أن يعبر عنها بالفرشاة، لكنها تبزغ إلى الوجود العياني رغما عنه. فعمل شبعة الحالي يدخل فيما أسماه كاندنسكي(4) «مبدأ الضرورة الداخلية" الذي يهدف إلى إخراج كل ما هو أزلي/موضوعي في النفس الداخلية للإنسان وذلك في الزمني/الذاتي، أو بعبارة أوضح محاولة التعبير عن الذاتي من خلال الموضوعي.
فمن هنا يمكننا أن نتساءل عما إذا كان تبدد الأشكال داخل فضاء اللوحة يرتبط عن قرب أو عن بعد بتشتيت المجموعة التي كان ينتمي غليها الفنان؟ ذلك التشتت الذي تركه وحيدا يدافع ويكافح من أجل اثبات وجوده وذاته، إلى درجة كونه عانى من الصدام والقمع والرقابة التي بات يفرضها النظام السياسي آنذاك(3).
فالأشكال نفسها كالألوان خضعت للازدواج الذي أعطاها بعدا آخر، وفي بعض الأحيان نجد شكلا آخر يحاول التسرب من/إلى شكل أكبر حجما، مخلخلا بذلك بنية التكوين. فما معنى هذا التسرب أو الانسحاب الإزاحي؟ ما معنى هذا الازدواج الذي جعل الشكل يفقد حصانته وحدته ليصبح مرنا، خفيفا، تائها في فضاء بتول؟
تعتبر العودة إلى الفضاء الأبيض بمثلبة عودة من جديد إلى البحث عن الذات. وأظن أن هذا ما يؤكده شبعة نفسه حينما يتكلم عن عودة المسيرة الطويلة المنعزلة والوحيدة. فهذه المرحلة بالنسبة إليه ما هي إلا طور من أطوار البحث والمعاناة.
فتشتيت عناصر اللوحة بانفجارها تارة وسيلانها تارة أخرى ما هو إلا انعكاس لما يختلج داخل الفنان الذي يحاول إثبات وجوده منفردا أو من خلال انتمائه الى جماعة معينة يربطه بها نسيج ملؤه الحنين والنوستالجيا.
وخير ما يميز أعمال هذه المرحلة عن سابقاتها، تلحين الفضاء التشكيلي مع محاولة الاهتمام بالتركيب الداخلي للوحة حتى لا تفقد من وحدتها، بانجراف الأشكال في اندفاع وتدافع مستمرين. فالأشكال لم تعد كما كانت تكمل وتشد عضد بعضها وإنما أصبحت تجري من/إلى نقطة معينة لتلج فضاء محايدا.
إن وجود أشكال صغيرة بجانب أخرى كبيرة يجعل اللوحة تفقد مركز الثقل الذي يبحث عنه الفنان ويحاول التركيز عليه. فلوحات محمد شبعة لا تستدعي العين إلى التوقف عند شكل بعينه أو التمركز حول لون مقصود. فكل العناصر المكونة للفضاء التشكيلي تشملها حركة دائمة، غنية، إيقاعية وفوضوية في بعض الأحيان، تجعل البصر مداوم التنقل عبر مقاطع الفضاء دون توقف
أول مرة يلج عنصر الشفافية لوحة شبعة، وما ذلك إلا محاولة لستر ما كان حادا وقاطعا، كما أن بعض الأشكال تظهر ثانية لكن في قالب آخر، مرنة وخفيفة، تميل إلى الغنائية والشاعرية، كالشكل المسنن مثلا الذي بات تائها بين السلبي والايجابي، بين الابيض والاسود، بين الكبير والصغير...ومن هنا ندخل في ازدواجية ربما لها علاقة بكل ما يمكن أن يعيش مضمرا وراء الشكل والحجم واللون وبالتاي وراء الواقع العياني والملموس.
الحقيقة أن الأعمال الحالية تعكس بحق شخصية الفنان والحالة التي يعيشها، حالة رغم زخم نشاطها وديناميتها فهي تعتبر خجولة بالقياس مع الماضي. فهي رطبة ومرنة، سهلة وصعبة في نفس الآن. وهذا ما نلاحظه في شخصية محمد شبعة كإنسان، حيث إنه بدأ يتراجع عن بعض أفكاره القوية الانفعال التي كانت ضرورية في زمان ومكان معينين.
هوامش:
* نشر هذا المقال بجريدة العلم، 1982، لذلك يجب إحالة مضمونه على سياق المعرض الذي نظم آنذاك.
1- أقصد كتاب Regard sur la peinture contemporaine au Maroc من تأليف Alain Flamand . وقد وجهت إليه Toni Maraini نقدا معاتبة المؤلف لكونه لم يلتزم بالمنهجية العلمية أثناء إنجازه لمشروعه. (انظر مجلة Lamalif N° 160, P.52, Novembre 1984)
2- رواق المعمل L’Atelier (1971 – 1991) أسسته Pauline De Mazière، ويعد الرواق الرائد في التعريف بالفنانين المغاربة على المستويين الداخلي والخارجي، وترك إغلاقه فراغا كبيرا في المسار التاريخي والوجودي للفن التشكيلي بالمغرب.
3- كان محمد شبعة ضمن فريق مجلة أنفاس الذي زج به في السجن خلال سبعينيات القرن الماضي.
4- فسيلي كاندينسكي فنان روسي 16ولد عام 1866 ومات عام 1944.من أشهر فناني القرن العشرين، اكتشافاته في مجال الفن التجريدي جعلته واحدا من أهم المبتكرين والمجددين في الفن الحديث. فنان وباحث نظري لعب دوراً محورياً ومهماً جدا في تطور الفن التجريدي (abstraction art)
* نشر هذا المقال بجريدة العلم، 1982، لذلك يجب إحالة مضمونه على سياق المعرض الذي نظم آنذاك.
1- أقصد كتاب Regard sur la peinture contemporaine au Maroc من تأليف Alain Flamand . وقد وجهت إليه Toni Maraini نقدا معاتبة المؤلف لكونه لم يلتزم بالمنهجية العلمية أثناء إنجازه لمشروعه. (انظر مجلة Lamalif N° 160, P.52, Novembre 1984)
2- رواق المعمل L’Atelier (1971 – 1991) أسسته Pauline De Mazière، ويعد الرواق الرائد في التعريف بالفنانين المغاربة على المستويين الداخلي والخارجي، وترك إغلاقه فراغا كبيرا في المسار التاريخي والوجودي للفن التشكيلي بالمغرب.
3- كان محمد شبعة ضمن فريق مجلة أنفاس الذي زج به في السجن خلال سبعينيات القرن الماضي.
4- فسيلي كاندينسكي فنان روسي 16ولد عام 1866 ومات عام 1944.من أشهر فناني القرن العشرين، اكتشافاته في مجال الفن التجريدي جعلته واحدا من أهم المبتكرين والمجددين في الفن الحديث. فنان وباحث نظري لعب دوراً محورياً ومهماً جدا في تطور الفن التجريدي (abstraction art)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق