الثلاثاء، 6 مارس 2018

الفلسفة الطبيعية : / مقل الفنان / قيس جوامير / العراق ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

الفلسفة الطبيعية :
مقالة منشوره في صحيفة بنوراما في سدني
بقلم قيس جوامير علي
يمكن للقارئ الكريم قراءة المقال بحجم كتابه اكبر من خلال متابعة القراءة اسفل السطر

الفلسفة الطبيعية :
بعد أن جاء النبي (موسى) بتوراته في الفترة الزمنية 1200 عام (قبل الميلاد) , وما في الكتاب المقدس (العهد القديم) من كَمٍّ فلسفي وفكري هائل وخصوصاً في الاصحاح الاول من سفر التكوين , ويُذكر " ان موسى عمل كاهناً مصرياً أو كان أحد كبار الكهنة والعارفين بالرموز السرية" فساهمت تلك الافكار على ان يكون هناك نشاط فكري تأملي من قبل الانسان حول نشأت الخليقة ممزوجةً (بالاساطيروالمثيولوجيا) التي أنتجتها المجتمعات الانسانية في الشرق والغرب .
ففي (القرن الخامس والسادس قبل الميلاد) أزداد النشاط الفكري والفلسفي في الشرق للمفكرين والفلاسفة المصريين ومن سكن معهم من العبرانيين عند قدوم (موسى) اليها و تعرفهم على الخزين المعرفي لبعضهم البعض , وما وصلهم من (بلاد وادي الرافدين) . ففي القرن (السادس قبل الميلاد) تحديداً نضج ذلك الفكر المعرفي الانساني في جميع مجالات العلوم والمعرفة , وبدأ الانسان محاولاته في الأجابة على أسئلة (واقعية وميتافيزقيا) حيرته , مركزاً نشاطه الفكري بغية فك بعض رموز هذا الكون الذي يعيش فيه , ولكن المصريون والعبرانيون وبلاد وادي الرافدين كانوا بعيدين عن ذلك التوجه الفلسفي وانشغالهم بأمور تهم الانسان لذاته , أو قد يكونوا جهلوا الفلسفة على الرغم من أن علمائهم بزغوا في جميع العلوم وكانوا ذو ثقافة عالية بالنسبة للزمن الذي عاشوه , وكان همهم الوحيد الذي أقلقهم هو التعرف على الاديانوتهمقهم في اللاهوت والالوهية معرفتهم بالاديان وفي الالوهية ودواخل النفس البشرية والنفس بصورة عامه وعالم ما بعد الموت ولكنهم لم يعالجوها بالعلوم التي وصل اليها علمائهم في مجالات الفلك والرياضيات والعمارة وغيرها بل عالجوها بالبداهة والخيال دون الاستدلال بعكس الفرس والهنود والصينين الذين استخدموا النظر العقلي المجرد ولكنهم لم يعطوه ما يستحقه من الاهتمام وركزوا في التمحيص في الاديان واصلاحها وتركوا بيان ماهية (الفلسفة) , وكان للتلاقح الفكري الانساني أثر كبير في تطور الخزين المعلوماتي في تلك الحقبة الزمنية بين تلك الحضارات مضاف اليها حضارة اليونان التي سياتي ذكرها. في اليونان أستطاع كثيرمن العلماء والفلاسفة الذهاب الى (مصر) لدراسة الفلك والرياضيات والعلوم الاخرى بعد الاحتلال الفارسي لـ (مصر الفرعونية) في عام (525 ) قبل الميلاد * وأستمر الاحتلال الفارسي زهاء 120 عام " بعد الحظر الذي فرضه المصريون قرابة (خمسة ألاف سنة) على دخول (الاغريق) مصر , ثم سمحوا لهم بدخولها بغرض تلقي العلم , وأستطاع اليونانيون الدخول لاول مرة عن طريق الغزو الفارسي" .وتمكن كثير من الفلاسفة والباحثين اليونانيون وخاصة من (أيونا) الاطلاع على العلوم المتعددة التي توصل اليها الباحثون (العبرانيون والمصريون والبابليون) بالاخص في علوم (الفلك والرياضيات والفيزياء) وغيرها من العلوم الاخرى والاطلاع على (العقائد والمثيولوجيا) التي كان يؤمن بها الفراعنة (الموحدين والوثنين) و(الفلاسفة العبرانيون) , فجعلتهم مريدوا الفلسفة لاهتمامهم بها , بعكس المصريون الذين كان اهتمامهم ينصب على معرفة ما يؤول له الانسان بعد الممات والحياة الاخرى مما جعلهم يحنطون ملوكهم ويرسلون معهم الى الحياة الاخرى كل ما يحتاجونه هناك من مأكل ومشرب ومجوهرات وأدوات .
فليس من المهم أن نبحث من له الريادة في تاريخ الفلسفة الانسانية , ولكن المهم أن الانسان أستطاع أن يتحاور فكرياً مع الحضارات الاخرى بغية الوصول للحقيقة ولكن ليس من النَصَفة في شئ أن يتنكرْ الباحث للفلسفة الشرقية وأثرها على تلك الافكاروالعقائد رغم أن "الشرق وأهله أول الأمم التي برزت لديها العقيدة كظاهرة إجتماعية تحاول إثارة الصلة بين الكون والإنسان , وتمثلتها بأوجهها المتعددة في تجربةٍ أو دين " فكان للفلسفة اليونانية قيمتها الزمنية الواضحة خاصة في بحثها عن حقائق الاشياء وواقعها . تُعدْ (أيونا) مهبط الوحي الفلسفي و(الأويونيون) هم من ركبوا البحار وأبدعوا في الفنون وعاشوا حياة الحرية , ومن (أيونا) كان الإتصال الفكري المباشر بحضارات الشرق العريق (حضارة الفراعنة في مصر) و(بابل) بعد وصول قسم من فلاسفتها الى (مصر) والاطلاع على حضاراتهم وحضارات من سكنوا معهم , وفي (أيونا) ولد أول شاعرللمأساة الأغريقية وهو الشاعر (هوميروس) الذي كتب (الالياذة و الأوديسة) , والتي كانت بمثابة أنجيل اليونان القديم , فمن الطبيعي أن تكون لـ (أيونا) الريادة للاشعاع الفكري الفلسفي لتنير الفكر العالمي , وإذا كانت (أيونا) قد احتضنت الفكر الفلسفي جنينا , فأن هذا الجنين قد نما وترعرع في (صقلية وجنوب إيطاليا) , ونضج وكبر في (أثينا) فأنتج المفكرين والفلاسفة اليونانيين أعمالاً فنيةً ونشاطات فكرية وفلسفية وأدبية كبيرة , وأورثوا الفكر الانساني كنوز من المعرفة والفلسفة , ولا زالت منبعاً فكرياً يغرف منه مفكري العالم " أن أصل الفلسفة اليونانية ليس قائماً في الهند أو مصر أو أي قطر خارج اليونان , لقد كان اليونان أنفسهم هم وحدهم المسؤولين عنها "
بدأت الفلسفة اليونانية بحوثها الفكرية والفلسفية قبل (القرن السادس) قبل الميلاد وتركزت أفكارها وبحوثها لتجيب على التساؤلات الفلسفية في (أصل الكون) وطبيعته ولم تاتي تلك الأفكار من فراغ بل كانت تلك البحوث أمتداد لما طرحه شعراء المأساة الأغريق وشطحاتهم الاسطورية في تفسيرنشأة الكون وعلاقته بالالهة . فكان خيال الشعراء وتحفيز الشرق (لا تعليمهم) هو الشرارة التي بنى عليها الفلاسفة (اليونان) أفكارهم , وأن الشرق لم يلقن اليونان منهجاً أومذهباَ بذاته بل حفزهم على التفكير فالاساطير والشعرمن جميع الحضارات ما كانت الا محفزاً.
للشروع في بناء الفكر الفلسفي رغم أن التفكير الفلسفي الأغريقي قبل (سقراط) بدأ ساذجاً ثم علا شيئا فشيئاً ليصل الى التفكير العلمي الذي بنيَّ على القواعد والبراهين . الطبيعة بمظاهرها المختلفة كانت الشغل الشاغل الذي أهتم به (الفلاسفة الأيونيين) وأثْارَ تفكيرهم , وتوصلوا الى قناعة كاملة بأن العالم شئ محسوس والانسان يستطيع أن يصل الى الحقائق كافة بواسطة الحواس التي يمتلكها الانسان.
أن كيفية خلق الكون ؟ كان تساؤلاً قد شغل الفكر الانساني وتساؤلات أخرى كثيرة
ماهو الكون؟ ولماذا خُلقْ؟ وما هي أسراره؟ وكيف تشكلت المادة ؟ وهل خُلقتْ كل الظواهر الكونية من جوهر واحد؟ أم إن كل شكل من أشكال المادة لها جوهرها وماهيتها الخاصة بها ؟ ماهي تلك المادة التي تفرعت منها كل الأشياء الأخرى ؟
وما هو مفهوم الكون؟ وهل هو نظام واقعي كامل يتضمن شتى أشكال المادة المختلفة المحددة المستقلة بذاتها سواء كانت في (الحيوان او النبات او الجماد) ؟ .
وكيف يمكن لجميع اجزاء الواقع أن نصادفها يومياً معا رغم تباينها أن يتناغموا ؟ والسؤال المهم هل هناك وحدة مادية تجمع بين هذا النظام الكوني , هذا التنوع الواسع للاختيار الذي يدعى النظام الكوني ؟ وهل هناك تناغم يجمع هذا العالم الذي نعيش فيه ؟ أم أن هناك صراعاً يشكل تنافر بين تلك الاشياء التي تُكّونْ النظام الكوني ؟ وهل هذا النظام متناغم حتى يجعل جميع هذه الاشياء تَتّْحِدْ ؟ ام هو نظام فوضوي؟ جميع هذه التساؤلات حيرة الفكر الانساني وسمى هؤلاء الفلاسفة بـ (الفلاسفة الطبيعيين).
الفيلسوف اليوناني (طاليس) (TALES)
ولادته ووفاته :
ولد العالم الموسوعي الفيلسوف (طاليس) (TALES) عام (625) قبل الميلاد في مدينة (ميليتوس) (MiLETUS) * في (أيونا) بمقاطعة (آيدن) غرب (تركيا) من أبوين (فينيقيين) والده (كليوبولينا) ووالدته (إكزاميس) من نفس الأصل .
توفي الفيلسوف (طاليس) عام ( 546 ق . م) )عن عمر ناهز (الثمانين سنه) وهو يشاهد إحدى المباريات الرياضية في أولمبياد عام (548)ـ (545) قبل الميلاد والتي كانت تقام في مدينة (ميليتوس) وكان الجو في ذلك اليوم حار لم يتحمله فمات الفيلسوف (طاليس) بأثرضربة شمس .
الحالة الاجتماعية :
تضاربت المعلومات حول الوضع الاجتماعي للفيلسوف (طاليس) لندرة المصادر التي تخبرنا عن تاريخه فمنهم من قال انه قد تزوج ولم يكن لديه ذرية مما حدى به الى تبني أبن أخيه (سيبيستون) ومنهم القائل أن (طاليس) لم يتزوج طيلة حياته بحجة أنه لم يحب فكرة وجوب القلق على الاطفال ومنهم من قال ان سبب عدم زواجه لانه يحب العزلة .

* مدينة (ميليتوس) (MiLETUS) وهي مدينة وميناء تقع شرق بحر أيجه وسط الساحل الغربي لاسيا الصغرى حيث كانت الرابط التجاري والثقافي بين (أيونا) و(مصر وفينيقيا والبحر الاسود) مما سهل لتلاقح ثقافي مع جيرانها من الشرقيين لتُنْتجْ اتجاهات فكرية وفلسفية جديدة
فلسفة طاليس:
يَعْتبرْ الفلاسفة والباحثين أن تاريخ الثامن والعشرون من مايو عام (585 ق . م)
هو بمثابة ولادة (الفلسفة الغربية) , ولم يكن أختيار هذا التاريخ عشوائياً , ففي ذلك اليوم ولأول مرة في تاريخ البشرية يَتَنْبَئ الانسان مُسبقاً بحدوث (كسوف الشمس)

قبل وقوعه فكان حدثاً إستثنائياً تنبئ به الانسان على يد (الفيلسوف طاليس) الذي عاش في مدينة (أيونا) " كان مشهوراً في القديم بتعاليمه الرياضية والفلكية وحصافته العلمية وحكمته" ويُعتبرْ كذلك مؤسساً (للفلسفة اليونانية القديمة) ويُعدْ من ضمن الفلاسفة ما قبل الفيلسوف (سقراط) (Pre – Socratics) أحد أبرز تلامذة (أفلاطون (.
حاول (الفيلسوف طاليس) أن يحل مشكلة فكرية معقدة طالما أرقتْ الانسان وتكاد تكون من أقدم المشاكل والمسائل المستعصية عليه والتي خلقت صراعاً فكرياً وفلسفياً متبايناً كُرستْ لأجله دراسات كثيرة لعمالقة الفكرالفلسفي الانساني ألا وهيمسألة (الواحد والكثير) (The one and the many) , وبمعنى أكثر دقة هي مسألة العلاقة بين (الوحدة)(unity) وبين (التنوع) (Diversity) هذا التنوع في النظام الكوني المادي الواقعي المتضمن شتى الأنواع المترامية في هذا الكون سواء كانت من (الحيوان أم النبات أو الجماد) المتمثلة بالطيور والاشجار والصخور وغيرها التي نشاهدها كل يوم . ويُعتبر (طاليس) من الفلاسفة الأوائل الذين أنتقلوا بالفكر الفلسفي الإنساني من المرحلة (الأسطورية) (الميثوس) (كثولو ميثوس) (Cthulhu mythos) * الى مرحلة التفكير العقلي لوغوس **, والسؤال المحير في تلك الحقبة الزمنية من تاريخ الانسانية تُرى هل هذه الاشياء المادية المختلفة لها أستقلالية وخصوصية بذاتها ؟ أم هي جزء من نظام مادي ؟ وهل منبع هذه الاشياء المتنوعة جوهر واحد؟ وهل هناك وحدة مادية تجمع بين هذا النظام الكوني ليجعل منه كوناً متناغما ؟ وتوصل (طاليس) أن تلك الوحدة المادية التي تجمع بين هذا النظام الكوني تتمثل بالماء و "أن أصل الاشياء جميعاً هو الماء وكل شئ يعود الى الماء" وسمي (طاليس) هذه بـ (الحقيقة الاساسية) التي سماها بـ (الأركي) (المادة الاساسية) او (الحقيقة الاساسية للكون) والتي تنشأ منها جميع الاشياء وبمعنى أخر أنه (الجوهر) (Essence) أو الخلاصة (Substance) وهو الماء . والحقيقة الثانية التي توصل اليها في مجال (الميتافيزقيا) هي أن الله موجود في كل الموجودات وبمعنى أخر أنه يتجلى في جميع مخلوقاته وقد أمن بها كثير من الصوفية المسلمون لاحقاً . أما من حيث أن جميع المخلوقات في الكون مرجعها الاساسي ( الماء) قد يكون الفيلسوف طاليس قد تأثر بأسطورة (أوكيانوس) ***
أن هناك أساطير كثيرة يونانية وغير يونانية تشير بين طياتها الى أن الماء أساس كل شئ وان هذه الاساطير والحكايات القيمة والشعر ومنه شعر (هوميروس) في (الالياذة) ما تخبئ بين سطورها رموز قصدية تتبنى مقاصد علمية وعند قراءتها والتمحيص فيها ستنجلي لنا وتبدو واضحة ومقبولة عقلياً .
أن تصور (هوميروس) في (الالياذة) قد حرر خياله واصفاً الطبيعة بانها حية ليست جامدة لها مشاعرها وأحاسيسها وتحب وتكره وتتزوج , وغضب وحزن (نهر زونقوس) عندما ملأهُ (أخيل) بجثث القتلى , وان الارض هي الالهة الكبرى فهي الام للكون ـ اي (التراب) وسياتي فلاسفة ليقولوا أن اصل الكون (التراب) ـ وان هذه الارض الام هي التي حبلت وولدت كل شئ في الكون من جبال ووديان بعد ان تزوجت من السماء التي أحاطتها من كل جانب وكان من أولاها (أقيانوس) وجميع الانهار وقال (هوميروس) أن (أقيانوس) هو المصدر الرئيس الاول للاشياء , فمن الممكن أن يكون (طاليس) قد أخذ هذه المعلومه ووضعها في مختبر عقله وأستبط منها فلسفته بان عنصر ( الماء) أساس المادة المكونة للكون .
من تلك الاساطير ما تشير الى الماء بذاته , ومنها ما تشير الى البحار والمحيطات الفيلسوف " طاليس يرجع كل شئ الى الماء والاساطير السابقة تجعل أصل الاشياء المحيط " ومن هنا وبعد تأمل وملاحظة فلسفية عميقة لجميع الظواهر الطبيعية توصل (طاليس) الى إن جميع الأشياء المادية وبضمنها الاحياء الذي يُشكّلْ جسدها من عناصر مادية , ومهما كان هذا التنوع متعدداً فهي تتكون من ثلاث حالات وهي (الحالة الصلبة والحالة السائلة والحالة الغازية) فكانت جميع هذه البحوث الفلسفية والعلمية تنصب في أيجاد ذلك العنصر المادي الذي يستطيع التحول لـ (الحالات الثلاثة) ويمكن للانسان تغيره من حالة الى أخرى , وبما أن جميع ما في الكون يوجد في أحدى تلك الحالات أما بشكل (سائل أو صلب أو غاز) فوجد طاليس أن عنصر الماء وحده القابل للتحول للحالات الثلاثة فهو المادة الاساسية لتكوين كل تلك المواد الاخرى . فالماء بحالته الاعتيادية على شكل سائل وعندما يتعرض الى إنخفاض محسوب معين في درجة حرارته يتحول الى مادة صلبة وحين يتعرض الى درجة حرارية مرتفعة محسوبة يتبخر ويتحول الى غاز , فبذلك يكون العنصر الوحيد الذي يستطيع التحول .
بالاضافة الى كون الماء العنصر الرئيس في أستمرار الحياة , وان كل اشكال الحياة الموجودة على الكوكب لا يمكنها العيش الا بتواجد الماء وهو العصب الرئيس بل الوحيد لاستمرار الحياة , كل انواع الحياة تحتاج الماء , لا زرع ينموا بدون الماء وقبل أن تترطب البذرة , ولكي ينمو الانسان والحيوان , ويبقى على قيد الحياة لا بد أن يتزود بالماء ــ (وأن النبات والحيوان يولد من الرطوبة وان الجراثيم الحية رطبة وما منه يولد الشئ فهو مكون منه بل ان التراب يتكون من الماء) هذا ما قاله (يوسف كرم) في كتابه (تاريخ الفلسفة اليونانية)؟؟ تُرى هل كان اليونانيون مكتشفين الجراثيم في ذلك الزمن ؟؟ وقال (طاليس) أن الارض كانت قد خرجت من الماء على شكل قرص يطفو على وجه الماء متمثلة بجزيرة كبيرة تطفو في بحر عظيم تستمد قوتها من محيط مائي لا متناهي فالماء أصل الاشياء ــ والماء هو (المادة الاساسية) التي تخلق الحياة وبذلك يكون (طاليس) قد قدم جواباً أولياً عن مسألة الوجود ومسألة الحياة .
لقد سبق (طاليس) كثير من الامم البحث عن أصل كل المواد التي تملأ كوكبنا الذي نعيش فيه فقد "فكر المصريون في خلق الكون وأسراره , فقدروا أن تكون الحياة قد قامت على عناصر أربعة أولها (النون) الماء الازلي الذي ينطوي على حياة نائمة تريد أن تنبعث" يبدو ان هذه التساؤلات عن نشأة الكون وأصل المادة قد شغلت الانسان في كل زمان ومكان وبُحثتْ في كل الحضارات الانسانية ويتفاوت مستوى التركيز عليها من أمة الى اخرى وها هم البابليون يخوضون في هكذا معترك ويتسألون " عن أصل (الهيولي) والمقصود بـ (الهيولي) المادة التي جُبِلَتْ منها الأشياء " وبما أن البابليون كان لهم باع كبير في الاسطورة والمثيولوجيا فكان للاسطورة البابلية دور في الاجابة على أصل ( الهيولي) وجوهره فقالت اسطورة (بابلية) " في البدء قبل ان تسمى السماء وأن يعرف للارض أسم كان المحيط وكان البحر"
ويبقى أمام (طاليس) تفسير أخر صعب وهي حركة الأشياء , بمعنى أنه لو كان عنصر الماء هو أصل المادة وجوهرها والتي تنبع أو تستخرج منه كل انواع المواد الاخرى وتفرد في الاصالة فيجب أن يكون هذا العنصر هو المحرك الاول للاشياء ولا ثمة شئ يحركه بمعنى انه (ذاتي الحركة) يتحرك من ذاته , وهو السبب الرئيس لتحرك الأشياء الأخرى , وهذا تساؤل أخر حير الانسان : ماهي الحركة ؟ وكيف تتحرك كل هذه الاشياء المتنوعة في الكون ؟ أن جميع الاشياء هامدة ساكنة (بفعل قانون القصور الذاتي) كيف يتحرك الحيوان ؟ وكيف تتحرك الرياح ؟ وكيف يمكن تفسير الحركة ؟ كل هذه التساؤلات كان لا بد لـ (طاليس) أن يجيب عليها .
ففي فهم بدائي بسيط لمبدأ (القصور الذاتي للمادة) بشكل عام , فكان لا بد (لطاليس) البحث عن مادة تتعدى مبدأ القصور الذاتي , مادة أكثر حيوية مسؤولة عن الحركة (Hylozoistic) وبمعنى أخر البحث عن مادة (ذاتية الحركة) والدفع أي الشئ الذي يستطيع تحريك ذاته بذاته , ذلك الشئ الذي يمتلك القدرة على الحركة في حد ذاته , وأن فكرة الحركة هذه تستلزم أن شئ ما بطريقة ما وفي مكان ما , يملك القدرة على تحريك ذاته , عندما خُلقَ الكون كان كل شئ هامداً أبدياً وهو ما يسمى بالقصور الذاتي , وعندما نرى شئ ما يتحرك في وسط هذا السكون الابدي , حينها يتوضح لنا أن هناك تأثير خارجي على ذلك الشئ أستطاع زحزحته وتحريكه من نقطة السكون الى نقطة أخرى , وسرعان ما يسكن ذلك الشئ بمجرد أنتهاء التأثير الخارجي عليه , فالحركة إذن تنتج عن حركة سابقة حتى وأن كانت تلك الحركة ناتجة عن حركة سبقتها .والسؤال الذي يطرح نفسه .
ما هو ذلك الشئ الذي سبب الحركة الأولى لتلك للكون , ويبقى السؤال يدور في حلقة مفرغة ويستمر هذا السؤال يطرح نفسه الى الابد , ويكون البحث فيه عقيماً ليس ذي معنى , الا اذا وجد الانسان والباحث شي ما (مادياً) يمكنه تحريك نفسه من تلقاء نفسه.
فافصح الفيلسوف (طاليس) بانه وجد ذلك الشئ الخارق الذي حطم قانون (القصور الذاتي للمادة) وقال أنه الماء , فهو يستطيع أن يحرك نفسه من تلقاء نفسه , وصل الى هذه المعلومة عن طريق التأمل والمراقبة , وقد لاحظ (طاليس) إن جداول المياه تجري من تلقاء نفسها , وهنالك مجاري لمياه متحركة تكمن في البحار بالرغم من ان ليس هنالك أي شئ يهز البحار لتجعلها تتحرك , عن طريق هذا التفكير البسيط أراد (طاليس) أن يثبت نظريته التي تفتقر الى معلومات كثيرة بضمنها معلومة ( المد و الجزر) و(جاذبية القمر) , و(الجاذبية الارضية) .
بعين الفيلسوف (طاليس) المجردة , وبواسطة الملاحظة وفي تلك الحقبة الزمنية التي تفتقر للعلوم بدى للفيلسوف (طاليس) أن المياه تتموج وتتحرك من تلقاء نفسها وبذاتها دون أن تعتمد على أي قوة خارجية , ويذكر (أرسطو) في كتابه (النفس) بان الفيلسوف (طاليس) قال ( أن العالم مملوء بالالهة) وبمعنى أخر أنه مملوء بـ (الانفس) وأن أي حركة أو فعل لا بد أن تأتي من (النفس) وأن ( منتشرة في كل الكون وكل محتوياته من المواد فبالتالي ستكون (النفس) قد تسربت الى دواخل المادة فأحيتها وبذلك يكون الماء (حياً) وهو المؤلفة منه باقي الاشياء وبذلك يكون حاصلا على قوة حيوية دائما حتى وان لم تكن تظهر وبذلك يكون قد أعطى تفسيرا أساسياً لوحدة الوجود ووحدة الحياة وحركة الكون وأجاب عن كل تلك الاسئلة التي حيرت الانسان وقام بحل ألغازها المتعلقة بالوحدة والتنوع كل ذلك يكمن في حقيقة أساسية واحدة تدعى ( الماء) وبأستدلات بسيطة تُعَدُ ساذجة الى ما توصلت اليها الانسانية من علوم ومعرفة .

طاليس وعلم الفلك
أما في مجال العلوم الفلكية أستطاع (طاليس) سنة (585 ق م) التنبؤ بحدوث (كسوف الشمس) وتسجل له الانسانية بانه أول انسان أستطاع أن يتنبئ بحادث قبل وقوعه , وقال بعض المفكرين ان (طاليس) كان قد اعتمد على جداول فلكية وضعها (البابليون) وأستطاع كذلك أن يحسب عدد أيام السنة وقال ان عددها يساوي 365 يوما وربع اليوم , وكذلك تمكن من أكتشاف أجسام في السماء ليست نجوم , وأطلق عليها (Planct asters) . وكان (طاليس) قد وضع تقويماً للملاحين والصيادين اليونان ووضعها في ارشادات يعتمد عليها الملاحين في تعيين الشمال الحقيقي الدقيق وقال ان الدب الأصغرهو أدق الكواكب دلالة على الشمال لم يترك لنا (طاليس) أي كتاب مسجل باسمه ووصلتنا الافكار والمعلومات عن طريق مفكرين جاءوا من بعده وكتبوا عنه , وفي نظرته للكون قال أن الارض التي نعيش عليها عبارة عن نصف كرة من الاسفل ومسطحة في الاعلى هذا النصف كرة من الارض ترتكز أو هي قائمة طافية على مسطح مائي غير محدود لا نهاية له .
طاليس والرياضيات
أضافة الى أن الفضل يرجع لـ (طاليس) في تاسيس المنهج العلمي بعيداً عن الخرافة , كذلك أن له النواة الاولى للرياضيات الحديثة وقد أستطاع (طاليس) من قياس طول الهرم (خوفو) عند زيارته الى (مصر) وذلك بالاعتماد على (الظل) حيث قاس ظل الانسان عندما يكون مساوياً الى طوله في وقت معين من النهار وفي نفس ذلك الوقت قاس طول ظل الهرم وبذلك أثبت طول الهرم , بالاضافة الى نظريات أخرى في الرياضيات منها (قطر الدائرة يقسم الدائرة الى قسمين متساويين ونظريات أخرى في زوايا المثلث والزوايا المرسومة في نصف الدائرة تكون قائمة وبنى (طاليس) برجاً عاليا كان يرصد ويحسب من اعلاه ابعاد السفن في البحر وعند حلوله في (مصر) تعلم علم المساحة وأشتغي في بحوث حول فيضان (نهر النيل) . أختلف المفكرين في المنبع الذي أستقى (طاليس) أفكاره وفلسفته فمنهم من قال أن أفكاره في علوم الرياضيات كان قد أخذها من (بلاد ما بين النهرين) ومنهم من قال قد اخذ علوم الرياضيات والفلك من (مصر) حيث أنه "في حكم (أماسيس) زار (طاليس) مصر وتتلمذ على أيدي الكهنة المصريين الذين قبلوه مبتدئاً لتلقي نظم الاسرار والعلوم المصرية ......ويروى أيضاً أن (طاليس) أثناء أقامته في مصر تعلم الفلك ومساحة الاراضي وفن القياس والهندسة وفقه (الالهيات المصري)" فأن كان (طاليس) قد أطلع حقاً على تلك العلوم التي زخرت بها الحضارة (الفرعونية والبابلية) بعلومها , وأساطيرها , ومثيولوجيتها , وما جاء في الكتاب المقدس في الاصحاح الاول من سفر التكوين .قال الله في الاية 20 من سفر التكوين الاصحاح الاول " لتفض الارض زحافات ذات نفس حية أو ليطر طير فوق الارض على وجه جلد السماء" . وقال في الاية 21 " فخلق الله التنانين العظام وكل ذوات الانفس الحية الدبابة التي فاضت بها المياه كأجناسها وكل طائر ذي جناح كجنسه" وقال في الاية 23 "أّتمري وأكثري وأملأي المياه في البحار وليكن الطيرعلى الارض " وكثير من الايات في سفر التكوين والتفسير لها يمكن القارئ أن يتعرف عليها التي تثبت أهمية عنصر الماء في الكون ونشأته وكان ذلك قبل 700 سنة من ولادة (طاليس) وحيث أن (طاليس) لم يكن يعتمد (الاساطير, والمثيولوجيا , والاديان)
فكل ما تقدم لم يكن ومهما كان وجهة أطلاعه مثلبة على الفيلسوف (طاليس) بل هي رفعة له أذ أن (طاليس) كان قد أطلع على الفلسفة (المصرية , والفرعونية , والبابلية) وعلومهما وأستطاع قراءتها وأعادة تأويلها , (القراءة والتاويل) ما هي الا خطوة أولى في الابداع الفلسفي , فقرأ (طاليس) ألأنا اليونانية في مرآة الحضارة (الفرعونية والبابلية والعبرانية) ومزج بينهم , وتوصل الى نظريات جديدة في أصل الكون , و(الفلك , والرياضيات) فكانت تُحسبْ لفلسفة (طاليس) حيث أن الحضارة (الفرعونية والبابلية والعبرانية) لم يهتمون بفلسفة الكون بقدر أهتمامهم بـ (المثيولوجيا) والبحث عن الحياة الاخرى للانسان وأحتياجاته في العالم الآخر مما حدى بهم الى ارسال كل ما يحتاجه ملوكهم في الحياة الاخرى من ذهب ومجوهرات بعد تحنيطهم ذلك عند الفراعنة .
غاص (طاليس) في الحضارة اليونانية مستقياً منها العلوم بانواعه والمثيولوجيا والاساطير اليونانية والاطلاع المباشر على حضالرة الفراعنة وما فيها من كنوز معرفية ومثيولوجيا واساطير من خلال زيارته لمصر والتتلمذ على يد كهنتها والاطلاع غير المباشر على الحضارة البابلية وأستطاع أن يوضف كثير ما موجود في الاساطير والمثيولوجيا والافكار الدينية واخضاعها للمختبر العلمي وتجريدها من الخرافة ومنها المادة الاساسية لتكون الكون وهو الماء ويبحث فيها علمياً واستطاع ان يضع قسم من افكاره على طاولة التجريب كما فعل في ايجاد طول الهرم (خوفو) اعتماداً على طول الظل وبذلك يعتبر من الفلاسفة التجريبيين وقد يكون واقعي تجريبي من خلال رفضه للخرافات والاساطير.
وقد وظف أفكاره وخبرته بالفلك وحركة النجوم بانه (تنبئ) بان محصول الزيتون في السنة القادمة سيكون كثيرا ووفيراً فأستأجر معاصر الزيتون باسعار زهيدة من (خيوس و ملطيه) لحسابه الخاص وبعدد كبير حين جاء وقت الحصاد احتاج الفلاحون لمعاصر كثيرة لوفرة الزيتون مما عاد واجر تلك المعاصر باسعار عالية وبالسعر الذي اراده .
ومما تقدم يمكننا أن نعد الفيلسوف ( طاليس) من رواد الواقعية التجريبية ففي فلسفته انه نظر للقوى الطبيعية والالهة على انها اشياء معروفة محسوسة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق