الزمار
قصة بقلم: مجدى بكرى
أســـند رأسه علي مقعد الطائرة وطار بخياله إلي أرض الوطن.. عائد هو الآن إلي مسقط رأسه بعد رحلة عمل وعناء استغرقت أربع سنوات فضل أن يقضيها دفعة واحدة حتي لا يشعر بعذاب الاغتراب فيما لو عاد لعدة أيام كل سنة.. مرت بخاطره كل أحداث السنوات الأربع.. لقد سافر إلي تلك الدولة الخليجية الصغيرة ليعمل بها مهندسا للبترول وساهم في التنقيب واكتشاف وحفر العديد من آبار البترول .
تري كيف يتحرك ابنه الصغير هيثم.. لقد ترك زوجته حاملا فيه في شهرها الثالث, وعندما علم بالخبر اختار له اسما وأخبرها به تليفونيا.. إن عمره الآن ثلاث سنوات ونصف السنة ولم يره وجها لوجه.. أحدث صور له أرسلتها له زوجته علي الإنترنت ونقلها علي تليفونه المحمول.. أخذ يتصفحها ويراه في مراحله المختلفة .. كان الاتصال شبه يومي مع زوجته علي الإنترنت .. تروي له أحداث اليوم .. ومشاجراتها الخفيفة مع والدته .. وكيف ان اخته قد عبست في وجهها اليوم .. وأخاه زجر هيثم عندما كان يمزح معه بألفاظ اعتبرها أخوه غير مهذبة.. كيف تعلم الأبناء الصلاة , وصورهم وهم يصلون.. هيثم يحفظ كلمات قليلة من القرآن الآن رغم صغر سنه.. كم هو مشتاق لرؤية وسماع صوت هذا العفريت.. الموبايل والإنترنت لايكفيان.. والدته تقول انه شقي جدا.. أما أخته زينب فقد حفظت القرآن كله وأختها هاجر أوشكت علي حفظه .. أما هبة الله فقد حفظت نصف القرآن فقط وتواصل الحفظفي كتاب القرية..
أخرجته المضيفة من شروده البعيد وهي تسأله أي مشروب يفضل؟ نظر اليها نظرة طويلة .. أين كنت .. ما كل هذا الجمال.. فعلا.. لابد من تشجيع المنتج الوطني.. البلدي يكسب.. يا حبيبتي يا مصر .. سألها: هل الملائكة تظهر نهارا؟ سألته باسمة مرة أخري عما يطلب لكنه كان لحوحا ولزجا كعادته عندما يري أي امرأة : مصرية طبعا.. مش كده .. رغم ان أول ما شفتك اتصورتك أجنبية أو لبنانية.. قالت له : أيوة مصرية ياسيدي.. ومن شبرا كمان.. حاتشرب إيه.. ورايا شغل كتير.. حارجعلك تاني, قال لها: أي حاجة منك حتبقي زي السكر. شكرته علي هذه المجاملة وانصرفت..
تتضارب في داخله مشاعر كثيرة.. يطل ببصره علي السحب التي تشقها الطائرة وتستغرقه الذكريات ويسترجع كل ما مر به من مواقف .. يتذكر صباه في قريته الريفية الجميلة .. يتذكر بهانة وشلبية وام الخير وحلاوتهم وفرحانة وست الدار وخضرة ومغامراته الشقية معهن.. آه.. ما أحلي الريف وما أروعه .. محلاها عيشة الفلاح!
ثم تذكر نزوحه من القرية بعد نجاحه بتفوق في الثانوية العامة ليلتحق بجامعة القاهرة.. ومغامراته الجريئة مع زميلاته كريمان وسوزي وإنجي وريهام ونيهال وغيرهن.. رغم ولعه بالنساء إلا ان هذا لم يؤثر علي تفوقه الدراسي وهو ما كان يجذب العديد من الفتيات إليه لتستفدن من نبوغه بالإضافة الي كرمه الحاتمي الذي كان يتجلي مع الفتيات فقط في حفلات الديسكو والرحلات الجامعية.. وبعد كل هذه المغامرات فإنه بعد اختبارات عميقة ودراسة مستفيضة للفتيات اللاتي تسكن في المنطقة المحيطة بشقته بالدقي شادية وإيمان وليلي وفتحية وامتثال وسيدة وكريمة, فإنه تقدم لخطبة جارته بدرية بالطريقة التقليدية البحتة.. لكن بعد ما عاناه من مشاحنات مع أمها فإنه لم يستطع تكملة المشوار معها .. انها تتبع أمها كالشاه.. ضحي بالشبكة والهدايا واشتري راحته..ليست هي فتاة أحلامه.. دائما كان يشعر أن هناك شيئا ما ينقص كل فتاة عرفها.. إنه يبحث عن الكمال ويعلم جيدا انه غير موجود في البشر علي الأرض.. ثم سأل نفسه في لحظة صدق نادرة: هل لو عثر علي هذه الإنسانة الكاملة التي يتمناها .. هل سترضي به .. هل هو كامل؟.. انه يعلم جيدا إنه من أنقص الرجال وبه كل العبر.. ربما يعوض ذلك تفوقه الدراسي وعمله المرموق فيما بعد كمهندس ناجح في أكبر شركات البترول الوطنية.. لكنه في قرارة نفسه غير راض بالمرة عن كل تصرفاته.. آفته الكبري النساء.. لقد فكر كثيرا أن يرجع عن تلك العادة السيئة .. انه يعشقهن .. كل تفكيره ينحصر في أن ينال أي أمرأة تصادفه.. لايهمه العواقب.. لكن الله ستره كثيرا .. شئ ما بداخله يوخزه في كل مرة يخطأ فيها.. يؤنبه.. يلومه .. لكنه سرعان ما يعود لحالته السابقة .. تماما كما سمع جده يوما يقول: يمـوت الزمـار وصبـاعه بيلعــب..
جاءته المضيفة بفنجان من القهوة وقدمته إليه بلطف ولم ينس أن يرمقها بطرف عينيه معاودا مغازلته إياها بعباراته المعتادة فسألته المضيفة بطريقة مباشرة : انت عاوز مني إيه؟ قال لها بطريقة أكثر مباشرة: عاوزك! قالت : أنا مخطوبة.. رد: مش مهم! قالت: يعني إيه مش مهم.. انت غريب قوي .. قال لها: أنا مش غريب .. أنا المهندس أنور عبدالغفور .. مهندس بترول.. قالت له: تشرفنا يا باشمهندس.. قال لها: واسم القمر إيه؟ قالت: زي ما انت قلت بالضبط .. قمر شحاتة.. قال: فعلا أنا قلبي دليلي.. قمر وانتي قمر فعلا .. قالت له عن اذنك ..(ارتبكت واحمر وجهها وسارعت بالانصراف).
تذكر حين عاد إلي القرية ليطلب من أمه أن تبحث له عن عروس فاختارت له زوجته الحالية فريدة وقد كانت تعمل مدرسة لغة انجليزية في المدرسة الإعدادية في المدينة المجاورة لقريته ومن أسرة متدينة فوالدها شيخ جامع القرية ومأذونها.. لقد أنجبت له ثلاث بنات وولد .. هيثم .
وتذكر النساء اللاتي عرفهن في الغربة مزنة ورغد ورهف وفيحاء ولمي وسلمي وربي وجمانة.. لقد كانت مغامرات تحفها المخاطر من كل جانب, وأي خطأ منه كان سيودي بحياته ولكنه كان حذرا إلي أقصي حد.. انه يعشق الخطر!
أيضا فإنه لا ينسي الخادمات الأجنبيات التي كان يستعين بخدماتهن المختلفة .. وأبدا لم يتركهن لحال سبيلهن.. جولي .. وأوشي.. وشيتارا .. وسولان .. وكالا .. ومارديس.. وأخريات لم يهتم بمعرفة أسمائهن من الأساس.. كان يهتم بأشياء أخري!
لابد أن يكتفي بهذا القدر.. من السفر .. ومن الذرية .. ومن المغامراته النسائية.. ومن المال.. سيفكر بعد أن يعود فيما سيفعله بالضبط في حياته.. هل سيعود الي شركته التي كان يعمل بها ..وهل سيكفيه راتبه الضئيل الذي كان يحصل عليه منها؟.. هل سيفتح مشروعا يدر عليه ربحا وفيرا .. وماذا يضمن ذلك؟ قد يخسر المشروع .. لقد ربح الكثير في هذه السنوات الأربع.. هل يضع نقوده وتحويشة عمره في البنك .. أم في شركة توظيف أموال تعطيه فائدة أكبر ؟.. هل سيقنع بزوجته ويكتفي بها وبرعاية ابنائه .. تلك الذرية الصالحة التي اعطاها له الله ولم يفكر في حمده وشكره علي ما أعطاه .. فعلا هو مقصر في حق الله .. ينقطع كثيرا عن الصلاة.. يقع في المعاصي كثيرا .. لا بد أن يتوب .. لابد.. لكن.. هل يستطيع التوبة فعلا؟!
عشرات من علامات الاستفهام كانت تتراقص أمامه.. آلاف الذنوب والمعاصي التي ارتكبها .. الكثير والكثير من اللذات المحرمة.. سأل نفسه.. لماذا لم يتوب حتي الآن.. لماذا لم يفكر في الحج مثلما فعل جميع زملاءه رغم المدة الطويلة التي قضاها في الغربة ورغم تيسر المال اللازم له.. احتقر نفسه بشدة..
جاءته المضيفة مرة أخري قالت له: احنا كنا بنقول إيه بقي؟.. قال: عاوز اشوفك بعد ما نوصل مصر.. عاوزك في حاجة مهمة قالت له: فين؟! قال في أي مكان تحبيه.. خدي تليفوني أهه .. بس لو مراتي ردت عليكي قولي لها انك سكرتيرة الشركة في فرع القاهرة.. قالت له: وكمان متجوز!.. قال لها: الشرع حلل أربعة.. قالت: باقولك أنا مخطوبة .. قال لها: طب نشوف الموضوع ده بعدين!
لكن فجأة أخرجتهما من هذا الحوار الآثم حركة غير عادية من المضيفات وهرولة من طاقم الطائرة .. انتبه جميع الركاب .. تركته وهرعت نحو غرفة القيادة .. سأل المضيفة التي كانت تمر مسرعة بجواره:
ـ هوا حصل إيه؟!
قالت: لا شئ.. اطمئن..
لكنه لم يهدأ بالا, ولم يطمئن .. تطايرت في لحظة كل مشاكله الشخصية وكل نوازع الشر داخله .. أصبح كل فكره محصورا فيما يحدث الآن.. مرت جميع الأحداث التي تشمل أخطائه وعيوبه ومساوئه وكل ما فعله طوال مشوار حياته أمام عينيه بسرعة البرق..
ها هو معلق بين السماء والأرض .. نظر من النافذة فوجد مياه البحر الشاسعة أسفل الطائرة .. قد تكون النهاية بعد دقيقة أو دقيقتين .. لا بد أن هناك كارثة.. يعلم جيدا أنه مجرم وسيلقي عقاب رادع من السماء, ولكنه لم يكن يتوقع أن تكون النهاية سريعة هكذا.. عض علي شفتيه نادما .. تذكر ربه .. كانت عروقه مشدودة متشبثا بالمقعد وكأنه طوق النجاة الأخير المتبقي لديه .. كشريط السينما السريع كانت أحداث حياته تتري أمامه.. لا يريد أن يراها ولكنها كانت ضخمة بحيث سدت الرؤية جميعها أمام عينيه.. أين المفر.. لابد أن يتوب.. ولكن هل تجوز التوبة وهو في هذا الموقف .. شعر انه قريب جيدا من الله .. دعاه من قلبه أن يرحمه .. أن يلطف به.. ولكن مازالت الحركة حوله متوترة .. يستمع الي أصوات ضجة وخبطات غير عادية تنبعث من محركات الطائرة.. الطائرة تهبط إلي أسفل وتقترب من مياه البحر..
خرج الكابتن من كابينة القيادة معترفا لهم بالحقيقة حتي لايحدث ذعر في الطائرة.. ازدادت الهمهمات.. صرخات من النساء والأطفال.. ضجيج من الرجال.. طلب من الجميع الهدوء والتزام الصمت .. إن هناك عطلا في أحد المحركات والزملاء يحاولون إصلاحه .. رجاء أن تربطوا الأحزمة استعدادا لأي طارئ لا قدر الله.. ان شاء الله لن يحدث أي مكروه..توجد في أعلي كل مقعد لايف جاكيت.. يمكن استعماله في أسوأ الظروف..
سارع بربط حزامه.. لملم اشياؤه وأفكاره المبعثرة.. الأيدي كلها تبتهل بالدعاء .. رأي قمة الضعف البشري أمام عينيه .. لا يريد المضيفة .. لايريد شيئا من الله سوي أن يعود سالما لزوجته الطيبة الصابرة المخلصة المتدينة ولأولاده الأبرياء الأنقياء الضعفاء الصغار الذين يحتاجونه بشدة بجوارهم.. لايريد أي شئ سوي الخروج من هذه الأزمة .. لا يريد نساء أو أموال .. ماذا تفيد أموال الأرض كلها أمام لحظة كهذه يكون مصير الإنسان فيها معلقا بين السماء والأرض.. لا يريد شيئا سوي أن يعود لأولاده سالما.. لن يعود أبدا الي حياته السابقة .. لقد تغير تماما .. انخلع قلبه..
مرت اللحظات ثقيلة بطيئة وكأنها دهرا .. خفتت أصوات المحرك الصاخبة.. خرج بعدها الكابتن يطمئن الركاب.. الحمد لله يا جماعة .. أصلحنا العطل.. اطمئنوا.. حانوصل بعد تلت ساعة المطار بالسلامة إن شاء الله.
تنفس الجميع الصعداء.. بعدها بدقائق.. هدأ قليلا.. نظر حوله باحثا عن المضيفة.. رآها مقبلة تجاهه .. هش وبش وسارع بفك الحزام .. اقتربت منه واستندت علي مقعده .. قال لها: احنا كنا اتفقنا علي إيه بقي.. قلنا حانتقابل فين؟! .. ومد يده ليلمس يدها.. وفجأة.. حدث انفجار هائل وتناثرت أشلاء الطائرة في البحر الأحمر!!
قصة بقلم: مجدى بكرى
أســـند رأسه علي مقعد الطائرة وطار بخياله إلي أرض الوطن.. عائد هو الآن إلي مسقط رأسه بعد رحلة عمل وعناء استغرقت أربع سنوات فضل أن يقضيها دفعة واحدة حتي لا يشعر بعذاب الاغتراب فيما لو عاد لعدة أيام كل سنة.. مرت بخاطره كل أحداث السنوات الأربع.. لقد سافر إلي تلك الدولة الخليجية الصغيرة ليعمل بها مهندسا للبترول وساهم في التنقيب واكتشاف وحفر العديد من آبار البترول .
تري كيف يتحرك ابنه الصغير هيثم.. لقد ترك زوجته حاملا فيه في شهرها الثالث, وعندما علم بالخبر اختار له اسما وأخبرها به تليفونيا.. إن عمره الآن ثلاث سنوات ونصف السنة ولم يره وجها لوجه.. أحدث صور له أرسلتها له زوجته علي الإنترنت ونقلها علي تليفونه المحمول.. أخذ يتصفحها ويراه في مراحله المختلفة .. كان الاتصال شبه يومي مع زوجته علي الإنترنت .. تروي له أحداث اليوم .. ومشاجراتها الخفيفة مع والدته .. وكيف ان اخته قد عبست في وجهها اليوم .. وأخاه زجر هيثم عندما كان يمزح معه بألفاظ اعتبرها أخوه غير مهذبة.. كيف تعلم الأبناء الصلاة , وصورهم وهم يصلون.. هيثم يحفظ كلمات قليلة من القرآن الآن رغم صغر سنه.. كم هو مشتاق لرؤية وسماع صوت هذا العفريت.. الموبايل والإنترنت لايكفيان.. والدته تقول انه شقي جدا.. أما أخته زينب فقد حفظت القرآن كله وأختها هاجر أوشكت علي حفظه .. أما هبة الله فقد حفظت نصف القرآن فقط وتواصل الحفظفي كتاب القرية..
أخرجته المضيفة من شروده البعيد وهي تسأله أي مشروب يفضل؟ نظر اليها نظرة طويلة .. أين كنت .. ما كل هذا الجمال.. فعلا.. لابد من تشجيع المنتج الوطني.. البلدي يكسب.. يا حبيبتي يا مصر .. سألها: هل الملائكة تظهر نهارا؟ سألته باسمة مرة أخري عما يطلب لكنه كان لحوحا ولزجا كعادته عندما يري أي امرأة : مصرية طبعا.. مش كده .. رغم ان أول ما شفتك اتصورتك أجنبية أو لبنانية.. قالت له : أيوة مصرية ياسيدي.. ومن شبرا كمان.. حاتشرب إيه.. ورايا شغل كتير.. حارجعلك تاني, قال لها: أي حاجة منك حتبقي زي السكر. شكرته علي هذه المجاملة وانصرفت..
تتضارب في داخله مشاعر كثيرة.. يطل ببصره علي السحب التي تشقها الطائرة وتستغرقه الذكريات ويسترجع كل ما مر به من مواقف .. يتذكر صباه في قريته الريفية الجميلة .. يتذكر بهانة وشلبية وام الخير وحلاوتهم وفرحانة وست الدار وخضرة ومغامراته الشقية معهن.. آه.. ما أحلي الريف وما أروعه .. محلاها عيشة الفلاح!
ثم تذكر نزوحه من القرية بعد نجاحه بتفوق في الثانوية العامة ليلتحق بجامعة القاهرة.. ومغامراته الجريئة مع زميلاته كريمان وسوزي وإنجي وريهام ونيهال وغيرهن.. رغم ولعه بالنساء إلا ان هذا لم يؤثر علي تفوقه الدراسي وهو ما كان يجذب العديد من الفتيات إليه لتستفدن من نبوغه بالإضافة الي كرمه الحاتمي الذي كان يتجلي مع الفتيات فقط في حفلات الديسكو والرحلات الجامعية.. وبعد كل هذه المغامرات فإنه بعد اختبارات عميقة ودراسة مستفيضة للفتيات اللاتي تسكن في المنطقة المحيطة بشقته بالدقي شادية وإيمان وليلي وفتحية وامتثال وسيدة وكريمة, فإنه تقدم لخطبة جارته بدرية بالطريقة التقليدية البحتة.. لكن بعد ما عاناه من مشاحنات مع أمها فإنه لم يستطع تكملة المشوار معها .. انها تتبع أمها كالشاه.. ضحي بالشبكة والهدايا واشتري راحته..ليست هي فتاة أحلامه.. دائما كان يشعر أن هناك شيئا ما ينقص كل فتاة عرفها.. إنه يبحث عن الكمال ويعلم جيدا انه غير موجود في البشر علي الأرض.. ثم سأل نفسه في لحظة صدق نادرة: هل لو عثر علي هذه الإنسانة الكاملة التي يتمناها .. هل سترضي به .. هل هو كامل؟.. انه يعلم جيدا إنه من أنقص الرجال وبه كل العبر.. ربما يعوض ذلك تفوقه الدراسي وعمله المرموق فيما بعد كمهندس ناجح في أكبر شركات البترول الوطنية.. لكنه في قرارة نفسه غير راض بالمرة عن كل تصرفاته.. آفته الكبري النساء.. لقد فكر كثيرا أن يرجع عن تلك العادة السيئة .. انه يعشقهن .. كل تفكيره ينحصر في أن ينال أي أمرأة تصادفه.. لايهمه العواقب.. لكن الله ستره كثيرا .. شئ ما بداخله يوخزه في كل مرة يخطأ فيها.. يؤنبه.. يلومه .. لكنه سرعان ما يعود لحالته السابقة .. تماما كما سمع جده يوما يقول: يمـوت الزمـار وصبـاعه بيلعــب..
جاءته المضيفة بفنجان من القهوة وقدمته إليه بلطف ولم ينس أن يرمقها بطرف عينيه معاودا مغازلته إياها بعباراته المعتادة فسألته المضيفة بطريقة مباشرة : انت عاوز مني إيه؟ قال لها بطريقة أكثر مباشرة: عاوزك! قالت : أنا مخطوبة.. رد: مش مهم! قالت: يعني إيه مش مهم.. انت غريب قوي .. قال لها: أنا مش غريب .. أنا المهندس أنور عبدالغفور .. مهندس بترول.. قالت له: تشرفنا يا باشمهندس.. قال لها: واسم القمر إيه؟ قالت: زي ما انت قلت بالضبط .. قمر شحاتة.. قال: فعلا أنا قلبي دليلي.. قمر وانتي قمر فعلا .. قالت له عن اذنك ..(ارتبكت واحمر وجهها وسارعت بالانصراف).
تذكر حين عاد إلي القرية ليطلب من أمه أن تبحث له عن عروس فاختارت له زوجته الحالية فريدة وقد كانت تعمل مدرسة لغة انجليزية في المدرسة الإعدادية في المدينة المجاورة لقريته ومن أسرة متدينة فوالدها شيخ جامع القرية ومأذونها.. لقد أنجبت له ثلاث بنات وولد .. هيثم .
وتذكر النساء اللاتي عرفهن في الغربة مزنة ورغد ورهف وفيحاء ولمي وسلمي وربي وجمانة.. لقد كانت مغامرات تحفها المخاطر من كل جانب, وأي خطأ منه كان سيودي بحياته ولكنه كان حذرا إلي أقصي حد.. انه يعشق الخطر!
أيضا فإنه لا ينسي الخادمات الأجنبيات التي كان يستعين بخدماتهن المختلفة .. وأبدا لم يتركهن لحال سبيلهن.. جولي .. وأوشي.. وشيتارا .. وسولان .. وكالا .. ومارديس.. وأخريات لم يهتم بمعرفة أسمائهن من الأساس.. كان يهتم بأشياء أخري!
لابد أن يكتفي بهذا القدر.. من السفر .. ومن الذرية .. ومن المغامراته النسائية.. ومن المال.. سيفكر بعد أن يعود فيما سيفعله بالضبط في حياته.. هل سيعود الي شركته التي كان يعمل بها ..وهل سيكفيه راتبه الضئيل الذي كان يحصل عليه منها؟.. هل سيفتح مشروعا يدر عليه ربحا وفيرا .. وماذا يضمن ذلك؟ قد يخسر المشروع .. لقد ربح الكثير في هذه السنوات الأربع.. هل يضع نقوده وتحويشة عمره في البنك .. أم في شركة توظيف أموال تعطيه فائدة أكبر ؟.. هل سيقنع بزوجته ويكتفي بها وبرعاية ابنائه .. تلك الذرية الصالحة التي اعطاها له الله ولم يفكر في حمده وشكره علي ما أعطاه .. فعلا هو مقصر في حق الله .. ينقطع كثيرا عن الصلاة.. يقع في المعاصي كثيرا .. لا بد أن يتوب .. لابد.. لكن.. هل يستطيع التوبة فعلا؟!
عشرات من علامات الاستفهام كانت تتراقص أمامه.. آلاف الذنوب والمعاصي التي ارتكبها .. الكثير والكثير من اللذات المحرمة.. سأل نفسه.. لماذا لم يتوب حتي الآن.. لماذا لم يفكر في الحج مثلما فعل جميع زملاءه رغم المدة الطويلة التي قضاها في الغربة ورغم تيسر المال اللازم له.. احتقر نفسه بشدة..
جاءته المضيفة مرة أخري قالت له: احنا كنا بنقول إيه بقي؟.. قال: عاوز اشوفك بعد ما نوصل مصر.. عاوزك في حاجة مهمة قالت له: فين؟! قال في أي مكان تحبيه.. خدي تليفوني أهه .. بس لو مراتي ردت عليكي قولي لها انك سكرتيرة الشركة في فرع القاهرة.. قالت له: وكمان متجوز!.. قال لها: الشرع حلل أربعة.. قالت: باقولك أنا مخطوبة .. قال لها: طب نشوف الموضوع ده بعدين!
لكن فجأة أخرجتهما من هذا الحوار الآثم حركة غير عادية من المضيفات وهرولة من طاقم الطائرة .. انتبه جميع الركاب .. تركته وهرعت نحو غرفة القيادة .. سأل المضيفة التي كانت تمر مسرعة بجواره:
ـ هوا حصل إيه؟!
قالت: لا شئ.. اطمئن..
لكنه لم يهدأ بالا, ولم يطمئن .. تطايرت في لحظة كل مشاكله الشخصية وكل نوازع الشر داخله .. أصبح كل فكره محصورا فيما يحدث الآن.. مرت جميع الأحداث التي تشمل أخطائه وعيوبه ومساوئه وكل ما فعله طوال مشوار حياته أمام عينيه بسرعة البرق..
ها هو معلق بين السماء والأرض .. نظر من النافذة فوجد مياه البحر الشاسعة أسفل الطائرة .. قد تكون النهاية بعد دقيقة أو دقيقتين .. لا بد أن هناك كارثة.. يعلم جيدا أنه مجرم وسيلقي عقاب رادع من السماء, ولكنه لم يكن يتوقع أن تكون النهاية سريعة هكذا.. عض علي شفتيه نادما .. تذكر ربه .. كانت عروقه مشدودة متشبثا بالمقعد وكأنه طوق النجاة الأخير المتبقي لديه .. كشريط السينما السريع كانت أحداث حياته تتري أمامه.. لا يريد أن يراها ولكنها كانت ضخمة بحيث سدت الرؤية جميعها أمام عينيه.. أين المفر.. لابد أن يتوب.. ولكن هل تجوز التوبة وهو في هذا الموقف .. شعر انه قريب جيدا من الله .. دعاه من قلبه أن يرحمه .. أن يلطف به.. ولكن مازالت الحركة حوله متوترة .. يستمع الي أصوات ضجة وخبطات غير عادية تنبعث من محركات الطائرة.. الطائرة تهبط إلي أسفل وتقترب من مياه البحر..
خرج الكابتن من كابينة القيادة معترفا لهم بالحقيقة حتي لايحدث ذعر في الطائرة.. ازدادت الهمهمات.. صرخات من النساء والأطفال.. ضجيج من الرجال.. طلب من الجميع الهدوء والتزام الصمت .. إن هناك عطلا في أحد المحركات والزملاء يحاولون إصلاحه .. رجاء أن تربطوا الأحزمة استعدادا لأي طارئ لا قدر الله.. ان شاء الله لن يحدث أي مكروه..توجد في أعلي كل مقعد لايف جاكيت.. يمكن استعماله في أسوأ الظروف..
سارع بربط حزامه.. لملم اشياؤه وأفكاره المبعثرة.. الأيدي كلها تبتهل بالدعاء .. رأي قمة الضعف البشري أمام عينيه .. لا يريد المضيفة .. لايريد شيئا من الله سوي أن يعود سالما لزوجته الطيبة الصابرة المخلصة المتدينة ولأولاده الأبرياء الأنقياء الضعفاء الصغار الذين يحتاجونه بشدة بجوارهم.. لايريد أي شئ سوي الخروج من هذه الأزمة .. لا يريد نساء أو أموال .. ماذا تفيد أموال الأرض كلها أمام لحظة كهذه يكون مصير الإنسان فيها معلقا بين السماء والأرض.. لا يريد شيئا سوي أن يعود لأولاده سالما.. لن يعود أبدا الي حياته السابقة .. لقد تغير تماما .. انخلع قلبه..
مرت اللحظات ثقيلة بطيئة وكأنها دهرا .. خفتت أصوات المحرك الصاخبة.. خرج بعدها الكابتن يطمئن الركاب.. الحمد لله يا جماعة .. أصلحنا العطل.. اطمئنوا.. حانوصل بعد تلت ساعة المطار بالسلامة إن شاء الله.
تنفس الجميع الصعداء.. بعدها بدقائق.. هدأ قليلا.. نظر حوله باحثا عن المضيفة.. رآها مقبلة تجاهه .. هش وبش وسارع بفك الحزام .. اقتربت منه واستندت علي مقعده .. قال لها: احنا كنا اتفقنا علي إيه بقي.. قلنا حانتقابل فين؟! .. ومد يده ليلمس يدها.. وفجأة.. حدث انفجار هائل وتناثرت أشلاء الطائرة في البحر الأحمر!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق