التكرار والاجترار من سمات الحداثة الفنية -2-
محمد خصيف
يفتقد تاريخ المثقف العربي إلى الاستمرارية وتتخلله "الحلقة المفقودة" التي أشرنا إليها في مقال سابق. ترى أين تتمركز بالضبط هذه الحلقة؟
إن تاريخنا الثقافي يبنى على تاريخ الأسر التي حكمت العالم العربي/الإسلامي عبر التاريخ، فنقول مثلا الشعر الأموي والأدب العباسي وهكذا، وحينما يصنف المؤرخون الثقافة والفكر العربيين على شاكلة التصنيف الأوروبي أي بالفترات الزمانية، نجدهم يقسمان هذا التاريخ إلى فترتين تاريخيتين: "الثقافة العربية في العصور الوسطى والثقافة العربية في العصر الحديث".
انطلاقا من هذا التصنيف يغيب "العصر القديم" الذي لا تقل أهميته على مستوى المرجعية الفكرية والثقافية والمجتمعية وحتى الإيديولوجية. فغيابه يجعل تلك القرون الوسطى العربية "تفتقد الطرف الآخر الذي يبرر وسْطويتها". تحدثنا في مقال سابق عن الازدواجية المؤلمة التي يعاني منها المثقف العربي، التي تجد لها أرضا خصبة في التصنيف التاريخي للثقافة العربية، ففي الوقت الذي نؤرخ فيه للقرون الوسطى تجدنا نستعمل التاريخي الهجري وحينما ننتقل الى العصر الحديث، عصر النهضة العربية، نستعمل التاريخ الميلادي. تاريخ القرون الوسطى يزامن القرنين السابع أو الثامن الهجريين (القرن الخامس عشر الميلادي)، وعصر النهضة العربية يبدأ مع بداية القرن التاسع عشر، ومن تم ندرك غياب فترة تاريخية ممتدة من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر الميلاديين، وهذه الفترة هي التي تشكل الحلقة المفقودة وغيابها يخلق "ثغرة مشوشة في الوعي العربي".
الخلاصة أننا كعرب نعيش تاريخا "ممزقا" على مستوى الفكر والثقافة والفن وبالتالي على مستوى الوجود. إنه تاريخ يتطلب منا إعادة كتابته وتأريخ فتراته بكل دقة وموضوعية ومنهجية.
إن الفكر الغربي لم يعش نفس الوضعية المأساوية التي عانى منها الفكر العربي وما يزال، لم يفقد أية حلقة من حلقات سلسلة مساره التاريخي. فالفكر الغربي لم يشهد استعمارا يمزقه ولا استغرابا يواجه استشرا قا، يفتت صفحات تاريخه. حقيقة كانت هناك ثورات سياسية وثقافية وفنية شهدتها أقطار أوربا، لكنها انتهت بها إلى الوحدة ولمِّ الشمل، ثورات نبعت شرارتها من عمق أرض أوروبا نفسها، و كانت تلك الثورات تؤطرها نظِّريات فلسفية ويُنظِّر لها مفكرون خلقوا لتلك المهمة وكأنهم أنبياء: عصر النهضة وما لحق به من نظريات حول الأنسنة والحرية والرؤى المثالية، وعقلنة المنظور وإخراجه من الإمبيرقية، ثم عصر الأنور وما ارتبط به من عقلنة ديكارتية وأفكار روسو وفولتير ومنتسكيو وكنط وهيغل واللائحة طويلة... ثم أحداث القرن التاسع عشر وثوراتها العلمية واختراعاتها التكنولوجية ، والانفتاح على ثقافات أمم وحضارات كانت منسية وممسوحة من صفحات تاريخ الإنسانية، فجاءت الحداثة الفنية* التي تنبأ بميلادها هيغل في "جماليته" حينما تحدث عن موت الفن. وظهر فنان الحياة الحديثة حسب تعبير بودلير، الذي يتميز بالفردية والحرية في التعبير والمبادرة والثورة على التقاليد الأكاديمية والعمل الجماعي والاستسقاء من أغوار آبار أمم غير أوروبية... كل تلك الأحداث التي شكلت الثورات الفنية لم تبرز إلى السطح، بعد سبات ثقافي Hibernation culturelle، لم يكن هناك ما يجعلها تخلد إلى النوم كما خلد الفكر العربي طيلة ستة قرون إلى الأحلام في الظلام. الفن الحديث كان مستيقظا يقظا، واعيا حينما غمس رأسه يرشف من مياه الحضارات التي بات يظنها عكرة، لكنه عرف كيف يصفي ما يشرب.
يدعي مؤرخو الحداثة الأوروبية أنها شكلت قطيعة مع الماضي الثقافي والفني الأوروبيين لتبني ذاتها انطلاقا من معايير وضعتها لنفسها. ربما أن هذا يصدق على الحداثة في ميادين غير الفن، أما الحداثة الفنية الغربية فقد اتخذت لنفسها مرجعيات ماضوية، ترتبط بتراث أمم غير أوروبية، فنجدها تحارب على سطح الأرض وفي نفس الوقت تسلح ذاتها من معادن وخامات تحت أرضية، تثور على سياسة الصالونات والقواعد التي كانت سلاحا في أيدي الأكاديمية الفنية تقرع به الرؤوس، فإما ترد المقرَع رأسُه إلى الصواب والطريق المستقيم أو تطرقه بقوة فتقتله بصفة نهائية، وفي ذات الوقت تفتح صدرها لما يتناثر عليه من كنوز الحضارات التي كشفت الستار عنها: الأقنعة الإفريقية والمنحوتات الطوطمية والرسوم اليابانية Estampes japonaises، والخطوط الصينية... وشيء آخر قلما يذكره المؤرخون الفرنسيون على الخصوص لتعنتهم وشوفينيتهم المفرطة، وهو الفنون العربية الإسلامية.
إن "الثقافة الأوروبية الحديثة في بداية أمرها (كانت) إعادة إنتاج للثقافة العربية الإسلامية. وإذن فحضور الثقافة العربية الإسلامية في التاريخ الثقافي العالمي "الأوروبي" حضور مؤسِّس، وليس مجرد حضور الوسيط المؤقت." إن تاريخ الفن العالمي يوفر لنا شهادات فنانين غربين عديدين تأثروا كثيرا وكثيرا بالفن الإسلامي وجماليته، ولا تقف المؤثرات عند الخط العربي وحسب، بل تصل إلى سبر أغوار جمالية الفن الإسلامي،*** وبالمناسبة يمكن استحضار التكوينات الهندسية عند فكتور فزاريلي Victor Vasarely(1906-1997)، واللون الصرف والشكل الصرف المتحررين المستقلين عن المضامين التشبيهية، عند فسيلي كاندينسكي Vassili Kandinsky (1866-1944)، وبول كلي Paul Klee (1879-1940)، وجميع رواد التجريد بنوعيه الهندسي والغنائي. ثم الفضاء الممدود إلى ما لانهاية كما هي تكوينات الفن التجريدي الإسلامي المبنية أساسا على ثنائية الفراغ مقابل الفضاء العامر وما أسماه ألكسندر ببادوبول وA. Papadopoulos ** (l’horreur du vide)، أي الفزع من الفراغ، الذي يشكل مكونا رئيسيا وأساسيا في جمالية الفن الإسلامي، فكل هذه مفاهيم اعتمدها الفن الحديث الأوروبي، وكما أشرت قلما يذكرها كتابه ومؤرخوه ونقاده. فنجدهم يذكرون ما استفادته التجارب التشكيلية العربية من فنانيهم الحداثيين ولا يعترفون بما أعطاه الفن الإسلامي للفن الحديث!
إن تاريخنا الثقافي يبنى على تاريخ الأسر التي حكمت العالم العربي/الإسلامي عبر التاريخ، فنقول مثلا الشعر الأموي والأدب العباسي وهكذا، وحينما يصنف المؤرخون الثقافة والفكر العربيين على شاكلة التصنيف الأوروبي أي بالفترات الزمانية، نجدهم يقسمان هذا التاريخ إلى فترتين تاريخيتين: "الثقافة العربية في العصور الوسطى والثقافة العربية في العصر الحديث".
انطلاقا من هذا التصنيف يغيب "العصر القديم" الذي لا تقل أهميته على مستوى المرجعية الفكرية والثقافية والمجتمعية وحتى الإيديولوجية. فغيابه يجعل تلك القرون الوسطى العربية "تفتقد الطرف الآخر الذي يبرر وسْطويتها". تحدثنا في مقال سابق عن الازدواجية المؤلمة التي يعاني منها المثقف العربي، التي تجد لها أرضا خصبة في التصنيف التاريخي للثقافة العربية، ففي الوقت الذي نؤرخ فيه للقرون الوسطى تجدنا نستعمل التاريخي الهجري وحينما ننتقل الى العصر الحديث، عصر النهضة العربية، نستعمل التاريخ الميلادي. تاريخ القرون الوسطى يزامن القرنين السابع أو الثامن الهجريين (القرن الخامس عشر الميلادي)، وعصر النهضة العربية يبدأ مع بداية القرن التاسع عشر، ومن تم ندرك غياب فترة تاريخية ممتدة من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر الميلاديين، وهذه الفترة هي التي تشكل الحلقة المفقودة وغيابها يخلق "ثغرة مشوشة في الوعي العربي".
الخلاصة أننا كعرب نعيش تاريخا "ممزقا" على مستوى الفكر والثقافة والفن وبالتالي على مستوى الوجود. إنه تاريخ يتطلب منا إعادة كتابته وتأريخ فتراته بكل دقة وموضوعية ومنهجية.
إن الفكر الغربي لم يعش نفس الوضعية المأساوية التي عانى منها الفكر العربي وما يزال، لم يفقد أية حلقة من حلقات سلسلة مساره التاريخي. فالفكر الغربي لم يشهد استعمارا يمزقه ولا استغرابا يواجه استشرا قا، يفتت صفحات تاريخه. حقيقة كانت هناك ثورات سياسية وثقافية وفنية شهدتها أقطار أوربا، لكنها انتهت بها إلى الوحدة ولمِّ الشمل، ثورات نبعت شرارتها من عمق أرض أوروبا نفسها، و كانت تلك الثورات تؤطرها نظِّريات فلسفية ويُنظِّر لها مفكرون خلقوا لتلك المهمة وكأنهم أنبياء: عصر النهضة وما لحق به من نظريات حول الأنسنة والحرية والرؤى المثالية، وعقلنة المنظور وإخراجه من الإمبيرقية، ثم عصر الأنور وما ارتبط به من عقلنة ديكارتية وأفكار روسو وفولتير ومنتسكيو وكنط وهيغل واللائحة طويلة... ثم أحداث القرن التاسع عشر وثوراتها العلمية واختراعاتها التكنولوجية ، والانفتاح على ثقافات أمم وحضارات كانت منسية وممسوحة من صفحات تاريخ الإنسانية، فجاءت الحداثة الفنية* التي تنبأ بميلادها هيغل في "جماليته" حينما تحدث عن موت الفن. وظهر فنان الحياة الحديثة حسب تعبير بودلير، الذي يتميز بالفردية والحرية في التعبير والمبادرة والثورة على التقاليد الأكاديمية والعمل الجماعي والاستسقاء من أغوار آبار أمم غير أوروبية... كل تلك الأحداث التي شكلت الثورات الفنية لم تبرز إلى السطح، بعد سبات ثقافي Hibernation culturelle، لم يكن هناك ما يجعلها تخلد إلى النوم كما خلد الفكر العربي طيلة ستة قرون إلى الأحلام في الظلام. الفن الحديث كان مستيقظا يقظا، واعيا حينما غمس رأسه يرشف من مياه الحضارات التي بات يظنها عكرة، لكنه عرف كيف يصفي ما يشرب.
يدعي مؤرخو الحداثة الأوروبية أنها شكلت قطيعة مع الماضي الثقافي والفني الأوروبيين لتبني ذاتها انطلاقا من معايير وضعتها لنفسها. ربما أن هذا يصدق على الحداثة في ميادين غير الفن، أما الحداثة الفنية الغربية فقد اتخذت لنفسها مرجعيات ماضوية، ترتبط بتراث أمم غير أوروبية، فنجدها تحارب على سطح الأرض وفي نفس الوقت تسلح ذاتها من معادن وخامات تحت أرضية، تثور على سياسة الصالونات والقواعد التي كانت سلاحا في أيدي الأكاديمية الفنية تقرع به الرؤوس، فإما ترد المقرَع رأسُه إلى الصواب والطريق المستقيم أو تطرقه بقوة فتقتله بصفة نهائية، وفي ذات الوقت تفتح صدرها لما يتناثر عليه من كنوز الحضارات التي كشفت الستار عنها: الأقنعة الإفريقية والمنحوتات الطوطمية والرسوم اليابانية Estampes japonaises، والخطوط الصينية... وشيء آخر قلما يذكره المؤرخون الفرنسيون على الخصوص لتعنتهم وشوفينيتهم المفرطة، وهو الفنون العربية الإسلامية.
إن "الثقافة الأوروبية الحديثة في بداية أمرها (كانت) إعادة إنتاج للثقافة العربية الإسلامية. وإذن فحضور الثقافة العربية الإسلامية في التاريخ الثقافي العالمي "الأوروبي" حضور مؤسِّس، وليس مجرد حضور الوسيط المؤقت." إن تاريخ الفن العالمي يوفر لنا شهادات فنانين غربين عديدين تأثروا كثيرا وكثيرا بالفن الإسلامي وجماليته، ولا تقف المؤثرات عند الخط العربي وحسب، بل تصل إلى سبر أغوار جمالية الفن الإسلامي،*** وبالمناسبة يمكن استحضار التكوينات الهندسية عند فكتور فزاريلي Victor Vasarely(1906-1997)، واللون الصرف والشكل الصرف المتحررين المستقلين عن المضامين التشبيهية، عند فسيلي كاندينسكي Vassili Kandinsky (1866-1944)، وبول كلي Paul Klee (1879-1940)، وجميع رواد التجريد بنوعيه الهندسي والغنائي. ثم الفضاء الممدود إلى ما لانهاية كما هي تكوينات الفن التجريدي الإسلامي المبنية أساسا على ثنائية الفراغ مقابل الفضاء العامر وما أسماه ألكسندر ببادوبول وA. Papadopoulos ** (l’horreur du vide)، أي الفزع من الفراغ، الذي يشكل مكونا رئيسيا وأساسيا في جمالية الفن الإسلامي، فكل هذه مفاهيم اعتمدها الفن الحديث الأوروبي، وكما أشرت قلما يذكرها كتابه ومؤرخوه ونقاده. فنجدهم يذكرون ما استفادته التجارب التشكيلية العربية من فنانيهم الحداثيين ولا يعترفون بما أعطاه الفن الإسلامي للفن الحديث!
هوامش:
* يعود لفظ الحداثة إلى القرن التاسع عشر، وإلى استعمال جمالي قبل أن يكون استعمالاً فلسفياً أو استعمالاً سياسياً واجتماعياً. وأول من استعمل كلمة "حداثة" هو الشاعر الفرنسي شارل بودلير(1821-1867) في مقال له نشر بجريدة لوفيغارو عام 1863، بعنوان "رسام الحياة الحديثة"، وكانت تخص فناناً ورساماً هو ﯕيزكنستنتان Guys Constantin)
**باحث جمالي، صاحب كتاب L'Islam Et L'Art Musulman
EditionCITADELLES & MAZENOD, 1999.
EditionCITADELLES & MAZENOD, 1999.
*** كتب الدكتور عبد الكبير الخطيبي: "بدأت أوروبا تكتشف تدريجيا هذا التراث الكلاسيكي العربي الإسلامي ونحن لا ننس المعرض العالمي بفيينا (1873) الذي كان مسرحا لاكتشاف حضارة مغايرة. ومن تم أيضا ينبع سحر الفنانين الذين رحلوا نحو شرقهم كإميل غرابي إلى مصر سنة 1869 وكلود رنوار إلى الجزائر سنتي 187961882، وفاسيلي كندنسكي إلى تونس بين 1904 و 1905، وإلى مصر وسوريا وتركيا سنة 1931، وموريس دوني إلى الجزائر وتونس والشرق الأوسط في ما بين 1907 و 1910، وألبير ماركي الذي قام بزيارات عديدة للمغرب والجزائر بين 1911 و 1945، وبول سينيك إلى تركيا سنة 1907، وهنري ماتيس الذي زار المغرب لعدة مرات منذ 1912، وبول كلي إلى تونس سنة 1914 ومصر 1928، وأوغست ماك مع بول كلي إلى تونس، ودايرك ووترز إلى المغرب 1913، وروول دوفي إلى المغرب 1925، وأوسكار كوكوشكا إلى تونس والجزائر ومصر والشرق الأوسط بين 1928 و 1930" (عبد الكبير الخطيبي- الفن العربي المعاصر، مقدمات، ترجمة فريد الزاهي – شبكة قامات الثقافية ( http://www.qamat.org/909vb/showthread.php?t=779
اعتمدنا في كتابة هذا المقال على مؤلف الجابري:
د. محمد عابد الجابري. (2009). نقد العقل العربي 1، تكوين العقل العربي،(الإصدار الطبعة العاشرة، ). بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية،.
اعتمدنا في كتابة هذا المقال على مؤلف الجابري:
د. محمد عابد الجابري. (2009). نقد العقل العربي 1، تكوين العقل العربي،(الإصدار الطبعة العاشرة، ). بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية،.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق