الخميس، 14 يونيو 2018

اغتراب / قصة قصيرة / الكاتبة نورصباح / العراق ,,,,,,,,,,,,

اغتراب
رنّ الجرس ، معلناً انتهاء الاستراحة، وبدأنا جميعنا الركض إلى الصفوف ..
هذه انا ،بشعري الكستنائي ،واللذي عانقت ضفيرته شريطة ستانٍ ابيض ، ونظارتي الطبية ، التي صارت جزئا لايتجزأ من ملامحي..اركض نحو صفي الرابع ،فتجتاح طريقي قدم ريهام الخبيثة لتوقعني ارضا!
اصابني جرحٌ في ركبتي اليسرى، تألمتُ كثيرا..وكأنه ليس خدشاً وإنما اصابة برصاصٍ ، حلتُ منها مأتما وانا اواصل البكاء لمدةٍ طويلة ..
هذه انا ،بثوبي القصير الجديد، واللذي اغاظ ابي فراحَ يعاتبُ امّي على شرائه، لانهُ يكشفُ عن كتفي وانَّ عمري تسع سنوات الآن لكن امّي عارضته ..
اراقبُ النهر الجاري في احدى مصايف دهوك..
كان بوّدي القفزُ من صخرةٍ لصخرة،
اقفز من حُلمٍ الى حُلم ..
والمحُ ابي ،يلتقط لي الصور ، ذاكرةً بطعم الخريف بكاميرته العجوز..
نعم اذكر هدير الماء ، كم رنّم روحي واثلج حمّى وحدتي ..
كنتُ وحيدةً تماما،
ربما لاني حرةٌ خارج السرب كُنتُ اسبحُ ..
حسنا ..هذا بيتنا..هذه بعثرتي،شوّهتُ جدران البيت بها فبدت سعيدة، وهي تستعرض نفسها بألوان قوس قزح
وبخني والداي، لاني شوهت ملامح الجدران ولكني لاول مرة لم أشعر بتأنيب الضمير ،واللذي كان يجتاح قلبي كلما قتلتُ كأسا او انائا دون قصدٍ ..
لم أشعر، إذ لا ضمير يناصفني مع الالوان..
اه ..تعبتُ من الزيارات،سأعود إلى مكاني..
ضجيج الحياة مرهقٌ بقدر جماله،اود النوم الليلة بهذا العالم و اللذي حللتُ ضيفة جديدة فيه ..لم اعتد عليه كليا ولكني اضجُّ باحزان الدنيا، حتى صرت اجد راحتي هنا ..مع ذلك،سابقى اتابعُ زياراتي لكم ..
سكونٌ هنا رهيب ،من حولي اناسٌ كثرٌ لا اعرفهم ..
ينامون في نفس بقعتي، وبعضهم لا ينام أبدا..هنا العالم برمّتهِ نائمٌ، فلا شمس تبثُ فيه الدفء ..ولا قمر يسامر أحد..
فجأةً علا صوت احدهم قائلا:
انت من ظلمتني!تعال لتعطيني حسناتك،احتاج مزيدا من الحسنات لانجو، لقد كنت تأكل من لحمي كلما كان يثني عليّ المدير!!اتظن اني لا اعلم!
-وهل تظنُّ أنك الوحيد هنا من تحتاج الحسنات ..
انا ايضا تغزوني السيئات، وابحث عمَّن ظلمني لامحو بعضا منها ..

ماللذي يحدث؟!! لم يكونا هما فقط من يتجادلان، لقد كان الجميع من حولي كذلك ..
واظنُّ ذلك الزوج على شفا ارتكاب جريمة بزوجته، انه يفور بركانا من الغضب صارخا بها :
انتِ كنت تهجرينني، وانا لم اقصر معكِ في شىء!
-لم تقصر؟
ماذا عن أهمالك لي ..ماذا عن يوم جرحتني امام اهلك لابدو كالبلهاء في نظرهم ..ماذا عن تناسيك لاولادك وعدم ترك مصروفٍ لي في البيت ؟!
وتعالت الاصوات من حولي، كلٌ يحاسبُ الآخر عما حدث بينهم ..
حاولتُ الابتعاد عن الضجيج..منذ ولادتي، وانا اهرب إلى الهدوء ..حتى أني اشكُّ، بأنه جاء معي إلى الحياة عضوا لايتجزأ من جسدي ..
مررتُ بزاويةٍ كئيبة، سيارةٌ انهار منها لونها الاحمر وسال تحت العجلات، تاركا جزئها العلوي رماديا..اقتربت منها ..خلت أن أحدا بداخلها، لقد رأيتُ ظلّين او ربما كنت اتوهم، فهي وحيدةٌ تماما ..عبرتُ إلى الجهة الأخرى من الشارع ..اظنّه خالٍ من الرماد وضجيج الناس، لا ..انما الحال نفسه!..
اخيرا مللت من كل ذلك ..
وقررتُ زيارة اهلي مجددا وترك هذا المكان ..
وقبل أن اغوص في اعماق الفتحة المؤدية إلى مكانهم، رافقني ظلٌّ، لايظهر منه سوى عتمته ..
وقال بصوتٍ مبحوحٍ ضعيف:سارافقكِ هذه المرة ..
سالته مستغربة، فلم يسبق أن اهتم بي أحد هنا ..
-من انت ؟
-ظلكِ
-وهل للظلالِ حواس؟
-ماذا تعتقدين برأيك؟
-اظنُّ أنّكم مجردُ ظلال ..
تشاطر أجساد اتباعهم، أينما ذهبوا
دون أي فائدة تذكر ..
-كلامكِ جارح ..لم تكوني كذلك فيما مضى
-حسنا، لابأس..ولكن لا تضق ذرعاً بما سترى وتسمع، كن هادئا مع كل شيء ..
- لا عليكِ، المهمُّ أن لا ادعكِ وحدكِ، لستُ مطمئناً ..واشعر أن ثمة شىء ما سيحدث ان ذهبتي ..
بنبرة سخرية قلت:
-ماذا سيحدث اكثر مما حدث معي ..
انا باهتة الآن ولن يؤثر بي شىء!

انه المرسم ،تنافسٌ شرسٌ لرسم اجمل لوحة
شعورٌ بالفرح انتابني وانا ارى نفسي ..حالمة ،طموحة، توّاقة للغد بكل حواسها ..

-لوحةٌ
تعانقُ انامل رمادية
احلامٌ
تتبختر
على الاوتار
فتاةٌ
تهرمُ
مبكراً
بلونٍ حزين ..

تأملتهُ وهو يهمسُ بتلك الكلمات، ناظرا إلى لوحتي وأنا ارسمها في عمر الثامنة عشرة
تأملته، ومشاعر الدهشة تكسوني ..
-يا ظلي! مدهش ٌ ان لك احاسيسا !
كيف نطقت بهذه الكلمات ..
نعم كنتُ كلما توجعتُ هربتُ إلى فرشاتي ..

لم يكن له ملامح واضحة، كان وجهه كمن دفن ملتصقا بقماش ..كل شىء فيه حالك ..ولكني لمحتُ ابتسامةً ما اسفل وجهه، وقال بصوته الضعيف :
-هل حقا كنتِ تتخلصين من احزانكِ بلوحة ؟
-بالتأكيد!
لقد كنت اتخلص منها بالالوان ،بالقصائد ، بألعابي،بذكريات طفولتي السعيدة رغم وحدتها !

زرنا انا وظلَّي كل شىء ..
مكان عشقي الظمأ، اصوات الراحلين، اسوارُ بيتنا القديم واللذي وجدته مقسّماً لثلاث بيوت!حقا لم يعد شيئا كما كان ..حتى رائحة الصداقة الجميلة، وشارع الطفولة تغيَّر ..وحده شارع المتنبْي اللذي كنتُ اقتاتُ سعادتي من رائحته بقيَّ شامخاً في مدينتي..
نحنُ الآن نرمي للحمام قوتاً، ونتأمل بسمة دجلة، وهي تحتضنُ احزان بغداد في قصائد عينيها ..
وفي كل زيارة، كنت أرى تلك السيارة الذائبة اللون !!
كنت أتوقع اني اهلوس ..
لكنها صدقاً الآن تقفُ امامي !
-يا ظلُّ !أترى تلك السيارة !!
- لا...لا أرى شيئا !..
تركت الظلَّ فجأةً.. ودسستُ بقايا ذكرياتي في جيبي
وذهبتُ نحوها، وكل جسدي انين!
انينٌ يتساقطُ من يدي على شكل أغصان،
وانينٌ ينهمرُ من عيني على شكل ازهار،تتطايرُ مع ركضي ولهفتي ..
اصوات ٌ لذاكرة متحجّرة!!
وطنينٌ غاضبٌ لمقوّد ..
دخلتُ في منتصْف كل شىء..
إنها انا التي بداخلها !
مغمىً عليَّ ودمي متناثرٌ، يحاولُ جمع شتاته
زجاجٌ متشظي على الارضِ كأحلامٍ يائسة
روحي تصارعُ البقاءْ
من حولي كل من احبهم ..
اراقبهم، وهم يحاولون نقل جسدي للمستشفى
ذهبت خلفهم، تقودني خطايَ الهلامية
رغم علمي انهم لن ينجحوا ..وحدي اعلم مصيرها،
وحدي اعلم مصيري ..
بكتْ امي كثيرا، وهي تلعنُ اخي اللذي اعارني سيارته ذلك المساء ..ونظرت إليَّ كثيرا ويدها تبحث عن روحي المغادرة
احاطتني خالتي بدمعٍ نديًّ، ينهمرُ على وجهي كياسمين ..
لا فائدة..فروحي التي صارعت جسدي مصممةٌ على ترك هذا العالم ..نجحتْ اخيرا بالفوحِ من جسدي
عِطر رحيلٍ، يرتطمُ بالشمس !

نور صباح
1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق