دراستي النقدية للمجموعة الشعرية المترجمة افروديت للشاعر محمد حسين ال ياسين المنشورة في جريدة الحقيقة ليوم 10-11-2018
(( هسيس الذكريات في ... أفروديت – قصائد مختارة ))
للشاعر الكبير محمد حسين آل ياسين
(( هسيس الذكريات في ... أفروديت – قصائد مختارة ))
للشاعر الكبير محمد حسين آل ياسين
دراسة نقدية يوسف عبود جويعد
ضمت المجموعة الشعرية المترجمة ( أفروديت ) للشاعر محمد حسين آل ياسين وهي من إصدارات المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2012, وقد قام بترجمتها المترجم أ.المتمرس الدكتور عبد الواحد محمد مسلط, معززة بالقصائد الأصلية باللغة العربية, وهي قصائد تمثل نماذج من تجاربه, خلال فترة امتدت لأربعة عقود, حيث يقول عنها الشاعر موجهاً رسالته إلى المترجم (... فبين يديك خمسون قصيدة ومقطوعة راعيت في اختيارها أن لا تكون من مطولاتي فكانت هذه المجموعة التي فيها ما لا يزيد على البيتين وفيها التي تتجاوز الثلاثين, وجميعها من الغزل أو الوجدانيات الخاصة أو الأخوانيات والمدن, وحرصت أن تكون من الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات لتعطي صورة شاملة عن التجربة الشعرية. وفي الوقت الذي أشعر فيه أنها خالية من التعقيد والصعوبة, أشعر أنها أصعب من المجموعة المترجمة والمطبوعة سابقاً) وقد توقف الشاعر طويلاً في مرحلة الستينات, حيث ضمت هذه المجموعة ثلاثة عشر قصيدة , كتبت في تلك الحقبة, وهي مرحلة الشباب, والنضوج الفكري, وامتلاكه لناصية الشعر, وحضور المخيلة الخصبة النابضة بالأحاسيس الوهاجة, واعتلاءه لصهوة الشعر بكل تمكن, وهي لا شك تمثل محطة مهمة جداً, من محطات الشاعر, التي لا تنسى , ولا يمكن للذاكرة أن تمحوها, ومن الواضح أنه يحن لأيام الصبا والشباب, وهو الذي جعل الشعر زاده وزواده, بل أن حياته شعراً منذ صباه, وعالمه شعراً , حتى أنه بات يلتقط من صميم الحياة لحظات متوهجة لينقلها إلى مخيلته الشعرية, فيحيلها إلى قصيدة تنبض بروح الحدث المقتطع, وكأنه الوسيط بين الحياة وعالم الشعر, فينهل من واقع الحياة هذا النبع المتدفق الوهاج, الذي وجده الشاعر مادة خامة, نقية, صافية, رقراقة, تصلح أن تكون قصيدة, فهو لا يتخيل بنية القصيدة , بل أنه دائب يعيشها, ويعيش تجربتها ليحيلها إلى مفردات شعرية تنبض بالحياة , لأنه اختار أن يكون الشعر كل حياته, وأن يعيش ليكون شاعراً, وقد هيأ روحه وكيانه وأحاسيسه لذلك, حتى أن مجاله العملي كان له صلة بتطوير هاجس الشعر لديه, أما مفردته الشعرية فهي جزء من بنية القصيدة, حيث أن القصيدة لديه وحدة موضوع متكامل موحد, ابتداء من بنية العنونة, وانتهاء بأخر شطر, وهو يكتب القصيدة العمودية, ولا يحيد على تغيرها , كونه يعرف جيداً أن الانتقالات الحداثوية التي حدثت في مسيرة الحركة الإبداعية الشعرية, لا يعني التحول من العمود إلى التفعيلة أو النثر, بل إن الحداثة تكمن في مقدرة الشاعر في نقل القصيدة العمودية إلى عالم الحداثة, ولكي نعرف اهتمام الشاعر بمرحلة الستينات وأهميتها لديه, علينا أن نراجع القصائد التي ضمتها هذه المجموعة, ومدى تنوعها واختلافها عن بعضها, من حيث الثيمة, والبناء, والرسالة الإنسانية, والخطاب الأدبي, والخطاب الثقافي, قصيدة (صبرا سعاد) 964, قصيدة (أخي) 1965, قصيدة (عبقر جديد ) 1965, قصيدة (عرس ) 1965, قصيدة ( لابد أقرأ شيئاً ) 1965, قصيدة (نبضات قلب ) 1965, قصيدة ( الخيال الجموح ) 1966, قصيدة ( عمر جديد ) 1966, قصيدة (أبتاه) 1967 , قصيدة ( سهى ) 1967, قصيدة ( رياض) 1967, هذه القصائد تشكل لدى الشاعر محطات حياتية مهمة جداً, وهي عالقة في الذاكرة, كما إنها تشكل لدى الشاعر الخطوات الواثقة والرصينة في رحلة الشعر الطويلة التي امتدت لأكثر من ستين سنة, حتى بات ذا شأن كبير في مجال الشعر, ويطلق عليه شيخ الشعراء, وآخر العنقود لسلالة كبيرة من رواد الشعر في البلد, وكذلك إنها رسمت ملامح نهجه الشعري, وشخصيته, وسماته, فقصيدة (صبراً سعاد) فهو يدعو سعاد هذه المرأة التي هي محطة مهمة في حياته, ويؤازرها ويساندها, ويتألم لحالها, ويثور لأجلها, ويبكي لها, والمفردة الشعرية في هذه القصيدة انفعالية عميقة الدلالات والمعاني .
واغرورقت عيني بالدمع باكية على وجود تمنى الموت والعدما
وضاق بعضي من بعضي مصاحبة كأن حقداً ربا ما بينها ونما
وضقت ذرعاً بشكوى كل جارحة مني أسى, فعلى قلبي الأسى ختما
أما كفاني ما ألقاه من كرب حتى بليت بما اشقي به سقما
أما قصيدة (أخي) وهي من القصائد الأخوانية كما يطلق عليها, وفيها يستعرض الشاعر الأخوة بأسمى معانيها, وهي أجمل ما كتب عن الأخ, وعن تلك العلاقات الإنسانية وهي الرابط الأسري العميق, وفيها يخاطب أخيه ويناشده ويناجيه, في وحدة موضوع متصل, وبنية نصية متينة, وتسلسل تصاعدي متواتر,
أخي أنت بدر في دجا أضلعي هلا غناه,درب العمر إذ لم أجد ظلا
أخي أنت من جفني كراه ومن فمي غناه , ومن قلبي هواه , الذي حلا
وإن فتشوا مني لجوارح كلها لما شاهدوا ألاك معنى ولا شكلا
وقد خصها الأستاذ محمد جعفر باقر الأسدي في دراسته لنبضات يذكر هذه القصيدة ( والأخوانيات في ديوان الشاعر لها مكانتها, فقصيدة (أخي) – مهداة إلى شقيق الشاعر محسن آل ياسين – تكون هي في نظري ذروة ما نظم الشاعر في هذا الباب وان كانت قليلة ولربما للشاعر قصائد أخوانية لم ينشرها في ديوانه . لذلك فهي ما اعتمدت عليه في هذا العرض لتصويرها الرائع, خصوصاً وإن الشاعر يعبر عن تجربة حية يعيشها إلا وهي إخوته وحبه الكبير لأخيه مما يخرج من الوفاء لهذا الأخ على القدسية, وانها كذلك, وما يدهش حقاً العرض البديع الذي تمكن منه الشاعر لقضايا كثيرة في العلاقات الاجتماعية وما يعتريها من قوة وضعف ) ملحق جريدة الجمهورية الأسبوعي, العدد 79 الصادر في 30-3-1967, وفي قصيدة (عبقر جديد) يعرض الشاعر ,زهوه وفرحه وهو يصوغ القوافي الشعرية, ويتغنى بعبقر جديد للشعر,
أسائل عن ((عبقر)) ياطيور فأنك أدرى بعبقر مني
فقالت وقد زغردت باسمة: هلم بنا للوليد الحسين
وقصيدة (عرس ) هي بيتان فقط, إلا أنها تشكل قصيدة وافرة القوافي, وهي تتغنى بالعرس
عرس رفرفت لديه الأماني ورفت ظلال عيش هني
صاغه الله في التواالشعر,دماَ وعلى اللوح خط عرس علي
وفي قصيدة ( لابد أقرأ سيئا) وهي من القصائد التي تبحر بها في بحر الشعر, وهو يناجي الشعر ويتغزل به, مزهواً فرحاً مسروراً, كونه اعتلى ناصيته, وامتلك المخيلة الخصبة التي تجعله ينظم الشعر, وكأنه يصوغ قلائد من اللؤلؤ,
رغم عمري الفتي لم ابق سفراً في حياتي يشكوه نشراً وطيا
ليت شعري هل كنت جناً خفي الـــــــروح أم كنت شاعراً عبقريا
وقد قال الناقد عبد الجبار عباس في دراسته لمملكة الحرف يذكر هذه القصيدة " ويتضح إنشداد الشاعر إلى دائرة ضيقة من تراثه الشعري في قصيدة ( لابد أقرأ شيئا) يستهلها بحضور شاعريته في عكاظ, وقدرة شعره على أن يسحر النوادي , منعطفاً إلى الشكوى والفخر التقليدي ...
فالشاعر آل ياسين هنا امتداد مكرور وحفيد معاصر لأسلافه عقيدة ومنتسباً وشعراً (الشريف الرضي , المرتضى , مهيار , الصاحب بن عباد , وصولاً إلى شعراء القرن التاسع عشر ) ما إن يمتلك الواحد منهم في فتوته قدرة على النظم حتى يطيب له أن يزهو بشعره وحنكته وتجاربه التي ضمت نوائب الدهر وأثارت حسد الحاسدين في فخر الفتيان النوابغ " ( الراصد , العدد 499 في 9-9-1979 ) وإذا توغلنا في تلك المرحلة المهمة من حياة الشاعر, فسوف نكتشف بأنها القاعدة الثابتة والقوية والمتماسكة لتي شكلت انطلاقه الشعري بكل قوة وثقة, ففي قصيدة ( نبضات قلب ) التي تعد من أجمل القصائد الوجدانية, يقدم لنا الشاعر تداعيات وجدانية ذاتية عميقة, تصل إلى أعمق أعماق ذاته, فتخرج مكنونه الشعري والحسي دون أن يكون هنالك عائق يقف حائلاً بينه وبين بنية القصيدة, فاللغة عنده طيعة سهلة المنال كونه امتهنها كعمل في حياته, وهذا الجانب ساعد الشاعر في تقديم قصائد تحمل لغة بليغة عالية المستوى,
تخضب خدي أدمع طال قطرها ولم أر أرضاً زاد في جدبها القطر
يحتم كبري أن أكفكف دمعتي فاني ذو نفس يظللها الكبر
وإن أكتم السر الذي عاش في دمي فحرب على الأيام أن يكتم السر
أما قصيد ( الخيال الجموح) فهي حقاً خيالاً جموحاً لشاعر لا يمنعه من مواصلة مشواره الشعري أي عائق, وهو سائر لا محالة في دروب الشعر, فأطلق لخيال الجموح العنان ليصوغ قصيدة, تنهل من عالم الشعر مفرداتها الغناء
إيه خيالي وان خلقت في كبدي حرائقاً وتركت القلب مستعرا
وجدت في البين إحسانا وتكرمة وعفت لي منك ما يردي الفتى ضجرا
فأنني لم أزل ذاك الذي وجدت به المودة ربعا, يانعاً ثمرا
تبدو قصيدة (عمر جديد ) وكأنها بداية مرحلة جديدة, تؤكد اكتساب الشاعر لتجارب خلال رحلة الشعر, تؤهله للتوغل في عالم الشعر, فهذا العمر الجديد هو رحلة الشعر التي خاض غمارها واكتسب تجارب جديدة يستفاد منها الشاعر في هذه المسيرة الشعرية الممتعة ,
وأسكب شعري – بعد أن الجم الأسى شفاهي – قصيداً بالبدائع زاخرا
أقيد في أغلالي السجن مثلما تقيدت في أغلاله أمس صابرا
ولكي نثبت أهمية هذه المرحلة واعني بها مرحلة الستينات, وأهمية كل قصيدة فيها لأنها تعني الكثير للشاعر, فلم تكن مجرد قصائد كتبها وانتهى الأمر, بل أنها جزء لا يمكن أن ينساه الشاعر خلال مراحل حياته, وكما ذكر الأخ في قصيدته الأخوانية, فأنه يذكر الأب في أجمل ما يصف الابن أباه وذك في قصيدة (أبتاه) التي يناجي فيها أباه
بظلك رفرف كالورد عمري ومن سكب نورك نور فجري
وفي دفء عطفك برعمت لي شبابي وغذيت بالنصح فكري
وان عصفت بي رياح الزمان فهل لسواك أفر وأجري
وقد قال عنها الشاعر محمد رضا آل صادق في دراسته للأمل الضمان يذكر هذه القصيدة : " ولا أغالي إذا قلت إن السيد آل ياسين يصدق عليه هذا العنوان فهو يبرع في التقاط الصور بعدسته الشفاه, ويسمو في ريشته الدقيقة الخلاقة وهو في عنوان الشباب , فلنسمعه في قصيدة (أبتاه) التي تظهر لنا واضحة الملامح وهي تجسد لنا مرح البنوة في ظلال الأبوة, ( المجتمع , العدد 40 من السنة 6 في 23-8-1969 ).
وفي قصيدة قصيرة,يهنئ فيها صديقاً لرزقه بمولودة اسماها سهى, وهي بذات الاسم (سهى*)
رزقتم بمولودة حلوة هنيئاً لكم ياصديقي بها
فعاشت لكم – كالربيع النضير لتزهو الحياة- وعشتم لها
وقد بات نجمكم عاليا علو السهى إذ أطلت (سهى)
وتهنئة أخرى لصديق تزوج يقدم قصيدته (رياض) وهي ن القصائد القصيرة
ليهنك عرس بالسعادة والمنى وباللطف والتأييد ربك حفه
رشفت من الكأس الذي صيغ طاهراً وما زلت أدعوه لأرزق رشفه
وأحرزت نصف الدين قبلا بطاعة فأرخ : وبالتبريك أكملت نصفه
وفي قصيدة (صبيان لا يشيخان) ننتقل إلى مرحلة الصبى, وجمالها, وروعتها, وشقاوتها, وهي تطرح ثيمة صبيان ولكن لا يشيخان وان كبرا
فمالهما اليوم في ثورة مدى العمر نيرانها تحتدم
ألا لعنا من صبيين لا يشيخان فالأمر لا ينحسم
وهكذا تستمر رحلة مرحلة الستينات والنضوج الشعري وثورة الشباب وعنفوانه لدى الشاعر, وخبرته التي تزداد كلما تقدم, ونجد ذلك في قصيدة ( الربيع الحزين) وكذلك قصيدة (غد الشعر) والتي قال عنها الشاعر خالد علي مصطفى في مقال له بعنوان (أجمل الشعر أقله) يتحدث فيه عن الأماسي الشعرية ويذكر هذه القصيدة :
" وفي هذه المعمعة الشعرية علينا أن نلتفت قليلاً إلى بعض ما ألقي من شعر عمودي, لقد كانت قصيدة محمد حسين آل ياسين هي أفضل العمود الذي ألقي غير أننا إذا أردنا إن نحاكمها محاكمة هادئة منطقية نجد أن القصيدة متعددة الأغراض على الطريقة الجاهلية, مدح الجواهري في البداية, فالانتقال إلى أرجاء النصائح وبث الحكم, عرج بعدها على ( ملاقحة الفكر ماضيه بحاضره) وبعدها بدون أي وجه انتقل فجأة إلى مدح العمل الفدائي, ومن هذه الناحية افتقدت القصيدة وحدة موضوعها واسترسلت بصورة اعتباطية وراء التعدد والصور الذهنية والمماحكات اللفظية التي تطرب دون أن تثير التأمل الشعري, من المقدرة اللغوية التي لا تخرج عما الفناه في الشعر العباسي ( الف باء , العدد 263 من السنة السادسة الصادر في 12-9-1973 ) .
والى هنا تنتهي رحلتنا مع النماذج المختارة من قصائد فترة الستينات, لندرك أهمية هذه المرحلة لدى الشاعر, ومدى تأثيرها في مسيرته الشعرية الوضاءة, أما قصائد فترة السبعينات , والثمانينات , والتسعينات , فهي قصيدة (نسب العلم)1975, وقصيدة (ليلة) 1983, وقصيدة (دانية أيضا) 983, وقصيدة ( الطيب )1982 , وقصيدة (فائدة) 1984 , وقصيدة (يا ابنة الدرس) 1987 , وقصيدة (أستاذ ) 1992, أما قصيدة (ليلى ) فلم تذيل بتاريخ, وقصيدة (أفروديت) 1984, وقصيدة (رسالة) 1981, وقصيدة ( ياهوى الأمس ) 987, وهي قصائد اختارها الشاعر لتكون ضمن هذه المجموعة كونها مميزة, ومتفردة, ولها أهمية, في مسيرة الشعر, إلا أن تحليلها ودراستها يحتاجان لوقت آخر, وهكذا فان هذه المجموعة المترجمة للشاعر محمد حسين ل ياسين, تشكل مرحلة شعرية كبيرة في طريق الشعر الذي وطأ الشاعر أقدامه الراسخة, ليصبح قامة كبيرة من قامات الشعر في العراق والوطن العربي.
قصص ودراسات نقدية يوسف عبود جويعد
ضمت المجموعة الشعرية المترجمة ( أفروديت ) للشاعر محمد حسين آل ياسين وهي من إصدارات المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2012, وقد قام بترجمتها المترجم أ.المتمرس الدكتور عبد الواحد محمد مسلط, معززة بالقصائد الأصلية باللغة العربية, وهي قصائد تمثل نماذج من تجاربه, خلال فترة امتدت لأربعة عقود, حيث يقول عنها الشاعر موجهاً رسالته إلى المترجم (... فبين يديك خمسون قصيدة ومقطوعة راعيت في اختيارها أن لا تكون من مطولاتي فكانت هذه المجموعة التي فيها ما لا يزيد على البيتين وفيها التي تتجاوز الثلاثين, وجميعها من الغزل أو الوجدانيات الخاصة أو الأخوانيات والمدن, وحرصت أن تكون من الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات لتعطي صورة شاملة عن التجربة الشعرية. وفي الوقت الذي أشعر فيه أنها خالية من التعقيد والصعوبة, أشعر أنها أصعب من المجموعة المترجمة والمطبوعة سابقاً) وقد توقف الشاعر طويلاً في مرحلة الستينات, حيث ضمت هذه المجموعة ثلاثة عشر قصيدة , كتبت في تلك الحقبة, وهي مرحلة الشباب, والنضوج الفكري, وامتلاكه لناصية الشعر, وحضور المخيلة الخصبة النابضة بالأحاسيس الوهاجة, واعتلاءه لصهوة الشعر بكل تمكن, وهي لا شك تمثل محطة مهمة جداً, من محطات الشاعر, التي لا تنسى , ولا يمكن للذاكرة أن تمحوها, ومن الواضح أنه يحن لأيام الصبا والشباب, وهو الذي جعل الشعر زاده وزواده, بل أن حياته شعراً منذ صباه, وعالمه شعراً , حتى أنه بات يلتقط من صميم الحياة لحظات متوهجة لينقلها إلى مخيلته الشعرية, فيحيلها إلى قصيدة تنبض بروح الحدث المقتطع, وكأنه الوسيط بين الحياة وعالم الشعر, فينهل من واقع الحياة هذا النبع المتدفق الوهاج, الذي وجده الشاعر مادة خامة, نقية, صافية, رقراقة, تصلح أن تكون قصيدة, فهو لا يتخيل بنية القصيدة , بل أنه دائب يعيشها, ويعيش تجربتها ليحيلها إلى مفردات شعرية تنبض بالحياة , لأنه اختار أن يكون الشعر كل حياته, وأن يعيش ليكون شاعراً, وقد هيأ روحه وكيانه وأحاسيسه لذلك, حتى أن مجاله العملي كان له صلة بتطوير هاجس الشعر لديه, أما مفردته الشعرية فهي جزء من بنية القصيدة, حيث أن القصيدة لديه وحدة موضوع متكامل موحد, ابتداء من بنية العنونة, وانتهاء بأخر شطر, وهو يكتب القصيدة العمودية, ولا يحيد على تغيرها , كونه يعرف جيداً أن الانتقالات الحداثوية التي حدثت في مسيرة الحركة الإبداعية الشعرية, لا يعني التحول من العمود إلى التفعيلة أو النثر, بل إن الحداثة تكمن في مقدرة الشاعر في نقل القصيدة العمودية إلى عالم الحداثة, ولكي نعرف اهتمام الشاعر بمرحلة الستينات وأهميتها لديه, علينا أن نراجع القصائد التي ضمتها هذه المجموعة, ومدى تنوعها واختلافها عن بعضها, من حيث الثيمة, والبناء, والرسالة الإنسانية, والخطاب الأدبي, والخطاب الثقافي, قصيدة (صبرا سعاد) 964, قصيدة (أخي) 1965, قصيدة (عبقر جديد ) 1965, قصيدة (عرس ) 1965, قصيدة ( لابد أقرأ شيئاً ) 1965, قصيدة (نبضات قلب ) 1965, قصيدة ( الخيال الجموح ) 1966, قصيدة ( عمر جديد ) 1966, قصيدة (أبتاه) 1967 , قصيدة ( سهى ) 1967, قصيدة ( رياض) 1967, هذه القصائد تشكل لدى الشاعر محطات حياتية مهمة جداً, وهي عالقة في الذاكرة, كما إنها تشكل لدى الشاعر الخطوات الواثقة والرصينة في رحلة الشعر الطويلة التي امتدت لأكثر من ستين سنة, حتى بات ذا شأن كبير في مجال الشعر, ويطلق عليه شيخ الشعراء, وآخر العنقود لسلالة كبيرة من رواد الشعر في البلد, وكذلك إنها رسمت ملامح نهجه الشعري, وشخصيته, وسماته, فقصيدة (صبراً سعاد) فهو يدعو سعاد هذه المرأة التي هي محطة مهمة في حياته, ويؤازرها ويساندها, ويتألم لحالها, ويثور لأجلها, ويبكي لها, والمفردة الشعرية في هذه القصيدة انفعالية عميقة الدلالات والمعاني .
واغرورقت عيني بالدمع باكية على وجود تمنى الموت والعدما
وضاق بعضي من بعضي مصاحبة كأن حقداً ربا ما بينها ونما
وضقت ذرعاً بشكوى كل جارحة مني أسى, فعلى قلبي الأسى ختما
أما كفاني ما ألقاه من كرب حتى بليت بما اشقي به سقما
أما قصيدة (أخي) وهي من القصائد الأخوانية كما يطلق عليها, وفيها يستعرض الشاعر الأخوة بأسمى معانيها, وهي أجمل ما كتب عن الأخ, وعن تلك العلاقات الإنسانية وهي الرابط الأسري العميق, وفيها يخاطب أخيه ويناشده ويناجيه, في وحدة موضوع متصل, وبنية نصية متينة, وتسلسل تصاعدي متواتر,
أخي أنت بدر في دجا أضلعي هلا غناه,درب العمر إذ لم أجد ظلا
أخي أنت من جفني كراه ومن فمي غناه , ومن قلبي هواه , الذي حلا
وإن فتشوا مني لجوارح كلها لما شاهدوا ألاك معنى ولا شكلا
وقد خصها الأستاذ محمد جعفر باقر الأسدي في دراسته لنبضات يذكر هذه القصيدة ( والأخوانيات في ديوان الشاعر لها مكانتها, فقصيدة (أخي) – مهداة إلى شقيق الشاعر محسن آل ياسين – تكون هي في نظري ذروة ما نظم الشاعر في هذا الباب وان كانت قليلة ولربما للشاعر قصائد أخوانية لم ينشرها في ديوانه . لذلك فهي ما اعتمدت عليه في هذا العرض لتصويرها الرائع, خصوصاً وإن الشاعر يعبر عن تجربة حية يعيشها إلا وهي إخوته وحبه الكبير لأخيه مما يخرج من الوفاء لهذا الأخ على القدسية, وانها كذلك, وما يدهش حقاً العرض البديع الذي تمكن منه الشاعر لقضايا كثيرة في العلاقات الاجتماعية وما يعتريها من قوة وضعف ) ملحق جريدة الجمهورية الأسبوعي, العدد 79 الصادر في 30-3-1967, وفي قصيدة (عبقر جديد) يعرض الشاعر ,زهوه وفرحه وهو يصوغ القوافي الشعرية, ويتغنى بعبقر جديد للشعر,
أسائل عن ((عبقر)) ياطيور فأنك أدرى بعبقر مني
فقالت وقد زغردت باسمة: هلم بنا للوليد الحسين
وقصيدة (عرس ) هي بيتان فقط, إلا أنها تشكل قصيدة وافرة القوافي, وهي تتغنى بالعرس
عرس رفرفت لديه الأماني ورفت ظلال عيش هني
صاغه الله في التواالشعر,دماَ وعلى اللوح خط عرس علي
وفي قصيدة ( لابد أقرأ سيئا) وهي من القصائد التي تبحر بها في بحر الشعر, وهو يناجي الشعر ويتغزل به, مزهواً فرحاً مسروراً, كونه اعتلى ناصيته, وامتلك المخيلة الخصبة التي تجعله ينظم الشعر, وكأنه يصوغ قلائد من اللؤلؤ,
رغم عمري الفتي لم ابق سفراً في حياتي يشكوه نشراً وطيا
ليت شعري هل كنت جناً خفي الـــــــروح أم كنت شاعراً عبقريا
وقد قال الناقد عبد الجبار عباس في دراسته لمملكة الحرف يذكر هذه القصيدة " ويتضح إنشداد الشاعر إلى دائرة ضيقة من تراثه الشعري في قصيدة ( لابد أقرأ شيئا) يستهلها بحضور شاعريته في عكاظ, وقدرة شعره على أن يسحر النوادي , منعطفاً إلى الشكوى والفخر التقليدي ...
فالشاعر آل ياسين هنا امتداد مكرور وحفيد معاصر لأسلافه عقيدة ومنتسباً وشعراً (الشريف الرضي , المرتضى , مهيار , الصاحب بن عباد , وصولاً إلى شعراء القرن التاسع عشر ) ما إن يمتلك الواحد منهم في فتوته قدرة على النظم حتى يطيب له أن يزهو بشعره وحنكته وتجاربه التي ضمت نوائب الدهر وأثارت حسد الحاسدين في فخر الفتيان النوابغ " ( الراصد , العدد 499 في 9-9-1979 ) وإذا توغلنا في تلك المرحلة المهمة من حياة الشاعر, فسوف نكتشف بأنها القاعدة الثابتة والقوية والمتماسكة لتي شكلت انطلاقه الشعري بكل قوة وثقة, ففي قصيدة ( نبضات قلب ) التي تعد من أجمل القصائد الوجدانية, يقدم لنا الشاعر تداعيات وجدانية ذاتية عميقة, تصل إلى أعمق أعماق ذاته, فتخرج مكنونه الشعري والحسي دون أن يكون هنالك عائق يقف حائلاً بينه وبين بنية القصيدة, فاللغة عنده طيعة سهلة المنال كونه امتهنها كعمل في حياته, وهذا الجانب ساعد الشاعر في تقديم قصائد تحمل لغة بليغة عالية المستوى,
تخضب خدي أدمع طال قطرها ولم أر أرضاً زاد في جدبها القطر
يحتم كبري أن أكفكف دمعتي فاني ذو نفس يظللها الكبر
وإن أكتم السر الذي عاش في دمي فحرب على الأيام أن يكتم السر
أما قصيد ( الخيال الجموح) فهي حقاً خيالاً جموحاً لشاعر لا يمنعه من مواصلة مشواره الشعري أي عائق, وهو سائر لا محالة في دروب الشعر, فأطلق لخيال الجموح العنان ليصوغ قصيدة, تنهل من عالم الشعر مفرداتها الغناء
إيه خيالي وان خلقت في كبدي حرائقاً وتركت القلب مستعرا
وجدت في البين إحسانا وتكرمة وعفت لي منك ما يردي الفتى ضجرا
فأنني لم أزل ذاك الذي وجدت به المودة ربعا, يانعاً ثمرا
تبدو قصيدة (عمر جديد ) وكأنها بداية مرحلة جديدة, تؤكد اكتساب الشاعر لتجارب خلال رحلة الشعر, تؤهله للتوغل في عالم الشعر, فهذا العمر الجديد هو رحلة الشعر التي خاض غمارها واكتسب تجارب جديدة يستفاد منها الشاعر في هذه المسيرة الشعرية الممتعة ,
وأسكب شعري – بعد أن الجم الأسى شفاهي – قصيداً بالبدائع زاخرا
أقيد في أغلالي السجن مثلما تقيدت في أغلاله أمس صابرا
ولكي نثبت أهمية هذه المرحلة واعني بها مرحلة الستينات, وأهمية كل قصيدة فيها لأنها تعني الكثير للشاعر, فلم تكن مجرد قصائد كتبها وانتهى الأمر, بل أنها جزء لا يمكن أن ينساه الشاعر خلال مراحل حياته, وكما ذكر الأخ في قصيدته الأخوانية, فأنه يذكر الأب في أجمل ما يصف الابن أباه وذك في قصيدة (أبتاه) التي يناجي فيها أباه
بظلك رفرف كالورد عمري ومن سكب نورك نور فجري
وفي دفء عطفك برعمت لي شبابي وغذيت بالنصح فكري
وان عصفت بي رياح الزمان فهل لسواك أفر وأجري
وقد قال عنها الشاعر محمد رضا آل صادق في دراسته للأمل الضمان يذكر هذه القصيدة : " ولا أغالي إذا قلت إن السيد آل ياسين يصدق عليه هذا العنوان فهو يبرع في التقاط الصور بعدسته الشفاه, ويسمو في ريشته الدقيقة الخلاقة وهو في عنوان الشباب , فلنسمعه في قصيدة (أبتاه) التي تظهر لنا واضحة الملامح وهي تجسد لنا مرح البنوة في ظلال الأبوة, ( المجتمع , العدد 40 من السنة 6 في 23-8-1969 ).
وفي قصيدة قصيرة,يهنئ فيها صديقاً لرزقه بمولودة اسماها سهى, وهي بذات الاسم (سهى*)
رزقتم بمولودة حلوة هنيئاً لكم ياصديقي بها
فعاشت لكم – كالربيع النضير لتزهو الحياة- وعشتم لها
وقد بات نجمكم عاليا علو السهى إذ أطلت (سهى)
وتهنئة أخرى لصديق تزوج يقدم قصيدته (رياض) وهي ن القصائد القصيرة
ليهنك عرس بالسعادة والمنى وباللطف والتأييد ربك حفه
رشفت من الكأس الذي صيغ طاهراً وما زلت أدعوه لأرزق رشفه
وأحرزت نصف الدين قبلا بطاعة فأرخ : وبالتبريك أكملت نصفه
وفي قصيدة (صبيان لا يشيخان) ننتقل إلى مرحلة الصبى, وجمالها, وروعتها, وشقاوتها, وهي تطرح ثيمة صبيان ولكن لا يشيخان وان كبرا
فمالهما اليوم في ثورة مدى العمر نيرانها تحتدم
ألا لعنا من صبيين لا يشيخان فالأمر لا ينحسم
وهكذا تستمر رحلة مرحلة الستينات والنضوج الشعري وثورة الشباب وعنفوانه لدى الشاعر, وخبرته التي تزداد كلما تقدم, ونجد ذلك في قصيدة ( الربيع الحزين) وكذلك قصيدة (غد الشعر) والتي قال عنها الشاعر خالد علي مصطفى في مقال له بعنوان (أجمل الشعر أقله) يتحدث فيه عن الأماسي الشعرية ويذكر هذه القصيدة :
" وفي هذه المعمعة الشعرية علينا أن نلتفت قليلاً إلى بعض ما ألقي من شعر عمودي, لقد كانت قصيدة محمد حسين آل ياسين هي أفضل العمود الذي ألقي غير أننا إذا أردنا إن نحاكمها محاكمة هادئة منطقية نجد أن القصيدة متعددة الأغراض على الطريقة الجاهلية, مدح الجواهري في البداية, فالانتقال إلى أرجاء النصائح وبث الحكم, عرج بعدها على ( ملاقحة الفكر ماضيه بحاضره) وبعدها بدون أي وجه انتقل فجأة إلى مدح العمل الفدائي, ومن هذه الناحية افتقدت القصيدة وحدة موضوعها واسترسلت بصورة اعتباطية وراء التعدد والصور الذهنية والمماحكات اللفظية التي تطرب دون أن تثير التأمل الشعري, من المقدرة اللغوية التي لا تخرج عما الفناه في الشعر العباسي ( الف باء , العدد 263 من السنة السادسة الصادر في 12-9-1973 ) .
والى هنا تنتهي رحلتنا مع النماذج المختارة من قصائد فترة الستينات, لندرك أهمية هذه المرحلة لدى الشاعر, ومدى تأثيرها في مسيرته الشعرية الوضاءة, أما قصائد فترة السبعينات , والثمانينات , والتسعينات , فهي قصيدة (نسب العلم)1975, وقصيدة (ليلة) 1983, وقصيدة (دانية أيضا) 983, وقصيدة ( الطيب )1982 , وقصيدة (فائدة) 1984 , وقصيدة (يا ابنة الدرس) 1987 , وقصيدة (أستاذ ) 1992, أما قصيدة (ليلى ) فلم تذيل بتاريخ, وقصيدة (أفروديت) 1984, وقصيدة (رسالة) 1981, وقصيدة ( ياهوى الأمس ) 987, وهي قصائد اختارها الشاعر لتكون ضمن هذه المجموعة كونها مميزة, ومتفردة, ولها أهمية, في مسيرة الشعر, إلا أن تحليلها ودراستها يحتاجان لوقت آخر, وهكذا فان هذه المجموعة المترجمة للشاعر محمد حسين ل ياسين, تشكل مرحلة شعرية كبيرة في طريق الشعر الذي وطأ الشاعر أقدامه الراسخة, ليصبح قامة كبيرة من قامات الشعر في العراق والوطن العربي.
قصص ودراسات نقدية يوسف عبود جويعد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق