السبت، 29 ديسمبر 2018

كتب / محمد خصيف / ذكرى رحيل الفنان المغربي عبد اللطيف الزين / المغرب ,,,,,,,,,,,,,,,

إذا راح الزين بقيت حروفه
محمد خصيف
ذكرى رحيل الفنان المغربي عبد اللطيف الزين، ذكرتني بالمثل الشعبي المغربي: "إلى مْشا الزين تبقى حروفه". فعلا رحل الفنان الزين وبقيت آثاره.
يوم 20 دجنبر 2017 تحل الذكرى الأولى لوفاة الفنان التشكيلي عبد اللطيف الزين، الرئيس المؤسس للجمعية الوطنية للفنون التشكيلية ANAP، والنقابة المغربية للفنانين التشكيليين SAPM، أحد أبرز رواد الحركة التشكيلية المغربية ومناضليها، الساعين إلى إعطاء الفنان المغربي مكانة وموقعا متميزين داخل المشهد الفني العربي والعالمي. لقد كان عبد اللطيف الزين " شاهد عيان على عصره، متعهدا لمجتمع متغير باستمرار"، عرف بمقارباته الفنية الحَدَثية Evénementielle التي يسعى من خلالها إلى إدماج الصباغة/التشكيل بالموسيقى الروحية، (موسيقى كناوة). "هذا الفن المتجذر في الثقافة الشعبية المغربية الذي يتميز بإيقاعه ورقصه الروحاني الصوفي بما يصطلح عليه بالدارجة المغربية "الجدبة" (محمد اللغافي). كما عرف بمواقفه الشجاعة، البعيدة عن التملق والمداهنة، وبحواراته وتدخلاته الصريحة والمقلقة، بل والمشاكسة/السجالية، الناقدة للوضعية المتأزمة التي تعيشها الفنون التشكيلية بالمغرب، ممارسة ونقدا وسياسة.
ولد عبد اللطيف الزين بمراكش عام 1940. ولع بالرسم مبكرا، وسنه لا يتجاوز سبع سنوات. وبتشجيع من بعض الأجانب، وضدا على معارضة والده، تمكن من الالتحاق بمدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء، ثم مدرسة الفنون الجميلة بباريس. شكل أول معرض نظمه عام 1964 بالحي الجامعي، نقطة تحول في طريقة اشتغاله، حيث انتقل من محاولات الرسم التجريدي إلى أسلوب تصويري عبر من خلاله عن الضوء والألوان التي يتوفر عليها بلده المغرب. وقد وصف تلك الفترة من حياته بأنها حنين إلى الماضي أعادته إلى طفولته، التي وجدها، كما قال، خصبة بالذكريات، جعلته يستحضر جلسات الشاي والحديث والغناء التي كانت تجمع والدته بقريباتها وصديقاتها وجاراتها، ولباسهن التقليدي وزينتهن، وطقوسا عاشها وهو "طفل بين هذه الأجواء التي كانت تضمها الرياضات بطابعها التقليدي، وجمالية الأزياء والزينة التي كانت تحرص عليها النساء في جلساتهن سواء في الحياة اليومية أو في المناسبات (...) تحضر المرأة في أعمالي، أحب أمي كثيرا".
يعد الفنان عبد اللطيف الزين رواد الفن التشكيلي المغربي. وصفه الكاتب والروائي المغربي محمد خير الدين معتبرا أعماله "بارزة ومرموقة في التراث التصويري العالمي، لأنها استطاعت أن تثبت وجودها في وسط صعب منغلق ينبذ كل ما هو جديد". أسرد قول الكاتب هذا مع شيء من التحفظ عن "عالمية تصوير" الفنان، وأسطر على "النبذ" كعملة يتداولها الفنانون فيما بينهم، ويبنون بها سياجا يحيطون به ذواتهم ليكرسوا أنانيتهم، فيوسعون الهوة التشكيلية بين الأجيال. فعلا كان عبد اللطيف الزين منبوذا من طرف أقرانه، بسبب مواقفه الشجاعة وانفتاحه على المواهب الشابة. فقد عمل طيلة حياته على تشجيع الأجيال الشابة من الفنانين، بتوفيره فرص العرض والبيع والتظاهر داخل الوطن وخارجه، والعمل على خلق أحداث Evénements، كان لها الفضل في استجلاء الإبداعات المغمورة بالأقاليم النائية، ومن تم أزاح الفن التشكيلي عن المحور الجغرافي التقليدي الرابط بين المدن الكبرى، مما ساعد على بزوغ أسماء فنية كثيرة، أصبحت منذئذ، تتبوأ مكانتها داخل المشهد التشكيلي المغربي.
توج عبد اللطيف الزين حياته الفنية الممتدة على ما يزيد عن الخمسين سنة، بتنظيمه سلسلة معارض فردية وجماعية، داخل المغرب وخارجه، "إذ استطاع بجهوده الفردية، بين 1965 و2000، أن يعرض أعماله بفرنسا واسبانيا وإيطاليا والدانمارك والولايات المتحدة الأمريكية، وتونس والسنغال، إذ توجد أعماله اليوم بالعديد من المؤسسات بأوروبا وأمريكا، ولدى العديد من المجمعين والمؤسسات البنكية".
ما يثير في لوحات عبد اللطيف الزين هي التقاليد المغربية التي تبناها كتيمة رئيسية، لم يحد عنها طيلة مساره الفني. يرسم الموضوع دون أن يكشف أو يوضح ملامحه أو يحدد معالمه. أسلوبه تصويري إيحائي، لا علاقة له بالتجريد، يعطي أهمية للون ويفتت الشكل. "تصويرية تعبيرية" صادرة عما يحس به الفنان وليس ما يشاهده ويراه، يلامس تقنية انطباعية تغيب الشكل وتعلي قيمة اللون، تكويناته عبارة عن بقع لونية تتجمع كلما اتخذ المتلقي مسافة قاصية عن اللوحة، فتعيد العين بناء الشخوص والأشياء والمشاهد. عبد اللطيف الزين يحتفي ببهجة اللون قبل الرسم.
تجربة "ترانس أرت" Trans’Art:
إن ما يميز تجربة عبد اللطيف الزين الفنية، ويجعلها ترتقي إلى مستوى التجارب الما بعد حداثية العالمية، هو خروجه عن المألوف والمتداول. فقد كسر بتجربته حلقات التكرار والاجترار التي عرفت بها الحركة التشكيلية منذ إطلالة عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. وهنا تكمن ريادة الفنان عبد اللطيف الزين، ريادة غُبن فيها من طرف زملائه من الفنانين والنقاد والجمهور نفسه. وتدخل التجارب التي واصل العمل بها فيما أسماه "الفن الشمولي"، وهي كمثيلاتها مستقاة من الفكر الجمالي الأوروبي، أو "ترانس أرت" Trans’Art، تأسيا بالتسميات الأوروبية، حيث يسعى الفنان إلى الجمع بين إبداعات فنية مختلفة ليحقق منجزا شموليا متكاملا، على شكل لوحة فنية تؤثثها لطخات لونية أحدثتها أجساد راقصي كناوة، باحتكاكهم على الخلفية /القماش الممدودة على الجدار أو المنشورة على الأرض. إنها "ألوان الجدبة" النابعة عن الرقصات الارتياعية، في سفر روحي متعال ومعْرج. "ترانس أرت" Trans’Art، تجربة فنية أطلق الزين عنانها عام 1990، يتوحد خلالها سماع آلتي الهجهوج والطبل مع شطحات الأجساد ورشات الألوان الحارة الأساسية. إنها نشوة تغمر الموسيقي/الراقص والفنان/الملون، تجربة معاصرة احتفالية Happening، إبداع حي ومعاصر يجد خلاله الفنان الزين نفسه مدمجا داخل عالم ارتياعي استشباحي. إبداع يرفع من قيمة اللون الرمزية الاستيهامية.
يقول عبد اللطيف الزين متحدثا عن تجربته: "في الحقيقة علاقتي جد غريبة مع الموسيقى، فأنا لا أفهم فيها، ولم أدرسها، كما أني لست من المهووسين بسماعها، فأحسن موسيقى تعجبني هي الصمت". لا شك أنها مفارقة بارزة تعكس التيار الفني الذي تبناه عبد اللطيف الزين خلال نشاطه الأدائي/الاحتفالي. كيف له أن يحب الصمت وهو الفنان المهووس بصخب موسيقى كناوة والجاز؟ فهو مايسترو أوركسترا، عازفوها ألوان وأصوات وأنغام وشطحات.
وجد الفنان الزين ضالته في موسيقى كناوة المعروفة برقصات الجدبة وبألوان الألبسة، ذات الرمزية الطقوسية التي لا تخلو من قدسية لدى الوسائط الشعبية. وانجذب الفنان وتأثر بالحركات المتواترة إلى درجة الشعور بالنشوة العالية والارتياع.
نشاط "فضاء الناس"
يندرج هذا النشاط الفني ضمن باقة النشاطات الحَدَثية التي تشكل مسار عبد اللطيف الزين الفني، وقد تأسس أصلا من أجل مد وتقوية جسور التواصل بين الفنان التشكيلي والجمهور الواسع من جهة، وتبادل التجارب والتعارف بين الفنانين فيما بينهم من جهة أخرى. كما تذكي هذه النشاطات الدور الجمالي والتثقيفي الذي تلعبه الفنون التشكيلية في تربية الذائقة الفنية، وغرس قيم الابتكار والإبداع والجمال في المواطن المغربي، و"كذا الإسهام في نهضة وإنعاش السياحة الثقافية عن طريق الفن التشكيلي باعتباره لغة كونية وأداة تواصل بامتياز". بفضل هذه النشاطات تتحول الساحات العمومية إلى مشاغل مفتوحة ومتاحف في الهواء الطلق لتصبح جامعة للفن وأهله، يلتئم فيها الفنان مع جمهوره.
إن "فضاء الناس" يعد جسرا للتواصل بين المبدع والمتلقي. عبره يسائل الفنان بكل بساطة وعفوية، وجرأة ربما. بينما الفنان يشتغل أمام الأعين، بعيدا عن جدران المحترَف، الأمر الذي يحول هذا التواصل إلى تقارب حميمي، يمهد الطريق للمتلقي لكي يجرؤ على مصاحبة الفنان لحظة الإنجاز الفعلي للعمل الفني.
مواقفه السجالية:
عمل الفنان عبد اللطيف الزين طيلة حياته على محاولة إخراج الفن عن مساراته المألوفة بالدفاع، بحزم وقوة، عن مشاريعه وآرائه حتى يوجد لها صدى داخل الأوساط المؤسساتية، الفنية والثقافية. إنه فنان شرس مشاكس، مشاغب ومضايق لمن لم يفهم أفكاره. بات يلقى معارضة شديدة من طرف محيطه لكنه بذكائه عرف كيف يتحدى معاكسيه. فعارض بشدة عن طريق نقابته، المعرض التدشيني لمتحف الفن الحديث والمعاصر، حيث وجه انتقادات شديدة للطريقة، غير المنصفة، التي تم بها اختيار الأعمال الفنية من طرف إدارة المتحف، معتبرا النشاط كله صادرا عن وصاية فرنسية. كما سجلت له وسائل الإعلام المكتوبة بشقيها الورقي والإلكتروني، والمرئية، مداخلات تنتقد السياسة المتبعة من طرف إدارة المتحف والقيمين عليه وعلى المؤسسة الوطنية للمتاحف.
وشجبت نقابته بشدة تهميش الفاعلين الجمعويين والنقابيين ومجموعة الفنانين المغاربة من طرف منظمي تظاهرة "مائة عام من الإبداع بالمغرب، من 1914 إلى 2014"، التي استضافها معهد العالم العربي بباريس. إذ كان من الواجب " إشراك الجمعيات النقابية في أي تهيئ أو مشروع فني من هذا النوع"، وأن النقابة ترفض "ما قام به مدير مؤسسة المتاحف حيث أسند هذه المهمة إلى شخص واحد مهمة إنجاز معرض من هذا الحجم".
لم يقف الصراع من أجل الوجود والسلطة والريادة بين الفنان والمؤسسة عند هذا الحد، بل انتشر الوباء داخل الجسد الفني نفسه، حينما رفع عبد اللطيف الزين "دعوى قضائية هي الأولى من نوعها في الوسط الفني والتشكيلي أساسا، يطعن فيها في نتائج انتخاب رئيس نقابة التشكيليين المحترفين"، متهما إياه "كونه قام “بتزوير” القانون الأساسي للنقابة "بصفة تدليسية وبصورة فاضحة".
يجب التأكيد على أن مثل هذه الصراعات المجانية لا تخدم مصلحة الفن والفنانين، بل تعطي صورة مشوهة لما آلت إليه التجربة التشكيلية بالمغرب. فعوض أن تكون صراعات جدالية على مستوى الإبداع، تنتقد الممارسات الفنية بموضوعية، وتقوض الأفكار والنظريات، نجدها صراعات من أجل المصالح والمناصب ليس إلا، عملتها التملق والتودد والتذلل والمداهنة...والنفاق.
تمت مشاركة ‏منشور‏ من قبل ‏‎Mohamed Khassif‎‏.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق