مابعد الخريف
الوقت أوائل الشتاء، غيوم سوداء عابرة في عرض السماء، تخفي في متاهاتها أغنية حزينة، نظرت إليها، هي ذات الغيوم التي مرّت منذ أعوام، تهطل مخاوف وكوابيس وحرائق، لا يردعها صحو، فجأة تظهر سحابة أخرى من جهة الغرب، تهشّ وجه الشمس بدخان كثيف، تمدّ أذرعاً اتخذت شكل الأعاصير، تطارد ما تبقّى من أقمار معلّقة بسقف سماء تمور بمخاوفها:
-عجيب، هي غيمة واحدة، كيف تسنّى لها أن تغطي وجه السماء؟ قال صاحبي بصوت خفيض.
- ربما هي رسالة الله، ألا ترى الأرض أجدبت، ولم تزهر غير جذوع أشجار يابسة؟
- حقاً ما تقول، آه، أين تلك الرائحة الزكية؟ رائحة النعناع ورغيف الخبز الأبيض، أين رائحة رماد مواقدنا الدافئة؟ كانت أياماً جميلة.
ابتلع حيرته وحدّق في وجهي، ربت على كتفي، حاول أن يظهر ابتسامة، فلم تظهر غير أسنانه المصفرة.
- يبدو أنّها الليلة الأخيرة.
كنّا نمضغ صمتنا وسط موجة قلق، ننفخ في رماد الوجع، علّه يبرق بما تيسّر من مطر. نمرّ بخرائب هدّها الزمن، خرائب تتوضأ بالوحشة وصدى النسيان. وبينما كانت عيوننا ضائعة في مجاهل بكائية، خضّبت ليالينا بتأنيب الآلهة وصهيل القمع، تذكّرت أني مسافر وسط موجة الهلع الملتفّة بجموع الناس في هجير لافح بتكبيرات مآذن المدينة، الجموع المترعة بالخوف، المعلّقة بمساء مظلم، تهبط إلى باحة المسجد الذي أعلن عن مخاوف سماوية :
- ألم تصلِّ معنا؟
كانت كلماته البريئة تعكس طهارته، تنضح بما تبقّى من خوف. ذات ليلة وقبيل الفجر دلفت إلى المسجد، كان ساطعاً بأنوار بيضاء، جدرانه مزركشة بأكفّ من حنّاء، شبابيكه تبرق بلون ذهبي تسرّ الناظرين، في الرواق تنتصب شجرة سدر، في ظلّها ترقد مجموعة من توابيت خشبية، لها ذات المقاس إلّا واحداً كان يرتدي مقاسي،
" يا ترى متى سيحملني لأتوسد أرضنا الجدباء؟ "
رفعت غطاءه بخشوع، بدا لي للوهلة الأولى أنه سرداب يريد أن يبتلعني، مددت عنقي في ذلك الفراغ، العدم، لا قاع له، ضباب كثيف يتشكّل وسط الفراغ، بينما عيناي تتوسدان نصف إغماضة، جسدي النحيل حلّق في الهواء بأجنحة لا مرئية، تاركاً خلفه صراخاً وعويلاً وصلوات ، تنتابني غفوة بعد أن مرقت من أمامي خيوط زاهية من بريق شيء ما، لم أره من قبل، غراب أسود يخلع بصرخاته الزاعقة ما تبقى من روحي، أجنحته التي غطّت الأفق تكنس الغبار،عربات سوداء تجرها خيول رمادية، مثقلة بضجيج أجساد لم تتقلقل من مكانها، جسدي النحيل يتهاوى وسط ذلك الضجيج، يغطّ في نوم عميق، يغطس في صومعة عيون تختلس النظر إليه من بعيد، ومن خلال ثغرة وسط ستارة بيضاء منسدلة فوق مشهد رعبي، تمتدّ أياد طويلة إلى الجسد النحيل، تمسك بذراعه، فتراني أجفل مرعوباً على صوت شيخ المسجد الذي ربت على كتفي :
- ما الذي تفعله هنا في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟
حاولت أن أجيب عن تساؤله، لم أستطع، كانت حنجرتي ترتجف بصوت مبحوح.
- لا تخف -بني- إنّك في في بيت الله ، قال الشيخ.
صاحبي المفتون بمخاوفه لم أعجبه هذه المرّة، يشهق بما تبقّى من توسل:
- ألا تصلّي معنا، لم أجبه.
ينتفخ غيضاً، يتركني ظلّاً، يلتحق بالجموع المترعة بالخوف، الهابطة إلى باحة المسجد بخشوع ووجل.المكان محاط بالجدب إلّا من أشواك بزغت من بين الصخور هنا وهناك، وشجرة يتيمة غافية فوق جفافها، وأنا ما زلت استنشق عبير تلك الليلة العالقة بذهني، أسمع كلمات الشيخ التي احتضنت مخاوفي،
" لاتخف بني، إنّك في بيت الله ".
صوت صاحبي ما زال يلاحقني من بعيد :
- لِمَ لا تأتي معنا ؟ سيدركك الوقت.
- سأ صلّي هنا، فالأرض كلّها بيت الله.
-عجيب، هي غيمة واحدة، كيف تسنّى لها أن تغطي وجه السماء؟ قال صاحبي بصوت خفيض.
- ربما هي رسالة الله، ألا ترى الأرض أجدبت، ولم تزهر غير جذوع أشجار يابسة؟
- حقاً ما تقول، آه، أين تلك الرائحة الزكية؟ رائحة النعناع ورغيف الخبز الأبيض، أين رائحة رماد مواقدنا الدافئة؟ كانت أياماً جميلة.
ابتلع حيرته وحدّق في وجهي، ربت على كتفي، حاول أن يظهر ابتسامة، فلم تظهر غير أسنانه المصفرة.
- يبدو أنّها الليلة الأخيرة.
كنّا نمضغ صمتنا وسط موجة قلق، ننفخ في رماد الوجع، علّه يبرق بما تيسّر من مطر. نمرّ بخرائب هدّها الزمن، خرائب تتوضأ بالوحشة وصدى النسيان. وبينما كانت عيوننا ضائعة في مجاهل بكائية، خضّبت ليالينا بتأنيب الآلهة وصهيل القمع، تذكّرت أني مسافر وسط موجة الهلع الملتفّة بجموع الناس في هجير لافح بتكبيرات مآذن المدينة، الجموع المترعة بالخوف، المعلّقة بمساء مظلم، تهبط إلى باحة المسجد الذي أعلن عن مخاوف سماوية :
- ألم تصلِّ معنا؟
كانت كلماته البريئة تعكس طهارته، تنضح بما تبقّى من خوف. ذات ليلة وقبيل الفجر دلفت إلى المسجد، كان ساطعاً بأنوار بيضاء، جدرانه مزركشة بأكفّ من حنّاء، شبابيكه تبرق بلون ذهبي تسرّ الناظرين، في الرواق تنتصب شجرة سدر، في ظلّها ترقد مجموعة من توابيت خشبية، لها ذات المقاس إلّا واحداً كان يرتدي مقاسي،
" يا ترى متى سيحملني لأتوسد أرضنا الجدباء؟ "
رفعت غطاءه بخشوع، بدا لي للوهلة الأولى أنه سرداب يريد أن يبتلعني، مددت عنقي في ذلك الفراغ، العدم، لا قاع له، ضباب كثيف يتشكّل وسط الفراغ، بينما عيناي تتوسدان نصف إغماضة، جسدي النحيل حلّق في الهواء بأجنحة لا مرئية، تاركاً خلفه صراخاً وعويلاً وصلوات ، تنتابني غفوة بعد أن مرقت من أمامي خيوط زاهية من بريق شيء ما، لم أره من قبل، غراب أسود يخلع بصرخاته الزاعقة ما تبقى من روحي، أجنحته التي غطّت الأفق تكنس الغبار،عربات سوداء تجرها خيول رمادية، مثقلة بضجيج أجساد لم تتقلقل من مكانها، جسدي النحيل يتهاوى وسط ذلك الضجيج، يغطّ في نوم عميق، يغطس في صومعة عيون تختلس النظر إليه من بعيد، ومن خلال ثغرة وسط ستارة بيضاء منسدلة فوق مشهد رعبي، تمتدّ أياد طويلة إلى الجسد النحيل، تمسك بذراعه، فتراني أجفل مرعوباً على صوت شيخ المسجد الذي ربت على كتفي :
- ما الذي تفعله هنا في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟
حاولت أن أجيب عن تساؤله، لم أستطع، كانت حنجرتي ترتجف بصوت مبحوح.
- لا تخف -بني- إنّك في في بيت الله ، قال الشيخ.
صاحبي المفتون بمخاوفه لم أعجبه هذه المرّة، يشهق بما تبقّى من توسل:
- ألا تصلّي معنا، لم أجبه.
ينتفخ غيضاً، يتركني ظلّاً، يلتحق بالجموع المترعة بالخوف، الهابطة إلى باحة المسجد بخشوع ووجل.المكان محاط بالجدب إلّا من أشواك بزغت من بين الصخور هنا وهناك، وشجرة يتيمة غافية فوق جفافها، وأنا ما زلت استنشق عبير تلك الليلة العالقة بذهني، أسمع كلمات الشيخ التي احتضنت مخاوفي،
" لاتخف بني، إنّك في بيت الله ".
صوت صاحبي ما زال يلاحقني من بعيد :
- لِمَ لا تأتي معنا ؟ سيدركك الوقت.
- سأ صلّي هنا، فالأرض كلّها بيت الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق