كتانات في حضرة السادات
محمد خصيف
محمد خصيف
عزم الشيخ بادريس على الرحيل إلى البهجة للتبرك والتموسم وتمريغ جبهته بتراب قباب سبعة رجال، فحزم أمتعته وطاف على كل من أوصاه من مريديه بالدعاء له أو إيصال وعدة إلى السادات السبعة. كان ممن زارهم، سي فنون الذي أمنه على وعدته المكونة من أربعة أثواب كتانية رسم عليها شخوص مازالت عليها علامات الجدبة الحمدوشية، وانسابت إليها من ضريح سيد الزوين ألوان تشكلت على سطوحها حتى إذا رأيتها حسبتها گناوية. أيقن سي فنون أن دماء تيوس الجدبة قد فاضت من بين خيوط الكتان وارتقت إلى السماء ملفوفة بدعوات الداعين، لذلك عهد بها إلى بادريس كي يضفي عليها بركة الدم من نوق الولي مولاي ابراهيم.
لف بادريس الكتانات الأربع ووضعها في حقيبته التي يتقلدها على كتفه وهو يتذكر نصيحة أحد أصدقائه القدامى:
- إياك أن تتجول في جامع الربح وشكارتك على كتفك. فالساحة ملئ باللصوص يتراقصون كما يتراقص أولاد سيدي حماد أموس.
توقفت الحافلة وأيقظه صوت لگريسون ينقر مسامعه وهو في غفلة عن أمره:
-واحد الربع ساعة، لي بغا ياكل شي حاجة.
تدحرج مسرعا من الحافلة، يخطو نحو الحقول الفارغة إلا من أشجار ضرگ الزعبول، وشيء من سدر قليل. أخرج سكينه وقطع ضرگة مشوكة وهو يتصور يد لص تسقط في فخ الضرگة بدل كمشها على إحدى الكتانات الأربع.
بعد مرور قطعة من الزمن، تبهجت الحافلة واستنشق بادريس ريح الشرگي التي لم يفلته من غبارها إلا هواء الفندق المكيف.
-الله عليها راحة! أستحم وأنام شوية، وبعد ذلك يحلها حلال.
غاص في بحر أحلامه التي لم يعتقه منه سوى رنات موبايله.
-ألو، شكون معايا؟
-بادريس... أنا اذهيبة ولد منصور. عرفتني؟
-آه. فاينك؟
-اهبط، راني في الحفرة.
لحق به بادريس في حينه.
ومن تم لزما حفرة الأوطيل يتغذيان ويتعشيان على وصفاتها الخمارة. نسي بادريس كل شيء. ولم يعد يهتم بالكتانات المعهودة إليه.
الأثواب التي غشيها عفن الضرگة المشوكة.
تدلت الأشواك وباتت كخيوط عنكبوت تتشابك ونسيج الكتان المدمي. لم تعد قادرة على حماية اللفافات الراقدة وإياها بقاع الشكارة الإدريسية.
فلا بادريس رعى الأمانة التي عهد إليه بها ولا الشويكات بقيت محافظة على لياقتها البدنية كي تكون مستعدة للتدخل الوقائي حين يطلب منها التدخل.
بقي الحال على حاله وبادريس يعيش مرحلة من عمره على هواه. أفاق من غفلته يوم سمع طرقات على باب غرفة الأوطيل. فتح الباب وإذا به يجد نفسه في مواجهة رجل عريض الكتفين، ضيق الردفين ينهره بصوت جهوري:
-سلا الموسم،
تابع بخبث واستهزاء، ويداه مرفوعتان إلى أعلى بكفين منفرجتي الأصابع:
-سالينا... Game over.
بقي بادريس مذهولا، ينظر إلى مخاطبه ومخيلته تحاك له وجهه وقد لطمته الضرگة حتى انغرست الأشواك في بؤبؤي عينيه.
-يالله انزل بغاك الباطرون.
رد عليه بادريس وكأن دبورا نعره في نخاعه:
-نعم، ألم حوائجي وألحق بك.
فتح محفظته التي تركها راقدة على المنضدة الصغيرة مسندة ظهرها إلى الهاتف الأخرس البني، وإذا برائحة الضرگة المتعفنة وقد امتزجت بعطر التربنتين تضيق خياشيم أنفه حتى خنقت أنفاسه. أخرجها وجلدها النباتي يزيده الاحتكاك بجلد البقر المدبوغ تحللا واندثارا، فتتهاوى شوكاتها منهوكة القوة، متراخية، تتمايل كدودات الأرض،إلى قعر المحفظة. رمى بما تبقى من نسيجها المخروط المتآكل، ثم جذب لفاف الكتانات الأربع وقد اخضر ظهرها. أعادها ثانية إلى جلدتها و لم الخطى نحو عتبة الباب.
كان الرسيبسيونست متسمرا وراء الكونطوار، وعيناه لاتفارقان الأدراج، وما أن رمق بادريس حتى أسرع نحوه وهو يلح بيده.
-سي ادريس تفضل معي إلى مكتب السيد المدير.
ولج الباب بعد ثلاثة نقرات خفيفة، متتالية. كان المدير جالسا إلى مكتبه الكرومي اللامع، متكئا إلى حافة ملف أخضر وكأنه قاض القضاة يتفحص وجه متهم ضبط متلبسا بجرمه. حياه بادريس بحركة من رأسه وبقي ينتظر سرد الحكاية.
تنحنح المدير قليلا وخاطبه و عيناه تجولان بياض الورقة دون توقف:
-في ذمتكم، أنت وأصحابك 120 000درهم، كلها...ماء وعنب. بالصحة والعافية.
-الله يعطيك الصحة. الرقم كبير وليس معي ما يكفي من الليكيد لتسديده.
-والمحفظة، ماذا فيها؟
-آه! المحفظة... بها أشياء ليست لي.
ارتسمت على وجه المدير ابتسامة سخرية واستهزاء ورد عليه:
-لا أنت لها ولاهي لك. أنت ومالك لأبيك، وأبوك اليوم هو من يملكك، أنا والأوطيل.
نشر ذراعه رافعا حاجبه الأيسر ورأسه لايفتر عن حركة خفيفة. مد إليه بادريس المحفظة فأخرج منها الكتانات الملفوفة، ونشرها فوق مكتبه بعد أن أوقف حركة طيها بأشياء كانت أمامه.
-جميل. جميل... رسوم رائعة...
أيقن بادريس أن الأمانة سارت في مهب الريح وأن محفظته لن تحضر أركسترا حمادشة ولا تراقص ألوان عيساوة.
أعاد المدير طي الأثواب ورمى بها في قاع درج مكتبه وخاطبه:
-ستبقى هذه اللوحات هنا إلى حين تسديد ما عليكم من دين.
غصت تلك الكلمات في حلق بادريس وكأنها قطعة من شوك الضرگة التي تخلص منها آنفا، وأحس بعبارة الرد تتعثر وحشرجة أنفاسه. عاد شريط الأحداث يعكس شعاعه فوق شاشة ذاكرته، وتبادرت إلى ذهنه صورة سي فنون وهو يؤمنه على أثوابه الأربعة التي راحت سجينة رقيم إدارة الأوطيل، بعدما قضت أيامها الأولى في حضرة النبتة الزعبولية.
ماذا ياترى سيقول لسي فنون؟ أيخبره أن الصباغات انصهرت مع محلول غلة الدالية الذي بات يطبب به نزواته؟
وبينما هو منغرق في إيجاد مفتاح يفك به الألغاز التي ضيقت عليه كينونته، أتاه شيطانه ليقترح عليه حلا ربما يسعده:
-سأخبر سي فنون أن الأثواب غطت أربعة من السادات السبعة، وأن الثلاثة الباقين مازالوا عريانا، وهكذا سأتفادى النرفزة والغضب، وأمنح لنفسي فرصة أخرى للا ستظلال تحت كرمة العنب.
لف بادريس الكتانات الأربع ووضعها في حقيبته التي يتقلدها على كتفه وهو يتذكر نصيحة أحد أصدقائه القدامى:
- إياك أن تتجول في جامع الربح وشكارتك على كتفك. فالساحة ملئ باللصوص يتراقصون كما يتراقص أولاد سيدي حماد أموس.
توقفت الحافلة وأيقظه صوت لگريسون ينقر مسامعه وهو في غفلة عن أمره:
-واحد الربع ساعة، لي بغا ياكل شي حاجة.
تدحرج مسرعا من الحافلة، يخطو نحو الحقول الفارغة إلا من أشجار ضرگ الزعبول، وشيء من سدر قليل. أخرج سكينه وقطع ضرگة مشوكة وهو يتصور يد لص تسقط في فخ الضرگة بدل كمشها على إحدى الكتانات الأربع.
بعد مرور قطعة من الزمن، تبهجت الحافلة واستنشق بادريس ريح الشرگي التي لم يفلته من غبارها إلا هواء الفندق المكيف.
-الله عليها راحة! أستحم وأنام شوية، وبعد ذلك يحلها حلال.
غاص في بحر أحلامه التي لم يعتقه منه سوى رنات موبايله.
-ألو، شكون معايا؟
-بادريس... أنا اذهيبة ولد منصور. عرفتني؟
-آه. فاينك؟
-اهبط، راني في الحفرة.
لحق به بادريس في حينه.
ومن تم لزما حفرة الأوطيل يتغذيان ويتعشيان على وصفاتها الخمارة. نسي بادريس كل شيء. ولم يعد يهتم بالكتانات المعهودة إليه.
الأثواب التي غشيها عفن الضرگة المشوكة.
تدلت الأشواك وباتت كخيوط عنكبوت تتشابك ونسيج الكتان المدمي. لم تعد قادرة على حماية اللفافات الراقدة وإياها بقاع الشكارة الإدريسية.
فلا بادريس رعى الأمانة التي عهد إليه بها ولا الشويكات بقيت محافظة على لياقتها البدنية كي تكون مستعدة للتدخل الوقائي حين يطلب منها التدخل.
بقي الحال على حاله وبادريس يعيش مرحلة من عمره على هواه. أفاق من غفلته يوم سمع طرقات على باب غرفة الأوطيل. فتح الباب وإذا به يجد نفسه في مواجهة رجل عريض الكتفين، ضيق الردفين ينهره بصوت جهوري:
-سلا الموسم،
تابع بخبث واستهزاء، ويداه مرفوعتان إلى أعلى بكفين منفرجتي الأصابع:
-سالينا... Game over.
بقي بادريس مذهولا، ينظر إلى مخاطبه ومخيلته تحاك له وجهه وقد لطمته الضرگة حتى انغرست الأشواك في بؤبؤي عينيه.
-يالله انزل بغاك الباطرون.
رد عليه بادريس وكأن دبورا نعره في نخاعه:
-نعم، ألم حوائجي وألحق بك.
فتح محفظته التي تركها راقدة على المنضدة الصغيرة مسندة ظهرها إلى الهاتف الأخرس البني، وإذا برائحة الضرگة المتعفنة وقد امتزجت بعطر التربنتين تضيق خياشيم أنفه حتى خنقت أنفاسه. أخرجها وجلدها النباتي يزيده الاحتكاك بجلد البقر المدبوغ تحللا واندثارا، فتتهاوى شوكاتها منهوكة القوة، متراخية، تتمايل كدودات الأرض،إلى قعر المحفظة. رمى بما تبقى من نسيجها المخروط المتآكل، ثم جذب لفاف الكتانات الأربع وقد اخضر ظهرها. أعادها ثانية إلى جلدتها و لم الخطى نحو عتبة الباب.
كان الرسيبسيونست متسمرا وراء الكونطوار، وعيناه لاتفارقان الأدراج، وما أن رمق بادريس حتى أسرع نحوه وهو يلح بيده.
-سي ادريس تفضل معي إلى مكتب السيد المدير.
ولج الباب بعد ثلاثة نقرات خفيفة، متتالية. كان المدير جالسا إلى مكتبه الكرومي اللامع، متكئا إلى حافة ملف أخضر وكأنه قاض القضاة يتفحص وجه متهم ضبط متلبسا بجرمه. حياه بادريس بحركة من رأسه وبقي ينتظر سرد الحكاية.
تنحنح المدير قليلا وخاطبه و عيناه تجولان بياض الورقة دون توقف:
-في ذمتكم، أنت وأصحابك 120 000درهم، كلها...ماء وعنب. بالصحة والعافية.
-الله يعطيك الصحة. الرقم كبير وليس معي ما يكفي من الليكيد لتسديده.
-والمحفظة، ماذا فيها؟
-آه! المحفظة... بها أشياء ليست لي.
ارتسمت على وجه المدير ابتسامة سخرية واستهزاء ورد عليه:
-لا أنت لها ولاهي لك. أنت ومالك لأبيك، وأبوك اليوم هو من يملكك، أنا والأوطيل.
نشر ذراعه رافعا حاجبه الأيسر ورأسه لايفتر عن حركة خفيفة. مد إليه بادريس المحفظة فأخرج منها الكتانات الملفوفة، ونشرها فوق مكتبه بعد أن أوقف حركة طيها بأشياء كانت أمامه.
-جميل. جميل... رسوم رائعة...
أيقن بادريس أن الأمانة سارت في مهب الريح وأن محفظته لن تحضر أركسترا حمادشة ولا تراقص ألوان عيساوة.
أعاد المدير طي الأثواب ورمى بها في قاع درج مكتبه وخاطبه:
-ستبقى هذه اللوحات هنا إلى حين تسديد ما عليكم من دين.
غصت تلك الكلمات في حلق بادريس وكأنها قطعة من شوك الضرگة التي تخلص منها آنفا، وأحس بعبارة الرد تتعثر وحشرجة أنفاسه. عاد شريط الأحداث يعكس شعاعه فوق شاشة ذاكرته، وتبادرت إلى ذهنه صورة سي فنون وهو يؤمنه على أثوابه الأربعة التي راحت سجينة رقيم إدارة الأوطيل، بعدما قضت أيامها الأولى في حضرة النبتة الزعبولية.
ماذا ياترى سيقول لسي فنون؟ أيخبره أن الصباغات انصهرت مع محلول غلة الدالية الذي بات يطبب به نزواته؟
وبينما هو منغرق في إيجاد مفتاح يفك به الألغاز التي ضيقت عليه كينونته، أتاه شيطانه ليقترح عليه حلا ربما يسعده:
-سأخبر سي فنون أن الأثواب غطت أربعة من السادات السبعة، وأن الثلاثة الباقين مازالوا عريانا، وهكذا سأتفادى النرفزة والغضب، وأمنح لنفسي فرصة أخرى للا ستظلال تحت كرمة العنب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق