السبت، 8 ديسمبر 2018

جلسة فنية (3-2-1) / محمد خصيف / المغرب ,,,,,,,,,,,,,,,,,

جلسة فنية (3-2-1)
محمد خصيف
ثلاثة فنانين يجرون غرورهم ويجرهم، ويتعبدون أضرحة نرجيسيتهم لدرجة التأليه، فلا يرون سوى ذواتهم وحدها مرسومة على الخرائط، وصورهم تعكسها كل الآثار الفنية التي صادفوها في رحلاتهم. الأول موحا بنو، فنان تآكل جسده بفعل كيماويات الرسم والتصبيغ، وهجرت الشعرات لحيته البيضاء متنقلة، متجولة، مختفية في أروقة باريسية. والثاني، قلب لمين، فنان يعيش متلحفا أناه، لايرى أحدا يضاهيه أو يماثله. يبيت نهاره بين لوحاته الشديدة الرماد وكأنها انتزعت لتوها من فرناتشي الحمام المجاور لشقته. ويقضي ليله بين أعمدة باليما شاحب اللون كأن جلده قناع طلي برماد. اما الثالث، عبدلي، فهو شخص لطيف، كتوم، يتكلم بحاجبيه، و بيبة ماگريت البنية تتقاذفها شفتاه تارة وتقضمها أسنانه الكلسة تارة أخرى. عرف عبدلي بتجواله الصيفي بين اعمدة الرايخستاك البرليني. فهو يحب بلاد الرايخ الثالث ولايفتر حينما يتحدث إليك عن زرع بعض المفردات الجرمانية بين طيات عباراته الدارجة.
تحلق الثلاثة كعادتهم حول فناجينهم المغموسة هينيكين و فلاگ، ببار طنجة، يتجاذبون أطراف النميمة والغيبة حول من صادفوه هذا اليوم. بينما هم كذلك انضاف إلى حلقتهم مومو لكرتيك الذي اعتاد أن يحج إلى البار مساءا، بعدما يضغط على أسنان قفل بقالته. مومو هذا إنسان معروف لدى الأوساط الفنية بحبه للفن والفنانين. فمن حين لآخر تجده يتسمسر ليكنس ما تأبطه من رسوم ولوحات رواده من الفنانين بفئاتهم الثلاث، شبابا وكهولا وشيوخا. وحتى الموتى يوصون ورثتهم بتعهد تركاتهم إلى مومو لكرتيك، فهو من العارفين بخبايا زوايا الفن ومشايخها.
-سلام، salut les copains، كيف الأحوال؟
رماه الثلاثة بنظرات تنبعث منها شرارة الخديعة والنفاق، دون أن يردوا له تحيته. جر أريكة جلدية ودعائمها تتعثر بين عقد الزربية البالية، كأنها رافضة الانصياع إليه. أرتخى عليها بردفيه الثقيلين حتى سمعت طنين المعدن يدوي تحت الأريكة، وأرمى ظهره إلى صدر الكرسي عله يبدي له حنينا ينسيه متاعب بقالته.
أضاف متسائلا، وزفيره اختلطت رائحته بريح التبغ يقطع صوته، وعيناه لاتفتران عن القفز بين الوجوه الثلاثة التي تنظر إليه:
-أش من جديد؟
دار نحو موحا بنو وسأله:
-رأيت عملا لك معروضا بواجهة دكان الحاج أمحروش، هل بعته له؟
التفت الإثنان نحو موحا ونظراتهما المستفسرة تنغرسان في وجهه حتى شعر وكأن جسمه لم يعد يحمله.
-لا... أبدا، أنا لم أبع شيئا.
-لوحة كبيرة الحجم وجميلة جدا، تجريدية... وضع لها الحاج إطارا رائعا... زادها رونقا وسرورا.
انحنى نحوه قليلا وهمس إليه وهو يطبطب على ركبته:
-إنه إطار من النوع الرفيع.
وهو يلتفت نحو الآخرين:
-أنتم الفنانون لاتهتمون بالإطارات، ههه... تكتفون بالكتانة الحرة، la toile libre، إنها الحداثة.
غرق الثلاثة في صمت تجمدت معه الكؤوس، وأعينهم تدور في جحورها من شدة الذهول وكأن فوق رؤوسهم الطير.
التفت لكرتيك البقال إلى موحا يستفسره حول تاريخ معرضه والمواضيع التي تناولها في أعماله الحالية. رد عليه موحا موضحا:
-تناولت المعلقات كموضوع... عدت... إلى التراث...التراث العربي.
-تعني المعلقات السبع؟
-السبع أو التسع أو العشر... لايهم، تهمني الفكرة فقط.
ضحك مومو وسأله وبصره يتنقل بين رفيقيه:
-أخبرني... عن أي معلقات تتحدث، وأي تراث؟!
-التراث العربي القديم طبعا، ماشي زواق دالمغاربة. لا...
-آه... ماشي زواق. وماذا إذا؟
-خطرت ببالي فكرة الاشتغال على المعلقات، سمعت أحد الأدباء يتحدث عنها في إحدى تدخلاته.
-وهل لديك فكرة عن أصل المعلقات؟
بدأ لسان موحا بنو يلتوي داخل حلقه وهو يتلعتم قبل أن يفوه مجيبا:
- نعم... أوراق كانت تعلق بمكة بدون إطار. تعرف أن العرب لم يعرفوا الفن التشكيلي، كان عندهم الشعر.
جحضت عينا لكرتيك تثقبان بؤبؤي موحا بنو، والرد على مافاه به يدور بمخه كأنه أسطوانة ليزر تسبح في الفضاء متحررة من محورها: كانت تعلق بمكة... العرب... الفن التشكيلي...تلك ثقافتكم التي رضعتم من نهود ليفرانسي!
التفت نحو عبدلي وسأله:
-هل حقا أن العرب لم يكن لديهم فن تشكيلي؟
-كان عندهم فن ديكور فقط.
-حقا؟ وكيف كانوا يلبسون؟ وكيف كانوا يؤثثون بيوتهم؟ ألم تكن لديهم قيم جمالية؟ والنحت... كان لديهم نحت، لكنه انقرض بحكم المنع الديني. فكروا معي، لو عاشت تلك المنحوتات إلى اليوم، ألن توضع لها عارضات socle بكبرى المتاحف العالمية كما هي حال سكولتورات الحضارات القديمة الأخرى، العراق والأزتيك والصين وغيرها.؟
تابع درسه التعليمي وهو يتنقل ببصره من وجه إلى آخر:
-إنكم تجهلون تراثكم وحضارتكم ولاتعرفون منها إلا القشور، جرفتكم تيارات الحداثة وسلختكم من جلودكم فأصبحتم مكشوفي العظام. أنتم في حاجة إلى نشز عظام أخرى وكسوها لحما. شخصيا لا أرى أي أثر للتراث في أعمال موحا بنو ولاغيره. أرى تجريد فوق تجريد وتلاعب بالألوان. وما كتب هو تحريف للحقيقة وللتاريخ. حقا هناك تقنية ومهارة ولكنها تفتقد إلى العمق، إلى الجذور.هههه، انظروا إليه يتحدث عن المعلقات ولاعلم له بها. أي تراث هذا الذي تتحدث عنه ياأخي؟!
- أخذت فكرة تعليق العمل بدون اطار.
-أخذت بالقشور فقط، بالسطح. كان عليك أن ترجع إلى الأدب العربي والشعري منه، لتثقف نفسك، حتى تكون أهلا للدفاع عن أعمالك وتبرير وجودها.
-سألتني عن مرجعيتي فأجبتك.
-جواب غير مقنع...شخصيا أرى أعمالكم أنتم الثلاثة نسخا ممسوخة لما نجده في الغرب. أنتم الثلاثة سفراء لمدارس غربية أنا أعرفها. موحا بنو وقلب لمين، فرنسا، وأنت عبدلي... إييه، متكي علا للمان يالمسخوط. يسحابك معايق شي بكم؟!
انحنى نحوه قلب لمين وهمس في أذنه:
-خلينا نترزقو علا الله ألعشير. هنا شكون كاي يعرف لافرانسا ولاللمان... ولا حتا التراث. إييه؟ هاد لخوت كاي بييتو ويقييلو فباب المكتبة؟! حتا حد ماكيقرا. راك عارف.
رشف لكرتيك رشفة طويلة من كأسه المملوءة وقال:
-محظوظون، وجدتم من يشجعكم ويعرضكم براا. ويصلب لوحاتكم بالمتاحف والمعاهد.
-الجلسة مع لحباب بحال وجهك. والكأس واش إيدير.
ارتمى الثلاثة برؤوسهم إلى الوراء غارقين في قهقهات سمعها الغادي والبادي، غير مبالين بكينونتهم.

التقط مومو لكرتيك جليسه الفنان قلب لمين من فوهة الضحك والقهقهة التي بات غارقا فيها، وسأله باستهزاء وسخرية:
-وأنت، ماالجديد عندك؟
-أستعد لمعرض قادم بباريس، بمعهد العالم العربي.
-أهاه... معهد العالم العربي؟ هداك معهد ديال واحد اللوبية العربية، استولوا عليه يعرضون فيه مايحلو لهم. منذ إنشائه، كم من دولة عربية مرت به؟ أخبرني! من هي الأسماء التي عرضت أعمالها هناك؟
-الكثير...
-أنتم ثلاثة أو أربعة تتداولون عليه في كل مناسبة. ينادى عليكم و المبيعات والأوطيل الرفيع بباريس ولكويسات والكتالوجات ووو. ألست على حق؟
-لأن. لنا أسماء بارزة كسبت شهرة عالمية.
-أنتم أسماء تخلدت في أجندة أصحابكم، من بيدهم أمور الفن في هذه البلاد، في الداخل والخارج. قلت عالمية! تنشرون أقمشتكم في حوانيت الأزقة الباريسة الضيقة، وتحسبون أنفسكم عالميين! ماذا أعطيتم للعالم حتى تصبحوا فنانين عالميين؟ إنه الغرور يأخي...
-يكفي أن لوحاتي تباع بأثمان جد مرتفعة.
-متى كان المال معيارا للفن؟ وهل العمل الفني الخالد يقاس بالدرهم والأورو حتى يرفعك إلى درجة العالمية؟
-آه، نعم.
-كلود مونيه لم يجد ما يشتري به جوربا لرجليه وأصبح عالميا، فان خوخ لم يبع شيئا في حياته وهو يتربع اليوم عرش العالمية، وغيرهم كثير. لم تخبرني عن أسلوبك الجديد؟
- أسلوبي بوست موديرن.
-ومتى كنت موديرن حتى تصبح Post؟ كنت تركب حروف عربية، تماشيا مع النزعة العراقية، ثم انتقلت فجأة إلى المنيمال آرت، تركب لوحات أحادية اللون والشكل، واليوم أصبحت بوست موديرن؟!
-هاديك مرحلة فات أوانها، مابقات واكلا والو اليوم.
-حين كنت مينيمال راك كنتي كتسبح في بحر البوست موديرن يأخي ولم تفطن. بطاقات تستوردونها وتلصقونها بظهوركم حتى تبرروا كينونتكم ووجودكم وأنتم في غياب تام عن مدلولاتها الأنطلوجية والجمالية. روح ياأخي ارسم ونظم معارضك حيث تحب، والجم لسانك، لكن اعلم انك لم تعط شيئا، ولن تصل أبدا إلى الكونية، وبعد وفاتك ستنتهي بالمرة ولن يتحدث عنك أحد. من يذكر اليوم الأموات: القاسمي، الادريسي، ميلود لبيض، فاطمة حسن... أي إعلام يحيي ذكراهم كما يحيون ذكرى مطربي الزلط؟

التقط سيمو لكرتيك فنجانه وأرخى ظهره مستسلما إلى عناق الأريكة الجلدية، ليريح ظهره من عناء الانحناء واللغط الذي لافائدة من ورائه. رشف رشفات طويلة من بيرته التي أخذت حقها من حماء البار، وهو يرمي جليسه قلب لمين بنظرات تنبعث من عينين ضيقتين، مشتعلتين وكأنه يتشفى منه. قلب لمين الفنان البوست مودرن غير مبال أصلا بتواجد لكرتيك، ففرط أنانيته وغروره الشديد لن يسمحا له بمحاورته لولا مشروب الرايخستاگ الذي كان مفعوله قويا هذه الليلة. قلب لمين يعتبر لكرتيك كرتيكا من الدرجة الثالثة ويعد خطبه الفنية المنشورة صباح كل جمعة على صفحة لوبوان اليومية، فارغة من كل جمال وجمالية، باستثناء شحنتها اللغوية الطوطولوجية، وزوغان مفرداتها، التي كلما أطلقها تجدها تتكربع بين السطور وتتشبث بكل شيء إلا بمكدم حبل التشكيل والجمالية المستعصيان عليها.
قذف عبدلي دخانا كثيفا من بيبته الماگريتية وبات يتنصت لصمت لف أوتار حلقه طيلة المحاورة. وبعد استنشاق وزفير، التفت نحو لكرتيك وسأله:
-مارأيك في أعمالي، انا لا أدعي أني بوست مودرن ولا كلاسيكي ولا هم يحزنون.
امتص الصمت الرمادي صدى كلمات عبدلي وقذف بها في غوغاء الصالون الهائجة، التي لم يتبين منها سوى صوت قلب لمين تزفه ضحكات خفيفة إلى عبدلي:
-مالك خايف أخاي، قل له أنك حتى انت بوست مودرن، بالفور يالشفور. بالفخر تكون post في هذه الأيام.
تابع عبدلي عرض حكاية مشروعه الفني المستقبلي مائلا بكل ثقله نحو لكرتيك:
-سيكون عملي القادم مختلفا عما نراه حاليا، عمل فيه شوية فرجة وفن وفكاهة.
حدق لكرتيك في عينيه وهو يمضمض ما تبقى في فمه من عصير الشعير وبعد أن جرع أرياقه، بادره بقوله:
-جيد... نحن في حاجة ماسة إلى الجديد، المختلف عما نراه، سواء هنا أو هناك، ما هو موضوعك الذي تشتغل عليه؟
-أنوي تقديم hommage à Beuys ،جوزيف بويز، لعلك تعرفه؟
بقي لكرتيك صامتا لمدة وهو ينظر إليه، ثم خاطبه مستفسرا:
- كيف سيكون هذا العمل؟ أفدني.
-سيكون على شكل بيرفورمانس Performance، سأركب بيسيكليت وأطوف بها على سبورة كبيرة منشورة على الأرض، لمدة زمنية أحددها، وقبل كل طواف أمرغ عجلتي الدراجة في الجبص.
-وما الهدف من ذلك؟
-كلما طفت، تشكلت أثار العجلتين على السبورة فتتركان رسومات جميلة.
رفع لكرتيك حاجبيه وعيناه تخترقان وجه عبدلي الذي ارتسمت عليه ابتسامة خفيفة تنتظر تفاعلات جلسائه. بقي الثلاثة يتبادلان النظرات متشوقين إلى سماع مزيد من الحكي، ثم التفت لمين إلى عبدلي وسأله:
- حكاية جميلة لكني لا أرى علاقة كل هذا بالفنان جوزيف بويز.
كشف عبدلي عن ابتسامة خبيثة ورد عليه:
- هنا بينت راك ماعارف والو في الفن المعاصر. بويز فنان ألماني عرف باشتغاله على لبرفورمانس والأنستلسيون وال éphémère.
- نعم، نعم وسبق له أن عرض نفسه داخل غرفة بصحبة ذئب، وعرض سبورة وطبشورة، اعرف كل هذا.
رد عليه عبدلي ونبرات صوته تتقاذفها تأتأة خفيفة، وقد ركبت صفحة وجهه شحوبة اختلطتها حمرة:
- لم أعلم أنه عرض سبورة وطبشورة.
- ههه... تنوي تقديم تكريم لفنان غربي وأنت لا تعرفه حق المعرفة؟ غريب أمركم...
قبل أن يرد عليه، خفتت أنوار الصالون وتقدم نحوهم النادل، وبخفة يد جعل الكؤوس تقفز إلى صحنه ثم انحنى يشطب سطح الطاولة بمنديله، وهو يخبرهم أن ساعة الإغلاق دقت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق