قراءة في كتاب التجليات للروائي المصري قامة من وطني القاص / جمال الغيطاني
_____________________________________________
من مجلة انسانيات الجزائرية
________________
هذه المتفاعلات النّصية أو ما يمكن أن يسمّى أيضا بالمتناصات، قد تكون تراثية كما قد تكون حديثة ومعاصرة، عربية أو أجنبية، تتفاعل فيها الآثار الدينية مع التاريخية مع الأدبية فضلا عن الشعبية، ممّا قد يشكّل شبكة تلتقي فيها نصوص عديدة مستمدّة من ذاكرة الروائي ومخزونة حيث يختلط القديم بالحديث والأدبي بغير الأدبي، واليومي بالتراثي أو الخاص بالعام والذاتي بالموضوعي، إلى درجة يصعب فيها تحديد مصادر كل النصوص المقتبسة8،وهو ما يمكن تلمّسه والوقوف عليه في نص"كتاب التجليات،الأسفار الثلاثة" للغيطاني، الذي يبدو أنه يحتشد بتفاعلات نصية متنوّعة المصادر والأشكال يتداخل فيها الشعري مع النثري،والعتيق مع المعاصر، واليومي مع التاريخي، والواقعي مع المتخيل و العجائبي، والأدبي مع غيره، والدّيني مع الصوفي، وغيرها من المتفاعلات التي حاول الروائي أن يستوحيها ويغذّي من خلالها الأنساقَ والرؤى الروائية بمؤونة سردية ذات خصوبة وثراء بالغين، ما يعمل على مضاعفة الطاقة الحكائية وشدّ أحداث الرواية ضمن فضاء متحرّك ومتداخل الأشكال والوظائف، كما أنه حاول أن يستثمرها من خلال تكسير النّمط الفني المغلق، وجعله مفتوحا على شكل هجين يتحاور مع أساليب فنية متعدّدة، ليقوم بتنقيحها حينا واستنساخها أو إعادة صياغتها ثمّ معارضتها والتناص معها حينا آخر.
أنّ الفعل الصّوفي يمضي بعيدا في كتاب التجليات بأسفاره الثلاثة عبرَ لغة الكشف والاكتشاف والغوص في المجهول والانخراط في عالم روحاني عجائبي، ويتجلى ذلك بشكل واضح من خلال الهاجس الصوفي الذي يغلف كافة لغة التجربة الروحانية التي يعايشها السارد أو البطل بضمير المتكلم طيلة الرحلة المعراجية الخيالية التي تقوده نحو عالم سماوي غيبي، وهو معراج شبيه بالمعراج الروحي لدى المتصوّفة، وتكون الرحلة على شكل رؤيا لا تخلو من سمات الحلم والمشي في الهواء، وهي إحدى الكرامات في الثقافة الصوفية فيرحل الراوي في هذا المعراج الخيالي متنقلا خارج واقعه الأرضي المادي المحصور بقيود الزمن والمكان،
وقد تشرّب النص عناصر وإشراقات اللغة الصوفية بالتفعيل والمحاورة، متقمّصا الرؤيا الصّوفية التي تأخذ شيئا من حلم النوم والبعض الآخر من حلم اليقظة، ليتيح حرية الحركة في التنقل بين الأزمنة والشخوص والأشياء والموجودات، فالرؤيا في العرف الصوفي هي أن يخلق الله في قلب النائم ما يخلق في قلب اليقظان، بحيث تنبثق لدى المتصوفة في الغالب إمّا من الرؤيا المنامية أو الإلهام أو من خلال صوت الهاتف10، فيلجأ حينئذ المتصوّف العارف الذي منّ الله تعالى عليه بذلك، بكل توقان إلى سرد هذه الكرامة، وقد كان السّارد في بداية عروجه قد تمثل هذا النوع من الرؤيا الصوفية في قوله" وفجأة عند ساعة يتقرّر فيها الفجر صاح بي الهاتف الخفي..يا جمال"11، وفي قوله أيضا".. عند اللحظة التي يتقرر فيها الفجر وليال عشر، خفق قلبي في صدري خفقة كاد ينخلع منها؛هلعت، ولم أر نفسي، إن الإنسان كان هلوعا، خاصة إذا جاءه الهاتف الذي لا يأتي إلا في اللحظات الجسام، لينبئ بالجلل من الأمور، أو لينذر بأمر عظيم، لكنه لا يبوح، لا يفصح"12، أو في قوله"تجلّ وتجلّ، إن النائم يرى ما لا يراه اليقظان"13.
7لقد حدت متعةُ الحكي بالمتصوّف/ السارد(الرائي) الذي يرى حلما في نومه إلى أن يتوّل إلى راو يقوم بقصّ ما رآه في منامه، ومن ثمّ تتحول الرؤيا إلى نص يُحكى يعمد فيه الراوي إلى سرد ما رآه، دون أن يكلف نفسه مشقة التنسيق إذا افتقد النظام أوالزيادة أو النقصان14، ومنه تكون الرؤيا حافزا سرديا للتواصل مع الغير، وهي حالة من حالات الوجد الصوفي، المعبّر عنه في التجربة الصوفية بالشطح بحيث إن العارف حين دخوله في المعرفة، تكون علامته الأولى في ذلك ما يعرف بالشطح، ومن لم يبلغ مرتبة الشطح لا يصحّ أن يسلك في عداد العارفين الحقيقيين15.
21 الرواية، ص. 379 .
10بمعنى أنّه إذا كان النّصُ الروائي هنا رؤية أدبية وفنية، فهي تمتزج من وجه آخر بالرؤيا الصوفية التي اتخذت من المعراج ولو على المستوى الأفقي- أي ليس صعودا من سماء إلى سماء كما في العروج الصوفي بل في فضاء الأرض- أسلوبا رمزيا في حركة السّارد وترحاله الصوفي، مثله مثل الساّلك لدى الصوفيين الذي يسافر من أجل امتلاك حقيقة الإنسان الكامل أو الوصول إلى الحقيقة والمطلق، ولكنّه يستعين في ذلك بمعرفة المفاهيم والمعاني الصّوّفية لتُعينه على امتلاك قبس المعرفة الإشراقية، وترشده في سفره الوجداني نحو التجليات الربّانية، ويمكن التدليل على حركة الرؤيا والعروج بقول السارد في جوّ صوفي خيالي يثير الدّهشة والغرابة "رأيت يد الشيخ الغريب تشير إلى بداية قوس قزح التي تكاد تلامس الأرض، فسلمت سلام المقبل على رحيل طويل ولا يدري من أمره شيئا، ثمّ لامست بقدمي بداية ألوان الطيف، وبسرعة بدأت ارتقي، وقبل أن يرتدّ إلي طرفي كنت أمضي صعدا في الفراغ..."21.
11على هذا النحو تنحو رواية التجليات نحوا رؤيويا صوفيا في إطارها العام، من خلال تشرّبها الأسلوب الصّوفي ومناصاته، وتمثّل العديد من مصطلحاته ومفاهيمه، انطلاقا من مصطلحين رئيسين في النص وهما السّفر والتجلي اللذين يشكلان منذ العنوان أقنومين صوفيين في بنية النص، وقد انقسم العمل الروائي في مجمله إلى تجليات وأسفار ومقامات ثمّ أحوال، وأمّا التجلي فيعرف لدى الصوفيين بأنه "ما يتكشف للقلوب من أنوار الغيوب"22،ثمّ السفر الذي يعتبر هو الآخر" سرّ القلب عند أخذه في التوجه إلى الحق بالذكر"23، ويبدو أنّ حقيقة الأسفار في العرف الصوفي عددها أربعة وليست ثلاثة كما جاء في الرواية ولعلّ ذلك كان إغفالا قصديا من الروائي حين جعل الرّحلة المعراجية تقوم على ثلاثة أسفار دون رابع لها، وهو ما قد يفسّره فشل بطله الروائي من بلوغه مراده وهو التجلي، حيث لم يستطع الامتثال لأوامر الديوان البهيّ، فضربت عليه الحجبة الإنسانية، فحُرم من بغيته، وبالتالي لم يحقق من معراجه هذا النتائج التي يصبو إليها السالكون عادة عبر هذه الأسفار في نهاية المطاف"عند هذا الحدّ اضطرّ إلى التوقف، فلم يكن بوسعي إلا الامتثال، بعد أن بدأت صيرورتي تلقى ما لا قبل لي بوصفه أو التعبير عنه، لذا أنهي هذا السفر على غير رغبة مني، أما إذا سنحت الفرصة وسمحت الوسيلة فربما جمعت ما تبدّد، ولملمت ما تشظّى، علّي أصوغ يوما القولَ والمخاطبات والسرائر فيتكشف من السرّ قدر جلل"24، غير أنّ ابن عربي يرى أنّ الأسفار ثلاثة وذلك في قوله "أمّا بعد فإنّ الأسفار ثلاثة لا رابع لها أثبتها الحق عزّ وجلّ وهي سفر من عنده وسفر إليه وسفر فيه..."25، وهو ما يمكن أن يطرح فرضية أخرى إضافة إلى الفرضية السّابقة، في اصطناع الروائي عنوان نصه من حيث اختيارُ العدد ثلاثة للأسفار تأثرا بتحديد الشيخ إبن عربي وتناصه معه دون غيره.
أمّا المقام فيعرّف في الاصطلاح الصّوفي على أنّه "ما يقوم به العبد بين يدي الله عزّوجلّ بالمجاهدات والرياضات والعبادات، ولا يرتقي منه إلى غيره ما لم يستوف أحكام المقام السابق"26، وهو يتّصف عكس"الحال" بالثبات والرّسوخ، فالحال قابل للتغيير والانتقال ويقصد به"معنى يرد على القلب من غير تصنّع ولا اجتلاب ولا اكتساب من طرب أو حزن أو قبض، أو بسط، أو هيبة، ويزول بظهور صفات النّفس، سواء يعقبُه المثل أولا، فإذا دام وصار ملكا يسمّى مقاما، فالأحوال مواهب، والمقامات مكاسب، والأحوال تأتي من عين الجود، والمقامات تحصل ببذل المجهود"27.
28 الغيطاني، جمال، "التناص، تفاعلية النصوص، أجرى الحوار سيزا قاسم"، مجلة ألف، ع4، القاهرة، 1984، ينظر (...)
13تأسيسا على هذه المعاني والتعاريف لبعض مصطلحات الرواية الرّئيسة، قد يسوّغ إمكانية إدراج أحداث هذه الرواية ضمن فضاء ديني متخيّل، يهيمن عليه الجوّ الصوّفي بكلّ إيحاءاته وشطحاته، حيث تتقاطع أنفاس وتجارب الصوّفيين اللامعين بكلّ محمولاتها اللفظية والدلالية الوجدانية، لعلّ من أبرزها تجربة "محي الدين بن عربي" الذي تتجلى بصماته في النصّ بشكل بارز فتفيض لغتُه ونصوصُه في الرواية بل تكاد تكتسح أجزاءها، ممّا ينبئ بحضوره الوجداني في مخيّلة الروائي ومدى منحه مساحة كبيرة لآلية التناص معه، وهو ما يزكيه صاحب النص في بعض أقواله مثل قوله" في نهاية السبعينات كنت أقترب من (الفتوحات المكيّة) للشيخ ابن عربي، كنت اتطلع إليه دائما وأتساءل عمّا يمكن أن يحويه هذا الكتاب الضخم؟ بدأت أقرأه بالفعل مستعينا بمؤلفات أخرى لمعاصرين أو مستشرقين للنفاذ إلى أسراره"28.
4. استلهام تجربة الصوفي"ابن عربي" في "كتاب التجليات..."
14لقد حاول الروائيُّ أن يستوحيَ فكرة الرواية وموضوعها من خلال تجربة ابن عربي وخصوصيتها، غير أنّ البنية العامّة لتصوّر الرحلة وأطوارها وما تضمنته من أحداث وتداعيات، هو ما قد يختلف فيه الروائي عن المتأثر به والمقبوس منه، حين يذهب إلى مبدأ الاستيحاء والاستلهام لا يعني بالضرورة التماثل والاستنساخ، بل إن بنية نص"كتاب التجليات" هي بنية أخرى مستقلة ذات قسمات مختلفة وتنفرد بهويتها الخاصة في مثل قوله"..استوحيت الفكرة من ابن عربي، ومازلت مصرّا على أنّ هذا الابن (التجليات) لا يشبه أباه في شيء"29، ما قد يعني أنّ تجليات الغيطاني التي حملت الرواية اسمها، هي تجليات ذات طابع خاص، تستمدّ مرتكزاتها ومعانيها من التجربة الصوفية التي تقوم على محور خيالي يعتمد على الذهن مثلما فعل المتصوّف"ابن عربي" حين أمعن في قراءة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم، لكي تنشط المخيلة لديه فيتصوّر إسراء ومعراجا ذاتيين ينهضان على تخيلات ذهنية محضة بل في الواقع هي أكثر من معراج وإسراء30، ويأخذ ابن عربي خصوصيته وموقعه المتميّز في كتاب التجليات من حيثُ درجة الاستلهام والتناص،لا سيّما من خلال حضور قوي لظلال كتابيه الرّئيسين وهما "الفتوحات المكية"، و"كتاب الإسرا إلى مقام الأسرى"، وما يمثّلانه من تجربة الرّحلة والمعراج في الثقافة الصّوفية.
15وقد اهتمّ المتصوّفة جميعُهم بدءا من أبي يزيد البسطامي"طيفور بن عيسى" بفكرة المعراج الروحاني إلى عالم سماوي شفاف، ويكون ذلك غالبا في إطار رؤيا مناميّة فينتقل من يسمّى بالسالك في العرف الصّوفي من مرحلة إلى أخرى، ويرتقي من مقام إلى غيره طمعا في النّظر إلى وجه الخالق، محاكاة لعروج الرسول- ص- ومشاهداته ورؤاه الغيبية، اعتقادا من هؤلاء الصّوفيين بأنّ العروج إلى السّماء ومشاهدة الحق الذي اختصّ به النبيّ (ص) يمكن أن ينسحب على بعض الأولياء حيث تختصر آداب السلوك الصوفي، وتتحوّل من بعد ذلك إلى قصة رمزية يعبّر فيها (المتصوف السالك) عن هواجسه، مثلما هو الشأن في قصة"ابن عربي" التي أسماها "كتاب الاسرا إلى مقام الأسرى" حيث يصوّر فيها عروج الروح من عالم الكون إلى عالم الأزل31، وهي القصّة التي تأثر بها جمال الغيطاني وحاول محاكاتها في"كتاب التجليات" متّخذا شكلها السّردي منوالا لأحداث الرواية، وقد نلفي في هذا السياق ذلك التناص الجلي بين الصياغتين حين يلجأ الروائي إلى استلهام سمت صياغة ابن عربي، في التعبير عن بنية الرّحلة الرّمزية للراوي (البطل) في تجربته الروحية، إذ يقول الشيخ ابن عربي في قصة معراجه "قال السالك: خرجت من بلاد الأندلس، أريد بيت المقدس، وقد اتخذت الإسلام جوادا، والمجاهدة مهادا، والتوكل زادا، وسرتُ على سواء الطريق، أبحث عن أهل الوجود والتحقيق، رجاء أتبرز في صدر ذلك الفريق"32، وهو ما قد يحاكيه نص"كتاب التجليات" في قول صاحبه"سريت في النور الأخضر، في زمن الزهور المرجوّ، فرأيت نفسي أخرج من مدينة رباط الجميل عند شاطئ المحيط، أرحل وأعبر الحدود بال رادّ أو مانع"33، ويقول إبن عربي أيضا في وصف طريق السّلوك والرّحلة، وما تختصّ به من مشاقّ وعوارض"فلم أزل أصحب الرّفاق، وأجوب الآفاق، وأعمل الركاب وأقطع اليباب، وامتطي اليعملات، وتسري ببساطي الذاريات، وأركب البحار وأخرق الحجب والأستار، في طلب علة الصّورة الشريفة34 وهي صورة قصصية يعمد الناصّ إلى استنساخها أو على الأقل استلهامها ولو رمزيا في قوله " بعد طول انتظاري لعلّ وعسى، بعد هيهات قررت الخوض في بحر البداية لم أخش الطرق، ولم أهب البلل، أبحرت وطال إبحاري لقطع المسافات في البحر زمن يخالف زمن البرّ"35.
... ما وراءك ياجمال قلت: وجود محدود، ورغبة في وجود غير محدود.. قالت: ما الذي دعاك إلى الخروج؟ قلت حيرتي، وألمي ورغبتي في الولوج"36، والذي يتناصّ فيه مع نص إبن عربي صياغة وتركيبا، حين يقول: قال السّالك، فلقيت بالجدول المعين، وينبوع أرين، فتى روحاني الذات، ربّاني الصّفات، يومئ إليّ بالالتفات فقلت: ما وراءك يا عصام، قال: وجود ليس له انصرام، قلت: من أين وضح الرّاكب، قال : من عند رأس الحاجب، قلت له: ما الذي دعاك إلى الخروج، قال: الذي دعاك إلى طلب الولوج، قلت له: أنا طالب مفقود، قال : وأنا داع إلى الوجود"37.
19كما يمكن الوقوف على متناص آخر يرد هو الآخر مستنسخا، من حيث اللفظ والسّياق وحتى فيما يخصّ وضع تسمية للمقام المراد، وذلك في قول الروائي" يقول لي: اعلم أنني دخلت مقام القربى مثلك، في شهر محرم سنة سبع وتسعين وخمسمائة وأنا مسافر ببلاد المغرب، فتهت به فرحا، ولم أجد فيه من أحد، فاستوحشت من الوحدة وتذكرت دخول أبي يزيد بالذلة والافتقار، فلم يجد فيه من أحد، وهذا المنزل هو موطني فلم استوحش فيه لأنّ الحنين إلى الأوطان ذاتي لكل موجود وأنّ الوحشة مع الغربة..."39، وهو النّص عينه الذي يوجد ضمن نصوص إبن عربي، فيستلهمه ويدرجه في أحد سياقات النص الروائي وتحديدا في مقام الحزن، ليعبّر به عن إحدى دلالات حالة الحزن والغربة التي أصابت السّارد بعد أن صارت رأسه طافية محزوزة لا يدري إلى أين يتّجه وكيف يصنع في وحدته، أمّا النص الذي تناصّ معه تناصا يكاد يكون تامّا لولا بعض الجمل المحذوفة، فهو في قول ابن عربي" هذا المقام دخلته في شهر محرّم سنة سبع وتسعين وخمسمائة وأنا مسافر ببلاد المغرب، فتهت به فرحا، ولم أجد فيه أحدا، فاستوحشت من الوحدة، وتذكرت دخول أبي يزيد بالذلة والافتقار فلم يجد في ذلك المنزل من أحدا، وذلك المنزل هو موطني فلم استوحش فيه لأنّ الحنين إلى الأوطان ذاتي لكل موجود، وأنّ الوحشة مع الغربة..."40.
20إذن يزخر جسدُ النص الروائي بلغة الفيض الصّوفي، فتتدفّق النّصوص الصّوفية المستلهمة بشكل ملفت للنظر، وتتساكن في حالة تعالق وعناق، متلبّسة بالنسيج السّردي لتتحوّل إلى مكوّن حيوي مفتوح على أفق دلالي عرفاني ورؤيوي، قد يعكس القاعدة الاستلهامية للروائي في تشكيل البنية الحكائية واللغوية، وتخصيبها بشبكة واسعة من النصوص الصوفية التي جاء بعضها مندغما داخل الفضاء السّردي، ممتزجا بلغة النصّ الأصلي، اعتمد فيها الروائي على تقنية الاستنساخ تارة والاستيعاب تارة أخرى بشيء من التعديل والتصرّف الجزئيين، أمّا بعضها الآخر فجاء إما على شكل نصوص مستقلة وكأنّها بنيات نصية موضوعة للتعلم والإيحاء، فجعل لأكثرها عناوين تدلّ عليها من مصطلحات صوفية، ولكنه مال فيها غالبا إلى أسلوب الاستلهام والتفاعل مع النص السّابق (المقتبس) في صياغة شبه جديدة مع المحافظة على الدلالة ذاتها، أو في استدعاء هذا النوع من التناص في اقتباسات مستقلّة، تبدو وكأنّها لا تنتمي إلى سيرورة الحدث الروائي العام، بل هي بمثابة العتبات التي تحيل على أحوال السارد والسّالك في رحلته الروحية.
6. أشكال المتناصات في الرواية
41 الرواية، ص. 12.
42 ابن عربي: الفتوحات المكية...، ج 4، ص.225، وينظر رسائل ابن عربي، ص.123.
43 الرواية: ص.30.
44 ديوان الحلاج ومعه أخبار الحلاج وكتاب الطواسين، وضع حواشيه وعلق عليه محمد باسل عيون السود، ط2، دار ا (...)
45 الرواية: ص.45.
46 ابن عربي، الفتوحات المكية، ج6، ص.99.
47 الرواية، ص.45.
48 ابن عربي، الفتوحات المكية ، ج1، ص.254.
21تقتطع المتناصات القصيرة هي الأخرى مثل الطويلة مساحة كبيرة في بنية النصّ، إلى الدرجة التي يمكن فيها اعتبارها أنموذجا تشكيليا وفنيا متميّزا في هذا الإطار، ولعلّ استدعاءها كلها في هذا المقام أمر ليس ميسورا وربّما ليس مستساغا بالنظر إلى حجمها ومواطنها العديدة، ولكن بغية إعطاء صورة واضحة عن ذلك نورد هنا بعض الأمثلة بشكليهما الحرفي والجزئي، وذلك مثل" ولمّا بدا الكون الغريب لناظري، حننت إلى الأوطان حنين الركائب"41، وهو بيت مقتبس من نصوص ابن عربي مع وجود بعض الاختلاف في لفظة"حنين" التي وردت في الأصل "حنّ" وكذا عبارة" لمّا" جاءت في موضع هكذا، وفي موضع آخر"إذا ما"42، أو في مثل قول الروائي" إنّ المطلب وعر والمبغى عسير"43، وهي عبارة تبدو متناصة مع قول الحلاج في شعره" "حقيقة الحق قد تجلت... مطلب من رامها
وهيبة مح_____________________________________________
من مجلة انسانيات الجزائرية
________________
هذه المتفاعلات النّصية أو ما يمكن أن يسمّى أيضا بالمتناصات، قد تكون تراثية كما قد تكون حديثة ومعاصرة، عربية أو أجنبية، تتفاعل فيها الآثار الدينية مع التاريخية مع الأدبية فضلا عن الشعبية، ممّا قد يشكّل شبكة تلتقي فيها نصوص عديدة مستمدّة من ذاكرة الروائي ومخزونة حيث يختلط القديم بالحديث والأدبي بغير الأدبي، واليومي بالتراثي أو الخاص بالعام والذاتي بالموضوعي، إلى درجة يصعب فيها تحديد مصادر كل النصوص المقتبسة8،وهو ما يمكن تلمّسه والوقوف عليه في نص"كتاب التجليات،الأسفار الثلاثة" للغيطاني، الذي يبدو أنه يحتشد بتفاعلات نصية متنوّعة المصادر والأشكال يتداخل فيها الشعري مع النثري،والعتيق مع المعاصر، واليومي مع التاريخي، والواقعي مع المتخيل و العجائبي، والأدبي مع غيره، والدّيني مع الصوفي، وغيرها من المتفاعلات التي حاول الروائي أن يستوحيها ويغذّي من خلالها الأنساقَ والرؤى الروائية بمؤونة سردية ذات خصوبة وثراء بالغين، ما يعمل على مضاعفة الطاقة الحكائية وشدّ أحداث الرواية ضمن فضاء متحرّك ومتداخل الأشكال والوظائف، كما أنه حاول أن يستثمرها من خلال تكسير النّمط الفني المغلق، وجعله مفتوحا على شكل هجين يتحاور مع أساليب فنية متعدّدة، ليقوم بتنقيحها حينا واستنساخها أو إعادة صياغتها ثمّ معارضتها والتناص معها حينا آخر.
أنّ الفعل الصّوفي يمضي بعيدا في كتاب التجليات بأسفاره الثلاثة عبرَ لغة الكشف والاكتشاف والغوص في المجهول والانخراط في عالم روحاني عجائبي، ويتجلى ذلك بشكل واضح من خلال الهاجس الصوفي الذي يغلف كافة لغة التجربة الروحانية التي يعايشها السارد أو البطل بضمير المتكلم طيلة الرحلة المعراجية الخيالية التي تقوده نحو عالم سماوي غيبي، وهو معراج شبيه بالمعراج الروحي لدى المتصوّفة، وتكون الرحلة على شكل رؤيا لا تخلو من سمات الحلم والمشي في الهواء، وهي إحدى الكرامات في الثقافة الصوفية فيرحل الراوي في هذا المعراج الخيالي متنقلا خارج واقعه الأرضي المادي المحصور بقيود الزمن والمكان،
وقد تشرّب النص عناصر وإشراقات اللغة الصوفية بالتفعيل والمحاورة، متقمّصا الرؤيا الصّوفية التي تأخذ شيئا من حلم النوم والبعض الآخر من حلم اليقظة، ليتيح حرية الحركة في التنقل بين الأزمنة والشخوص والأشياء والموجودات، فالرؤيا في العرف الصوفي هي أن يخلق الله في قلب النائم ما يخلق في قلب اليقظان، بحيث تنبثق لدى المتصوفة في الغالب إمّا من الرؤيا المنامية أو الإلهام أو من خلال صوت الهاتف10، فيلجأ حينئذ المتصوّف العارف الذي منّ الله تعالى عليه بذلك، بكل توقان إلى سرد هذه الكرامة، وقد كان السّارد في بداية عروجه قد تمثل هذا النوع من الرؤيا الصوفية في قوله" وفجأة عند ساعة يتقرّر فيها الفجر صاح بي الهاتف الخفي..يا جمال"11، وفي قوله أيضا".. عند اللحظة التي يتقرر فيها الفجر وليال عشر، خفق قلبي في صدري خفقة كاد ينخلع منها؛هلعت، ولم أر نفسي، إن الإنسان كان هلوعا، خاصة إذا جاءه الهاتف الذي لا يأتي إلا في اللحظات الجسام، لينبئ بالجلل من الأمور، أو لينذر بأمر عظيم، لكنه لا يبوح، لا يفصح"12، أو في قوله"تجلّ وتجلّ، إن النائم يرى ما لا يراه اليقظان"13.
7لقد حدت متعةُ الحكي بالمتصوّف/ السارد(الرائي) الذي يرى حلما في نومه إلى أن يتوّل إلى راو يقوم بقصّ ما رآه في منامه، ومن ثمّ تتحول الرؤيا إلى نص يُحكى يعمد فيه الراوي إلى سرد ما رآه، دون أن يكلف نفسه مشقة التنسيق إذا افتقد النظام أوالزيادة أو النقصان14، ومنه تكون الرؤيا حافزا سرديا للتواصل مع الغير، وهي حالة من حالات الوجد الصوفي، المعبّر عنه في التجربة الصوفية بالشطح بحيث إن العارف حين دخوله في المعرفة، تكون علامته الأولى في ذلك ما يعرف بالشطح، ومن لم يبلغ مرتبة الشطح لا يصحّ أن يسلك في عداد العارفين الحقيقيين15.
21 الرواية، ص. 379 .
10بمعنى أنّه إذا كان النّصُ الروائي هنا رؤية أدبية وفنية، فهي تمتزج من وجه آخر بالرؤيا الصوفية التي اتخذت من المعراج ولو على المستوى الأفقي- أي ليس صعودا من سماء إلى سماء كما في العروج الصوفي بل في فضاء الأرض- أسلوبا رمزيا في حركة السّارد وترحاله الصوفي، مثله مثل الساّلك لدى الصوفيين الذي يسافر من أجل امتلاك حقيقة الإنسان الكامل أو الوصول إلى الحقيقة والمطلق، ولكنّه يستعين في ذلك بمعرفة المفاهيم والمعاني الصّوّفية لتُعينه على امتلاك قبس المعرفة الإشراقية، وترشده في سفره الوجداني نحو التجليات الربّانية، ويمكن التدليل على حركة الرؤيا والعروج بقول السارد في جوّ صوفي خيالي يثير الدّهشة والغرابة "رأيت يد الشيخ الغريب تشير إلى بداية قوس قزح التي تكاد تلامس الأرض، فسلمت سلام المقبل على رحيل طويل ولا يدري من أمره شيئا، ثمّ لامست بقدمي بداية ألوان الطيف، وبسرعة بدأت ارتقي، وقبل أن يرتدّ إلي طرفي كنت أمضي صعدا في الفراغ..."21.
11على هذا النحو تنحو رواية التجليات نحوا رؤيويا صوفيا في إطارها العام، من خلال تشرّبها الأسلوب الصّوفي ومناصاته، وتمثّل العديد من مصطلحاته ومفاهيمه، انطلاقا من مصطلحين رئيسين في النص وهما السّفر والتجلي اللذين يشكلان منذ العنوان أقنومين صوفيين في بنية النص، وقد انقسم العمل الروائي في مجمله إلى تجليات وأسفار ومقامات ثمّ أحوال، وأمّا التجلي فيعرف لدى الصوفيين بأنه "ما يتكشف للقلوب من أنوار الغيوب"22،ثمّ السفر الذي يعتبر هو الآخر" سرّ القلب عند أخذه في التوجه إلى الحق بالذكر"23، ويبدو أنّ حقيقة الأسفار في العرف الصوفي عددها أربعة وليست ثلاثة كما جاء في الرواية ولعلّ ذلك كان إغفالا قصديا من الروائي حين جعل الرّحلة المعراجية تقوم على ثلاثة أسفار دون رابع لها، وهو ما قد يفسّره فشل بطله الروائي من بلوغه مراده وهو التجلي، حيث لم يستطع الامتثال لأوامر الديوان البهيّ، فضربت عليه الحجبة الإنسانية، فحُرم من بغيته، وبالتالي لم يحقق من معراجه هذا النتائج التي يصبو إليها السالكون عادة عبر هذه الأسفار في نهاية المطاف"عند هذا الحدّ اضطرّ إلى التوقف، فلم يكن بوسعي إلا الامتثال، بعد أن بدأت صيرورتي تلقى ما لا قبل لي بوصفه أو التعبير عنه، لذا أنهي هذا السفر على غير رغبة مني، أما إذا سنحت الفرصة وسمحت الوسيلة فربما جمعت ما تبدّد، ولملمت ما تشظّى، علّي أصوغ يوما القولَ والمخاطبات والسرائر فيتكشف من السرّ قدر جلل"24، غير أنّ ابن عربي يرى أنّ الأسفار ثلاثة وذلك في قوله "أمّا بعد فإنّ الأسفار ثلاثة لا رابع لها أثبتها الحق عزّ وجلّ وهي سفر من عنده وسفر إليه وسفر فيه..."25، وهو ما يمكن أن يطرح فرضية أخرى إضافة إلى الفرضية السّابقة، في اصطناع الروائي عنوان نصه من حيث اختيارُ العدد ثلاثة للأسفار تأثرا بتحديد الشيخ إبن عربي وتناصه معه دون غيره.
أمّا المقام فيعرّف في الاصطلاح الصّوفي على أنّه "ما يقوم به العبد بين يدي الله عزّوجلّ بالمجاهدات والرياضات والعبادات، ولا يرتقي منه إلى غيره ما لم يستوف أحكام المقام السابق"26، وهو يتّصف عكس"الحال" بالثبات والرّسوخ، فالحال قابل للتغيير والانتقال ويقصد به"معنى يرد على القلب من غير تصنّع ولا اجتلاب ولا اكتساب من طرب أو حزن أو قبض، أو بسط، أو هيبة، ويزول بظهور صفات النّفس، سواء يعقبُه المثل أولا، فإذا دام وصار ملكا يسمّى مقاما، فالأحوال مواهب، والمقامات مكاسب، والأحوال تأتي من عين الجود، والمقامات تحصل ببذل المجهود"27.
28 الغيطاني، جمال، "التناص، تفاعلية النصوص، أجرى الحوار سيزا قاسم"، مجلة ألف، ع4، القاهرة، 1984، ينظر (...)
13تأسيسا على هذه المعاني والتعاريف لبعض مصطلحات الرواية الرّئيسة، قد يسوّغ إمكانية إدراج أحداث هذه الرواية ضمن فضاء ديني متخيّل، يهيمن عليه الجوّ الصوّفي بكلّ إيحاءاته وشطحاته، حيث تتقاطع أنفاس وتجارب الصوّفيين اللامعين بكلّ محمولاتها اللفظية والدلالية الوجدانية، لعلّ من أبرزها تجربة "محي الدين بن عربي" الذي تتجلى بصماته في النصّ بشكل بارز فتفيض لغتُه ونصوصُه في الرواية بل تكاد تكتسح أجزاءها، ممّا ينبئ بحضوره الوجداني في مخيّلة الروائي ومدى منحه مساحة كبيرة لآلية التناص معه، وهو ما يزكيه صاحب النص في بعض أقواله مثل قوله" في نهاية السبعينات كنت أقترب من (الفتوحات المكيّة) للشيخ ابن عربي، كنت اتطلع إليه دائما وأتساءل عمّا يمكن أن يحويه هذا الكتاب الضخم؟ بدأت أقرأه بالفعل مستعينا بمؤلفات أخرى لمعاصرين أو مستشرقين للنفاذ إلى أسراره"28.
4. استلهام تجربة الصوفي"ابن عربي" في "كتاب التجليات..."
14لقد حاول الروائيُّ أن يستوحيَ فكرة الرواية وموضوعها من خلال تجربة ابن عربي وخصوصيتها، غير أنّ البنية العامّة لتصوّر الرحلة وأطوارها وما تضمنته من أحداث وتداعيات، هو ما قد يختلف فيه الروائي عن المتأثر به والمقبوس منه، حين يذهب إلى مبدأ الاستيحاء والاستلهام لا يعني بالضرورة التماثل والاستنساخ، بل إن بنية نص"كتاب التجليات" هي بنية أخرى مستقلة ذات قسمات مختلفة وتنفرد بهويتها الخاصة في مثل قوله"..استوحيت الفكرة من ابن عربي، ومازلت مصرّا على أنّ هذا الابن (التجليات) لا يشبه أباه في شيء"29، ما قد يعني أنّ تجليات الغيطاني التي حملت الرواية اسمها، هي تجليات ذات طابع خاص، تستمدّ مرتكزاتها ومعانيها من التجربة الصوفية التي تقوم على محور خيالي يعتمد على الذهن مثلما فعل المتصوّف"ابن عربي" حين أمعن في قراءة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم، لكي تنشط المخيلة لديه فيتصوّر إسراء ومعراجا ذاتيين ينهضان على تخيلات ذهنية محضة بل في الواقع هي أكثر من معراج وإسراء30، ويأخذ ابن عربي خصوصيته وموقعه المتميّز في كتاب التجليات من حيثُ درجة الاستلهام والتناص،لا سيّما من خلال حضور قوي لظلال كتابيه الرّئيسين وهما "الفتوحات المكية"، و"كتاب الإسرا إلى مقام الأسرى"، وما يمثّلانه من تجربة الرّحلة والمعراج في الثقافة الصّوفية.
15وقد اهتمّ المتصوّفة جميعُهم بدءا من أبي يزيد البسطامي"طيفور بن عيسى" بفكرة المعراج الروحاني إلى عالم سماوي شفاف، ويكون ذلك غالبا في إطار رؤيا مناميّة فينتقل من يسمّى بالسالك في العرف الصّوفي من مرحلة إلى أخرى، ويرتقي من مقام إلى غيره طمعا في النّظر إلى وجه الخالق، محاكاة لعروج الرسول- ص- ومشاهداته ورؤاه الغيبية، اعتقادا من هؤلاء الصّوفيين بأنّ العروج إلى السّماء ومشاهدة الحق الذي اختصّ به النبيّ (ص) يمكن أن ينسحب على بعض الأولياء حيث تختصر آداب السلوك الصوفي، وتتحوّل من بعد ذلك إلى قصة رمزية يعبّر فيها (المتصوف السالك) عن هواجسه، مثلما هو الشأن في قصة"ابن عربي" التي أسماها "كتاب الاسرا إلى مقام الأسرى" حيث يصوّر فيها عروج الروح من عالم الكون إلى عالم الأزل31، وهي القصّة التي تأثر بها جمال الغيطاني وحاول محاكاتها في"كتاب التجليات" متّخذا شكلها السّردي منوالا لأحداث الرواية، وقد نلفي في هذا السياق ذلك التناص الجلي بين الصياغتين حين يلجأ الروائي إلى استلهام سمت صياغة ابن عربي، في التعبير عن بنية الرّحلة الرّمزية للراوي (البطل) في تجربته الروحية، إذ يقول الشيخ ابن عربي في قصة معراجه "قال السالك: خرجت من بلاد الأندلس، أريد بيت المقدس، وقد اتخذت الإسلام جوادا، والمجاهدة مهادا، والتوكل زادا، وسرتُ على سواء الطريق، أبحث عن أهل الوجود والتحقيق، رجاء أتبرز في صدر ذلك الفريق"32، وهو ما قد يحاكيه نص"كتاب التجليات" في قول صاحبه"سريت في النور الأخضر، في زمن الزهور المرجوّ، فرأيت نفسي أخرج من مدينة رباط الجميل عند شاطئ المحيط، أرحل وأعبر الحدود بال رادّ أو مانع"33، ويقول إبن عربي أيضا في وصف طريق السّلوك والرّحلة، وما تختصّ به من مشاقّ وعوارض"فلم أزل أصحب الرّفاق، وأجوب الآفاق، وأعمل الركاب وأقطع اليباب، وامتطي اليعملات، وتسري ببساطي الذاريات، وأركب البحار وأخرق الحجب والأستار، في طلب علة الصّورة الشريفة34 وهي صورة قصصية يعمد الناصّ إلى استنساخها أو على الأقل استلهامها ولو رمزيا في قوله " بعد طول انتظاري لعلّ وعسى، بعد هيهات قررت الخوض في بحر البداية لم أخش الطرق، ولم أهب البلل، أبحرت وطال إبحاري لقطع المسافات في البحر زمن يخالف زمن البرّ"35.
... ما وراءك ياجمال قلت: وجود محدود، ورغبة في وجود غير محدود.. قالت: ما الذي دعاك إلى الخروج؟ قلت حيرتي، وألمي ورغبتي في الولوج"36، والذي يتناصّ فيه مع نص إبن عربي صياغة وتركيبا، حين يقول: قال السّالك، فلقيت بالجدول المعين، وينبوع أرين، فتى روحاني الذات، ربّاني الصّفات، يومئ إليّ بالالتفات فقلت: ما وراءك يا عصام، قال: وجود ليس له انصرام، قلت: من أين وضح الرّاكب، قال : من عند رأس الحاجب، قلت له: ما الذي دعاك إلى الخروج، قال: الذي دعاك إلى طلب الولوج، قلت له: أنا طالب مفقود، قال : وأنا داع إلى الوجود"37.
19كما يمكن الوقوف على متناص آخر يرد هو الآخر مستنسخا، من حيث اللفظ والسّياق وحتى فيما يخصّ وضع تسمية للمقام المراد، وذلك في قول الروائي" يقول لي: اعلم أنني دخلت مقام القربى مثلك، في شهر محرم سنة سبع وتسعين وخمسمائة وأنا مسافر ببلاد المغرب، فتهت به فرحا، ولم أجد فيه من أحد، فاستوحشت من الوحدة وتذكرت دخول أبي يزيد بالذلة والافتقار، فلم يجد فيه من أحد، وهذا المنزل هو موطني فلم استوحش فيه لأنّ الحنين إلى الأوطان ذاتي لكل موجود وأنّ الوحشة مع الغربة..."39، وهو النّص عينه الذي يوجد ضمن نصوص إبن عربي، فيستلهمه ويدرجه في أحد سياقات النص الروائي وتحديدا في مقام الحزن، ليعبّر به عن إحدى دلالات حالة الحزن والغربة التي أصابت السّارد بعد أن صارت رأسه طافية محزوزة لا يدري إلى أين يتّجه وكيف يصنع في وحدته، أمّا النص الذي تناصّ معه تناصا يكاد يكون تامّا لولا بعض الجمل المحذوفة، فهو في قول ابن عربي" هذا المقام دخلته في شهر محرّم سنة سبع وتسعين وخمسمائة وأنا مسافر ببلاد المغرب، فتهت به فرحا، ولم أجد فيه أحدا، فاستوحشت من الوحدة، وتذكرت دخول أبي يزيد بالذلة والافتقار فلم يجد في ذلك المنزل من أحدا، وذلك المنزل هو موطني فلم استوحش فيه لأنّ الحنين إلى الأوطان ذاتي لكل موجود، وأنّ الوحشة مع الغربة..."40.
20إذن يزخر جسدُ النص الروائي بلغة الفيض الصّوفي، فتتدفّق النّصوص الصّوفية المستلهمة بشكل ملفت للنظر، وتتساكن في حالة تعالق وعناق، متلبّسة بالنسيج السّردي لتتحوّل إلى مكوّن حيوي مفتوح على أفق دلالي عرفاني ورؤيوي، قد يعكس القاعدة الاستلهامية للروائي في تشكيل البنية الحكائية واللغوية، وتخصيبها بشبكة واسعة من النصوص الصوفية التي جاء بعضها مندغما داخل الفضاء السّردي، ممتزجا بلغة النصّ الأصلي، اعتمد فيها الروائي على تقنية الاستنساخ تارة والاستيعاب تارة أخرى بشيء من التعديل والتصرّف الجزئيين، أمّا بعضها الآخر فجاء إما على شكل نصوص مستقلة وكأنّها بنيات نصية موضوعة للتعلم والإيحاء، فجعل لأكثرها عناوين تدلّ عليها من مصطلحات صوفية، ولكنه مال فيها غالبا إلى أسلوب الاستلهام والتفاعل مع النص السّابق (المقتبس) في صياغة شبه جديدة مع المحافظة على الدلالة ذاتها، أو في استدعاء هذا النوع من التناص في اقتباسات مستقلّة، تبدو وكأنّها لا تنتمي إلى سيرورة الحدث الروائي العام، بل هي بمثابة العتبات التي تحيل على أحوال السارد والسّالك في رحلته الروحية.
6. أشكال المتناصات في الرواية
41 الرواية، ص. 12.
42 ابن عربي: الفتوحات المكية...، ج 4، ص.225، وينظر رسائل ابن عربي، ص.123.
43 الرواية: ص.30.
44 ديوان الحلاج ومعه أخبار الحلاج وكتاب الطواسين، وضع حواشيه وعلق عليه محمد باسل عيون السود، ط2، دار ا (...)
45 الرواية: ص.45.
46 ابن عربي، الفتوحات المكية، ج6، ص.99.
47 الرواية، ص.45.
48 ابن عربي، الفتوحات المكية ، ج1، ص.254.
21تقتطع المتناصات القصيرة هي الأخرى مثل الطويلة مساحة كبيرة في بنية النصّ، إلى الدرجة التي يمكن فيها اعتبارها أنموذجا تشكيليا وفنيا متميّزا في هذا الإطار، ولعلّ استدعاءها كلها في هذا المقام أمر ليس ميسورا وربّما ليس مستساغا بالنظر إلى حجمها ومواطنها العديدة، ولكن بغية إعطاء صورة واضحة عن ذلك نورد هنا بعض الأمثلة بشكليهما الحرفي والجزئي، وذلك مثل" ولمّا بدا الكون الغريب لناظري، حننت إلى الأوطان حنين الركائب"41، وهو بيت مقتبس من نصوص ابن عربي مع وجود بعض الاختلاف في لفظة"حنين" التي وردت في الأصل "حنّ" وكذا عبارة" لمّا" جاءت في موضع هكذا، وفي موضع آخر"إذا ما"42، أو في مثل قول الروائي" إنّ المطلب وعر والمبغى عسير"43، وهي عبارة تبدو متناصة مع قول الحلاج في شعره" "حقيقة الحق قد تجلت... مطلب من رامها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق