أمنية معلّم
حدّق بعينين وجلتين فيما تبقّى من رحلة العمر الضبابية، صامتاً، يمتطي أيام التقاعد الصمّاء، رحلة بدأت بوشوشة أمنية تطنّ في أذنيه، ترتدي حلّة طيف يرقص ثملاً عند أعتاب مملكته، يغازل رغبة زوجة مزيّنة بأحلام الطفولة، مسافراَ في منعطفات مهنة التعليم، أمنية سكنت في أعماق روحه، رغبة مضيئة تلهث بخطى الصبر والجدّ لأمتلاك قطعة أرض في وطن يمتدّ من البحر إلى نهاية الدنيا،
"سأشيّد داراً عليها، وأزرع فيها نخلة وأشجار البرتقال وأزيّنها بالورد والياسمين، ثم أنتظر من يطرق باب بيتي،كم جميل أن يصبح للمرء بيت يأويه"
كان يسير على أرصفة مكلّلة بباقات من الأشواك والانتظار، علّق كلّ تفاصيل حياته على جدران تلك الأمنية، حاملاً قلبه وحبّه لتلاميذه، منطلقاً صوب قناديل العلم، يبحث عن صدى حلم، يبدو له أنّه في متناول اليد. وفي تقلبات فصول الظلمة والخراب، توشّحت المدينة بأنفاس الحرب وأسطورة الموت، موت الأمنيات، يرافقه العوز والحرمان وغربة الأمكنة التي رافقته في اتّجاه منخور بعهر السياسة، لكنّه مازال يحلم بوطن مشمس، يراه كلّ يوم يهتف بالقرب فيبلغ حدّ النشوة، دار تتمطّى بعبق الورد وكركرات الاطفال، مطوّقة بظلال العشق وقيلولة ظهيرة صيف قائض، تمنحه بعض الدفء والسكينة.كان منهمكاً في لعبة محمومة، يراقصه سياج البيت أو نخلة زرعها بيديه، تكبر، ثم تكبر حتى تتسلّق المدى، عندها يقيم طقوسه البريئة تحت ظلّها،
"لابدّ أن يأتي ذلك اليوم، ها أنا أجمع المال لم يبقَ إلّا محطة انتظار عابرة وأسدل ستار الترحال والنزوح من بيت لآخر "
وكلّما اقترب من أمنيته يسمع خطى الزمن الموبوء بمرض التضخم، فيبتعد ذلك الحلم بعيداً محلّقاً بأجنحة السخرية، يلقي بين يديه هواجس القلق/الوحدة، تتبعثر أغصان أشجاره في غياهب الظنون، فيسخر مقابل ذلك كلّه من وطن لايأتي. ويظلّ في سفر يجتهد، يحتمي بنور نهار ملؤه الأمل ليشهد أول الفتوحات على يدين متوهجتين برعشة الإرادة، تتلألأ الشجون في خاطره مرّة بعد أخرى، يحلم بسحابة بيضاء تظلّل منعطفات الطريق، علّها تبدّد له مجاهل الخواء والخوف من العراء. حدّق مرّة أخرى بعينيه الوجلتين من المجهول فيما تبقّى من رحلة العمر، لا شيء غير وساوس تطارده، تنهش أفق رغباته، تنخر في ثقب خلّفته سنين عجاف، يركض مرتبكاً في فضاء عارٍ إلّا من بقايا دموع، غمرت وجه ستة عقود كسيرة من رحلته المطرّزة بألم الغربة والحيرة، تساءل بوجع يتيم لم يلتفت إليه أحد،
"ما بال هذا الشريد؟ وبم يفكر؟ والمدينة تبدي زينتها وبهاءها، تتّسع وتكبر، تتناسل بيوتاً واسعة،جميلة،حدائقها الغنّاء تعانق الرياح والأمطار والندى بلهفة مجنونة، تمنح الآخرين غبطة ورأفة بلا تمييز، وأنا أهرول في متاهات الوهم دون جدوى، أترى أن القدر يجهلني أم يتجاهلني؟"
تشاغل بعدّ أنفاسه المتبقية في ظلّ أمنية تدور في هدأة محطة اتّقاد يائسة، كان الأمل مشنوقاً بخيط اليأس، وبقايا عمر ينتظر قيامته. كفّن أتون الشقاء بنواح مجنّح لإطلالة عوالم مجهولة، لثم وجه السماء بعبير النجوى، فما كان من صدى أمنيته إلّا أن تلثغه بقبلاتها، يرنو ببصره إليها وفي دمه شوق يهفو لفيض صبابتها ، يدسّ تجاعيد العمر في جيبه، يسعى بفرح واشتهاء، تجرجره خطواته بخجل نحو ماضٍ يحضر في عين الأفق ضوءاً صارخاً بالأماني، لم يكن هناك مزاج التمايز في توالي الفصول، ولا طرقاً عاثرة بالخطوات. عدّ رصيده، قلّبه بين كفيه، كان المال كافياً لتحقيق أمنيته، وفي اليوم التالي كان فرحاً حين اشترى خمسة أمتار مربعة في مقبرة وادي السلام .
"سأشيّد داراً عليها، وأزرع فيها نخلة وأشجار البرتقال وأزيّنها بالورد والياسمين، ثم أنتظر من يطرق باب بيتي،كم جميل أن يصبح للمرء بيت يأويه"
كان يسير على أرصفة مكلّلة بباقات من الأشواك والانتظار، علّق كلّ تفاصيل حياته على جدران تلك الأمنية، حاملاً قلبه وحبّه لتلاميذه، منطلقاً صوب قناديل العلم، يبحث عن صدى حلم، يبدو له أنّه في متناول اليد. وفي تقلبات فصول الظلمة والخراب، توشّحت المدينة بأنفاس الحرب وأسطورة الموت، موت الأمنيات، يرافقه العوز والحرمان وغربة الأمكنة التي رافقته في اتّجاه منخور بعهر السياسة، لكنّه مازال يحلم بوطن مشمس، يراه كلّ يوم يهتف بالقرب فيبلغ حدّ النشوة، دار تتمطّى بعبق الورد وكركرات الاطفال، مطوّقة بظلال العشق وقيلولة ظهيرة صيف قائض، تمنحه بعض الدفء والسكينة.كان منهمكاً في لعبة محمومة، يراقصه سياج البيت أو نخلة زرعها بيديه، تكبر، ثم تكبر حتى تتسلّق المدى، عندها يقيم طقوسه البريئة تحت ظلّها،
"لابدّ أن يأتي ذلك اليوم، ها أنا أجمع المال لم يبقَ إلّا محطة انتظار عابرة وأسدل ستار الترحال والنزوح من بيت لآخر "
وكلّما اقترب من أمنيته يسمع خطى الزمن الموبوء بمرض التضخم، فيبتعد ذلك الحلم بعيداً محلّقاً بأجنحة السخرية، يلقي بين يديه هواجس القلق/الوحدة، تتبعثر أغصان أشجاره في غياهب الظنون، فيسخر مقابل ذلك كلّه من وطن لايأتي. ويظلّ في سفر يجتهد، يحتمي بنور نهار ملؤه الأمل ليشهد أول الفتوحات على يدين متوهجتين برعشة الإرادة، تتلألأ الشجون في خاطره مرّة بعد أخرى، يحلم بسحابة بيضاء تظلّل منعطفات الطريق، علّها تبدّد له مجاهل الخواء والخوف من العراء. حدّق مرّة أخرى بعينيه الوجلتين من المجهول فيما تبقّى من رحلة العمر، لا شيء غير وساوس تطارده، تنهش أفق رغباته، تنخر في ثقب خلّفته سنين عجاف، يركض مرتبكاً في فضاء عارٍ إلّا من بقايا دموع، غمرت وجه ستة عقود كسيرة من رحلته المطرّزة بألم الغربة والحيرة، تساءل بوجع يتيم لم يلتفت إليه أحد،
"ما بال هذا الشريد؟ وبم يفكر؟ والمدينة تبدي زينتها وبهاءها، تتّسع وتكبر، تتناسل بيوتاً واسعة،جميلة،حدائقها الغنّاء تعانق الرياح والأمطار والندى بلهفة مجنونة، تمنح الآخرين غبطة ورأفة بلا تمييز، وأنا أهرول في متاهات الوهم دون جدوى، أترى أن القدر يجهلني أم يتجاهلني؟"
تشاغل بعدّ أنفاسه المتبقية في ظلّ أمنية تدور في هدأة محطة اتّقاد يائسة، كان الأمل مشنوقاً بخيط اليأس، وبقايا عمر ينتظر قيامته. كفّن أتون الشقاء بنواح مجنّح لإطلالة عوالم مجهولة، لثم وجه السماء بعبير النجوى، فما كان من صدى أمنيته إلّا أن تلثغه بقبلاتها، يرنو ببصره إليها وفي دمه شوق يهفو لفيض صبابتها ، يدسّ تجاعيد العمر في جيبه، يسعى بفرح واشتهاء، تجرجره خطواته بخجل نحو ماضٍ يحضر في عين الأفق ضوءاً صارخاً بالأماني، لم يكن هناك مزاج التمايز في توالي الفصول، ولا طرقاً عاثرة بالخطوات. عدّ رصيده، قلّبه بين كفيه، كان المال كافياً لتحقيق أمنيته، وفي اليوم التالي كان فرحاً حين اشترى خمسة أمتار مربعة في مقبرة وادي السلام .
عبدالكريم الساعدي
من مجموعتي القصصية( ما بعد الخريف )
دار أمل/ دمشق 2015
من مجموعتي القصصية( ما بعد الخريف )
دار أمل/ دمشق 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق