علي البدر
العرض التحليلي النقدي لقصة " كويدرة و المتمرد ون "
بقلم لا ألقاص:صالح هشام / المغرب ٠
1) العرض التحليلي النقدي:
" كويدرة... شبح ضبابي، يغازل شرنقة مخي، يخترقني، ويعبر متاهات نسياني وكأني به مني قاب قوسين أو أدنى، أكاد ألمسه... هو بلحمه، أكاد أشم أنفاسه المفعمة بروائح الجانكا..."
ولنتساءل: أيمكن أن يكون هذا الأنسان ذا شخصية عميقة مؤثرة لدرجة أنه يخترق حجب النسيان وينفذ بأعماق الذهن؟ فها أنا " أكاد ألمسه". أجل وأراه أمامي. انه " هو بلحمه"، وهاي تلك الرائحة التي فاحت بعد ان سرى مفعولها في شرايينه ومنحه قوة ونشاطاً مضافاً لنشاطه.. ولكن.. ويا للمفاجئة.. سحنة سمراء بلون حبيبات قمح قديمة وقامة قصيرة تلتصق بالارض وبطن منتفخة مكورة..." ، فقد اختفت تلك الهالة عن كويدرة، بعد أن أوقعنا الكاتب صالح هشام في الفخ عندما سلب منا تصورنا عنه. وماذا بعد؟ وهل هنا ك المزيد؟ أجل ".... ركبتاه معقوفتان تصطكان، تخاله يتدحرج ولا يمشي كباقي خلق الله.." . ثم تبدأ شخصيته بالبروز، لنحاول تصورها والعيش معها وربما نكاد نلمسها أيضاً.. فالواقع بالنسبة اليه "أغبر" أما دنياه التي يعيش فيها فهي " دنيا عوجة...." ولهذا فهو " يعشق هذيان الهروب من واقع جريح.." ، أبعده عن روح المجاملة والمحاباة لمن حوله وبات يعيش وسط دائرة تصوره.. تخاله مجنوناً لكنك سرعان ما تكتشف الحقيقة الممزوجة بالاستغراب والتساؤل. شخص ثار على مجتمعه بطريقته الخاصة بعد أن آتهم من حوله من الشباب بالجبناء... ياترى ماذا يسبح في أعماقه عندما يصرخ " كلكم صفر ضعفاء جبناء.." ومن يمد يده الى رجل غارت المعاناة في شرايينه فالتجأ الى الادمان على " الكحول الرخيص" الذي يستفزه و " يوقظ في رأسه شياطين الحكمة .." كحول مركز أقل من 90 بقليل.." تلك الوسيلة الرخيصة الثمن وغير المقترنة بشراب الاغنياء الغالي الثمن . انه " خمر لصوص ، فيه ملوحة من دم الحرافيش، فيه رائحة من جيوب المغبونين، تشربه جيوب عفنة متخمة بعجين البسطاء..."
وهكذا تتضح ملامح شخصية كويدرة تماما... انه سيمياء symbol للانسان المسحوق ضمن اضطهاد طبقي احتدمت فيه المتناقضات فبات المجتمع مقسماً بين غني وفقير.. ولكن.. من يجروء على الصراخ غيرك يا كويدرة؟
أجل ... انسان يراد له أن يكون هكذا...عفوي... قريب من الجنون..ولسان سليط وخمر رخيص خال من شوائب اللصوصية يمنحه فرصة من الحرية ومحلقاً وسط عالم ينقله "وسط جزر بعيدة.. ينتشي بفقره ويتلذذ ملوحة عوزه". وياترى... هل من سبيل لاسكاته وقد أصبح الآن بوقاً للرفض وصيحة مدوية يهيم بين الناس تارة ويعتزل مع نفسه أخرى؟ وتأتي المفاجأة عندما يقبض عليه وهو في حالة تلبس " يشرب الكحول الرخيص ويدخن الحشيش.." أجل.. لابد أن يسجن ويختفي هذا الصوت.. "تهمة رخيصة"... ويصرخ القاضي متسائلاً عن اسمه وعمره وعمله وكأنهم لايعلمون حيث يجدها كويدرة فرصة لتسفيه من يحاكمه ويحاول أن يذله ويسكت صوته. انها تعرية للأنظمة الاستبدادية القائمة على استغلال الفقراء وامتصاص دمائهم لتنتفخ كروشهم وتمتليء جيوبهم باموال الشعب... وهنا.. يأتي الصمت لحظات ليثور القاضي: " يا رجل...ألم تسمع سؤالي أم انك تتعمد عرقلة مسار العدالة؟" وأية عدالة لديكم وأنتم رموز ترسخ الفقر والحرمان والاستقرار، حيث تملأ قهقهته القاعة. أنا؟ " هل تقصدني أنا يا سيدي؟
- ومن غيرك؟ أمامي أنت والجدار! وأخيراً جاءت الفرصة الى كويدرة.. لقد فقد القاضي توازنه... لابد من تعريته وتعرية ألنظام حيث ينبري للقاضي مستهجناً: " أنا لست رجلاً ياسيدي... لو كنته.. لما وجدتني أمامك.."، حيث تعم الفوضى ويهدد القاضي بطرد الحاضرين.. أجل أيها القاضي. ان أردت اسمي فأنا " كويدرة... نبتة برية ترعرعت في تربة فاسدة"، لا يعيش فيها الا الفقراء الذين طحنتهم عجلة الاستغلال. تربة لاتليق بالبشر " يتبول عليها الحمير.. ويدنس طهارتها زناة الليل والسراق ويمتص ماءها خفافيش الظلام." انه لعمري كلام بليغ وعميق المعنى... فها هو يصرخ ويقول ان كانت تربتنا فاسده فهي أطهر منكم لأنكم تدنسونها ان داست أقدامكم عليها.. وماذا يهمك اسم لم يقترن "بالذبيحة " فان حشرة " الإرضة ..". أجل إرضتكم ايها آلمفسدون في الأرض قد ثقبت " جيوب أبي ولم يبق له فلس لشراء كبش عقيقتي..". وها انك عرفت أسمي وإن أردتَ معرفةَ عمري...فإن " أمي لم تزغرد يوم مولدي.." وكيف تزغرد أيها القاضي لضيف ثقيل وهي لاتملك " جرعة حليب وثديها مترهل؟ " وإن أردت أيها القاضي المزيد.. فها أنا أخبرك وبأعلى صوتي: ياسيدي.. ترضعني أمي الماء بدلاً من الحليب فيستمر الصراخ لوليد جائع " ولا شيء غير ماء ساخن...". أمًا مهنتي .. فأنا.. أجل أنا "لص، لكنني لا أسرق الميزانيات.." لينام الشعب الأعزل على التراب ويلتحف السماء بل " أسرق دريهمات قليلة من جيوب الأطفال الصغار.. أكتري لهم الدراجة بنصف درهم لكل ساعة، ودريهمات أخرى عندما أمتعهم بألعابي وخدعي السحرية..أليست هذه سرقة مشروعة يا سيدي، أشرف من امتصاص دم الناس كالقراد؟" ويبدو ان القاضي لم يتحمل هكذا تعرية علنية فيضطر "مكرهاً تأجيل الجلسة."
لقد رسم الكاتب صالح هشام شخصية كويدرة ومنحها بعداً زمكانياً جعلنا نؤمن أن البطل هو لسان حال المغلوب على أمرهم ، ولكن لابد لنا أن نتساءل: أيعقل أن تكون هكذا شخصية وسيلة وحيدة للصراخ ورفض الظلم؟ بالتأكيد لا، فالجواب عند كويدرة نفسه الذي يعكس فلسفة الكاتب نفسه بوجوب مقاومة الظلم خاصة وان كويدرة اتهم من اجتمع حوله بالجبناء... أجل .. أن كويدرة بحاجة لأيادينا لأن اليد الواحدة لاتصفق.. أن القهر والكبت قد يدفع الانسان السوي أحياناً الى محاولة التخفيف عن حالة الأغتراب الذي يحس به وهو مفهوم فلسفي ديالكتيكي مرتبط بشعور الانسان بالغربة وهو وسط أهله فالفقر في الوطن غربة.. وبالتأكيد فان الميول الانسانية تجعلنا نتألم لآلام الاخرين وكأنها آلامنا. من هنا تبلورت مفاهيم التضحية ونكران الذات والموت في سبيل حياة آمنة بعيدة عن القهر وآمتصاص دماء آلفقراء..
وهكذا مات كويدرة حيث " يسري الخبر في الدروب والأزقة...نار اشتعلت في قطعة قماش مزيتة...حشود كبيرة تتجمع أمام محل الدراجات..." لكن صراخ كويدرة طيلة حياته لم يثمر كما يبدو فالجميع يقول: مات كويدرة " مخموراً،،، قتله الكحول الرخيص!" . حتى الرجل الطاعن في السن، يترحم عليه ويوجه كلامه لمن حوله" لقد احترق الرجل ياناس! التهبت أمعاؤه ... رحمه الله وغفر له.." ولو قدر الى بطلنا أن يعيش ثانية لاستغرب من شعب قبل الظلم وسلم رقبته لجلاديه ومصاصي دمائهم.
وأخيرا لابد من الاشارة بأن الكاتب قد أبدع باسلوبه السردي فتارة يستعمل اسلوب الحوار dialogue وأخرى اسلوب الشخص الغائب third person متنقلاً بمهارة ضمن حوار أخاذ يجبرنا عل المتابعة والتأني وأحياناً اعادة القراءة . ومنذ الوهلة الأولى تبدو مهارة الكاتب في الكشف التدريجي للتفاصيل وجعلنا نعتقد بامتلاكه شروط mechanism القصة القصيرة الملتزمة.. ان ثيمة القصة theme في الحقيقة صرخة لابد ان تساهم في تشابك ايادينا ضد القهر الطبقي وامتصاص دماء المسحوقين... لقد مات كويدرة لتنتصب القضبان وينام أصحاب الراي لأنهم تمردوا على " واقع آسن جريح..."
الأديب القاص صالح هشام.. تحياتي
علي البدر
2) ألقصة:
أتلمس جدار ذاكرتي ، أجد نتوءاته اضمحلت ، امّحت تماما : جدار أملس ، رخو ، مترهل ، تتشظى عليه أحداث الماضي ، ثم تنزلق ، ولا تعلق به ولو ذرة من حكاية ، أنسى كل شيء ، نتوءٌ واحد منحوت ، يستحيل أن يتلاشى :
كويدرة : شبح ضبابي، يغازل شرنقة مخي ، يخترقني ، و يعبر متاهات نسياني ولكأني به مني قاب قوسين أو أدنى ، أكاد ألمسه .. هو بلحمه وشحمه ، أكاد أشم أنفاسه المفعمة بروائح الجانكا
سحنة سمراء، بلون حبيبات قمح قديمة ، قامة قصيرة ، تلتصق بالأرض، بطن منتفخة مكورة ، ركبتان معقوفتان تصطكان ، تخاله يتدحرج ولا يمشي كباقي خلق الله !
يعشق هذيان الهروب من واقع جريح ،أغبر .. دنيا عوجة ، تعانق السّراق بالأحضان ، وتركل الشرفاء على المؤخرات !
أتذكره يوما ،يضع أصابعه العريضة في عيوننا ، يتف، و يقهقه ساخرا ، يكاد يستلقي على قفاه ، وبشيطنته المعهودة :
- وجوهكم يا سلالة إبليس ، متشققة صفراء ، يا وجوه النحس ، تنبت عيونا ماكرة ، وقحة لا تخجل ، تشي بشيء من حقرة وتهميش استوطنكم من الرأس إلى الكاحل ، كلكم صفر ضعفاء جبناء !
كنا مرتعا خصبا لسخريته ودعاباته الشيطانية !
كويدرة : مدمن كحول ، كحوله خالص ،لا ينقص عن تسعين درجة ولا يزيد عنها ، يكره الخمور الشقراء ، و يشمئز من السجائر الشقراء :
الويسكي خمر لصوص ، فيه ملوحة من دم الحرافيش ، فيه رائحة من جيوب المغبونين ،تشربه بطون عفنة متخمة بعجين البسطاء ، يردد دائما بفخرقول أبي العلاء المعري :
-يجرون الديول على المخازي ٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠وقد ملئت من الغش الجيوب!
أما هو فهذا الكحول الرخيص، ينبت له جناحين ، يوقظ في رأسه أعشاش شياطين الحكمة ، وعلى بساط رغوته البيضاء :
يحزم الصاري بحبال مفتولة من الجنون ، يرفع الشراع ،يهدهد المجذاف ، و يبحر في مركبه ، إلى جزر بعيدة ، لا بشر، لا شجر ، لا حجر ، فيها ،قرمزية النوارس ، مخملية الشطآن، تتكسر على صخورها أمواج عاتية ، من خمر لذيذ ، فاقع الحمرة ،لاصفرة ولا رائحة [ ويسكي] فيه، خمر خال من كل شوائب اللصوصية، يستطيبه و ينتشي بفقره ويستلذذ ملوحة عوزه :
- يعزف أنغام الحرية في الهواء !
-ويرقص على هدوء صفحة الماء !
-شطحات مجنون تدغدغ الخواء !
ضبط كويدرة يوما من أيام العربدة ،يشرب الكحول، ويدخن الحشيش في بحيرة باريس الصغيرة ، كان في حالة تلبس ، أحيل ملفه على قسم الأخلاق العامة ،فقدم للمحاكمة في حالة اعتقال ،تهمته رخيصة : تناول "كحول غير صالح للشرب" ، يسأله القاضي :
- إسمك ٠٠٠ سنك ٠٠٠مهنتك ؟
في خفر العروس ، يلصق عينيه بالأرض ، يتجاهل السؤال ، يصرخ القاضي في وجهه بغضب بيّن :-يا رجل ألم تسمع سؤالي ؟ أم أنك تتعمد عرقلة مسار العدالة ؟
يقهقه كويدرة عاليا ،ساخرا منه :
- أتقصدني أنا يا سيدي ؟
-ومن غيرك ؟ أمامي أنت والجدار !
أنا لست رجلا ياسيدي ، لو كنته ، لما وجدتني هنا أمامك ،يحاكم خمرك الأشقر القادم من وراء المحيطات ، ذي علامة العكازة والطربوش ،خمري الأحمر الذي لا يساوي حبة بصل !
تعم الفوضى ، وتسري قهقهات الشماتة في كل أرجاء المحكمة ، و يهدد القاضي الحضور بإخلا ء القاعة :
- أجب عن سؤال القاضي يا رجل !
يبتلع كويدرة ريقه وتلمع عيناه الحمراوان :
- إسمي كويدرة : نبتة برية ،ترعرعت في تربة فاسدة ،يتبول عليها الحمير ، ويدنس طهارتها زناة الليل والسراق ،و يمتص ماءها خفافيش الظلام !
إسمي لم يحظ بالذبيحة ، ثقبت أرضة المفسدين في الأرض جيوب أبي ، لم يبق له فلس لشراء كبش عقيقتي .
-سني : أمي لم تزغرد يوم مولدي ، ضيفا ثقيلا حللت ، كيف لها أن تزغرد ؟ لم تكن تملك جرعة حليب ، وثديها مترهل كفلفل مشوي ، عاث فيه الفقر فسادا، يا سيدي : كانت عندما أجوع ترضعني ماء ، ولا شيء غير ماء ساخن ! ،
-مهنتي : لص، لكني لا أسرق الميزانيات ، أسرق دريهمات قليلة من جيوب الأطفال الصغار ، أكتري لهم الدراجة بنصف درهم لكل ساعة ،و دريهمات أخرى عندما أمتعهم بألعابي وخدعي السحرية، أليست هذه سرقة مشروعة يا سيدي ؟ أليست هذه سرقة ، أشرف من امتصاص دم الناس كالقراد ؟
يتأفف القاضي ويضغط على صدغيه بقوة ويعلن مكرها تأجيل الجلسة !
يسخر منه كويدرة قائلا :
- حكم [الويسكي] على [الروج] أتوقعه قاسيا ، باطلا وما يصدر عن باطل فهو باطل لا محالة يا سيدي !
كويدرة .. هذا الرجل أمره عجيب ، غريب أغرب من الغرابة ! فيلسوف يحب الدعابة ، نحترمه ونحبه، يقسو علينا حينا ، ونقسو عليه أحيانا .. هو منا ونحن منه ، نكتري منه دراجات هوائية صغيرة ، فيمتعنا و نمتعه بنصف درهم لكل ساعة ،سومة كرائية معقولة ، تراعي عوزنا ،لم يكن جشعا ، يكفيه من جيوبنا ما يقتني به [قبوشة/ قنينة ] من كحول لا لون له ، رائحته تشق القلب ،لكنه مفتاح لباب سعادته المجنونة ، ورؤيته الفلسفية :
رؤية تقزم المظاهر الخداعة ، وتفضح النفاق الاجتماعي ،كحول فعال ، يعلق طويلا بجدار المعدة : تسعون درجة قادرة على تشغيل محركات طائرة نفاثة ، يحلق به إلى قمة القمم ،حمقه حكمة ، وهذيانه نظرة عميقة لعالم عم فيه الفساد البلاد والعباد، وساد فيه العبث ٠ يعشق التحليق خالصا ،بين الفينة والأخرى تعكرصفوه دوريات رجال الشرطة و (سين وجيم ) كروش الحرام !
كلهم ينعثونه بالحمق والجنون ، و هم الحمقى - المجانين ، أما هو فطفل صغير يعري حقيقة حماقات البشر من زيف طلائها ٠٠ حماقات يعتقدونها حكمة ،فتجعل منهم موضوعا دسما لسخريته اللاذعة ، وما حكمهم في نظره إلا تفاهات و مسرح خيال و أحلام بقرة !
تلفظنا أبواب المدرسة ،نعرج عليه ، نجده منهمكا في إصلاح ما عاب من دراجاته الهوائية الصغيرة !
نستفزه بسؤال أو سؤالين ،نعشق أن يسلقنا بلسانه الناري ، لننتشي بحديثه :
-كويدرة ! كيف ترانا ؟ و من نحن ؟
يمسح بنظراته الحادة أجسادنا الصغيرة ،من الرأس إلى أخمص القدمين :
-أنتم زهور برية ، لم تتفتح بعد ، ستقتل نضارتها حرارة رمال صحراء قاحلة !
أراكم ضباعا تنام طويلا ،ثم تسرق صيد السباع !
أراكم مشروع قمل مصاص ، يقتات من دم الجياع !
نضحك حتى البكاء ، ويجامله أحدنا :
- ما أروعك يا كويدرة ! تُدخل الجمل من الأذن اليمنى، وتستله من اليسرى كشعرة من عجين ، أنت عاصفة دون غبار ، فيلسوف دون سمعة ، حكيم دون صومعة !
يتظاهر بعدم الاهتمام بهذا الإطراء :
- و كيف تروني أنتم ؟ من أنا ؟
- نراك واعظا لبيبا دون جمهور!
نراك ملكا عظيما دون مملكة !
نراك قائدا كبيرا دون جيوش !
يضع مفتاح البراغي ، يشعل لفافة محشوة بالحشيش، يمتص دخانها ، يتلمظ نكهته ، يلتصق جلد وجهه بأضراسه المسوسة ، ويعب جرعة كحول،يزود مركبه المبحر بقليل من الطاقة ويقول:
-أخطأتم معرفتي يا أولاد ! أنا قطعة قماش شفاف من منامة تفضح عورة شهرزاد ، وتشعل نار حقد شهريار، أمسح غيوم الليل عن وجه القمر ،لأضيء العتمة ، أغزل من الألوان قوس قزح ،أخلق الجلال والجمال ، أنا [دو ن كيشوت] أحلم بتغيير العالم! أحارب طواحين اللصوص ، وأتصدى لرياح الفساد ،مطيتي عجفاء جوعى ، سيفي قديم ، يغلفه الصدأ ٠أتعرفون من هو [دون كيشوت ] يا سلالة الحرافيش ؟.
تتسع أحداقنا ونتبادل نظرات ، الاستغراب :
- كيف لك أن تعرف [دون كيشوت] ، وأنت لم يسبق لك تفكيك حرف ، ولا تخرجت من مدارس ، والله هذيانك هذا رأس الحكمة وجوهر الحقيقة ؟
-يا هؤلاء ، يا جهلة ! ما قيمة مدارس تفصل المعرفة على مقاسات خاصة ، تراعي مصالح شخصية ؟ أما زلتم تؤمنون بسعادة الإسكافي وتعاسة الغني ؟ إن هي إلا أفكار خاطئة ، المعرفة : رغبة ، قوة إرادة وهي فطرية في الإنسان ! أما زلتم تؤمنون بمعارف المدارس ؟ لعمري إ ن الحياة بحار معارف لا شطآن لها ، صحاري لا رمال لها ، متاهة متعدد ة المداخل والمخارج !
نفغر أفواهنا ، نفكر طويلا ، هذا كلام يزرع بذرة الشك في أنفسنا ، بذرة قد نسقيها قطرة ، قطرة ، لتنمو وتكبر في أدمغتنا الصغيرة ، فتتفرع بذورا لاتعد، كخلايا سرطان وتجتاح مدى الرصاص، في سنوات الرصاص ، سنعيد ترتيب أوراقنا ، سنشك في معرفة تقررها الداخلية ، ويسهر على سلامة تطبيقها بصاصو وأبواق القمع المخزني ، سنشك في كل ما تلتقطه راداراتنا من أفواه مدرسين مجبرين لا مخيرين !
ومن يدري ؟ ربما نكون[ دون كيشوت ] المستقبل، نغير عالما يجب تغييره !
كويدرة مات ، كويدرة مات ! كويدرة مات !
يسري الخبر في الدروب والأزقة .. نارا اشتعلت في قطعة قماش مزيتة، نتلقى الخبر بذهول كبير! بسرعة الخطاطيف ، نقصد كويدرة ، حشود كبيرة ، تتجمع أمام محل الدراجات ، الكبار يحوقلون ،والنساء زرافات زرافات، يلكن الفضيحة :
- كويدرة : مات مخمورا ، قتله الكحول الرخيص !
مستلق على ظهره ، يعانق المسكين فراغ الفراغ ، رغوة ثلجية تغطي وجهه كله، عيناه جاحظتان ، قنينات الكحول مبعثرة في زوايا المكان ، لم نكن نعرف شيئآ مما وقع ،كل مانعرفه : -كويدرة أراد أن يبحر بعيدا ، أن -يداعب النوارس القرمزية في جزره البعيدة، هذه المرة ،تشظى مركبه ، و انكسر مجذافه ، رحلة إبحار انتهت بمأساة !
شيخ طاعن في السن يجس نبضه ، يحوقل والدمع يلمع في عينيه :
-لا حول ولا قوة إلا بالله ،لقد احترق الرجل يا ناس ! التهبت أمعاؤه ، هذا الكحول فتيل لإشعال النار ، فما بالكم بجسد آدمي ، رحمه الله وغفر له !
تنتهي رحلة كويدرة ،و تستأنف بذرة الشك رحلتنا : تنبت زهورا في أدمغة شاخت قبل الأوان ، تنبت فينا أشواك وعي شقي وتمرد على واقع آسن جريح، يستمد كينونته من عفونة الزنازين و الرصاص !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق