الثلاثاء، 20 يناير 2015

شجاذ....ملمع وجوه .../ قصة الكاتب ..../عيس عبد الملك ..../ العراق .....

الشحاذ ...
لكثرة المتسولين في هذا الزقاق، صرت أكرهه، خصوصا بعد أن رُفد بأعدادهائلة من نازحي الموصل والمناطق الغربية. يتعلقون بك كتعلق غريق بقشة .أكثر المتسولين نساء مأخوذات بهول الصدمة .يتسولن على استحياء تحت ضغط الحاجة ولسعات الجوع والبرد وصعقة الخيانة.لعنت امريكا والعجوز الشمطاء حليفتها التي ما دخلت بلدا الا وقال الفقر خذيني معك وصاحت الفتنة أنا أيضا ، سمعت أحدهم يقول مرة لكني، مع كرهي لهذا الزقاق، كنت مرغما على السير فيه ،فهو طريقي الوحيد الى موقف السيارات العام .كنت اهتم باناقتي كثيرا.صار هذا الاهتمام أكثر بعدما كبرت.
كنت أتعب صباغي الاحذية ، فصاروا يكرهونني .كان بعضهم يتذمروالبعض يتعلل فيعتذر عن صبغ حذائي .اكثر من واحد رفض أن يصبغ حذائي ، ربما باشارة من صباغ آخريعرفني .الصباغ الذي وضعت فردة حذائي على خشبة صندوقه كان جديدا.
.ــ اصبغه جيدا .قلت .
ــ لا تعلمني مهنتي يا استاذ . هذه الشوارع وأنواع الأحذية منحتني شهادة دبلوم صباغة بامتيازغير مزورة . لم ادخل مدرسة .والدي كان دكتوراه، صارمستشار صباغة قبل ان يموت . قال لي الشحاذ وهو ينظر الى رزمة الكتب التي احملها بشيء من الازدراء .كان معبئاً بالاحباط . ترى هل يستفزني ؟ تساءلت . لمْ أعلق . ولما نبهته الى أن الحذاء يحتاج الى تلميع ، راح يلمعه بخرقة بشكل عصبي ،لا اترك الحذاء حتى يرى الزبون وجهه ، قال وهو يحدّق في وجهي .صدمتني جملته ولم أرد فنحن في سوق .على بعد امتار تكوم شحاذ ينظر اليّ بتشفّ فقد سمع الحديث .الشحاذ منتفخ الأوداج ذو كرش ووجه منمش . لفّ رجله اليمنى حدّ الساق بضماد وسخ وطرح عكازا قربه . كان الممرالذي حشرت فيه ضيقا يعج بباعة الفواكه والخضروات . وقوفي منحيا يعيق حركة المارة كما أنه لا يليق ، اذ كانت مؤخرتي تبرز أكثر من اللازم .نبهني احدهم بضربة على ظهري فانتصبت .ابتسم الشحاذ الذي لم تفارقه عيناي .كانت ابتسامة شماتة واضحة .ضرب الصباغ على فردة الحذاء بشكل عصبي .دفعت له مبلغا. تفضل يا حامل الدبلوم .قلت . شكرا استاذنا الأديب الأنيق ، قال وهو يحاول ان يعيد لي باقي النقود فرفضت . كان هناك أكثر من شحاذ وشحاذة أعرفهم رغم موجة الشحاذين الطارئين على المهنة ، فقد اعتدت رؤيتهم وعرفت اماكن جلوسهم .هذا الشحاذ لم اكن قد رأيته .هو مازال ينظر الي .وجهه المنمش وملابسه الرثة وشعره الأشعث وجلسته وسط الطريق المؤدي الى موقف السيارات منظر غريب . سرت متوجسا باتجاهه. رحت اقترب منه .أثار انتباهي شيء .رأيته يلملم نفسه بشكل متحفز للهجوم . امسك بمقبض العكاز .اربكتني حركته .نظرة عينيه لا تبشر بخير .تجاهله ما دمت لا تعرفه وكل شيء سيمر بسلام .ربما لست المقصود قلت .اقتربت اكثر.ضاقت المسافة بيننا .ما أن صرت قربه حتى نهض بشكل مفاجيء وعلى امتداد يده صفعني صائحا أيها المدعيّ .اختلطت الصفعة بصيحات الباعة واستنكار المارة وصيحات غضب النساء وهمهمات الناس المستغربة .ماذا علي أن افعل ؟.اصفعه ومن يضمن لي اني لا أعرض نفسي لصفعات المحسنين ؟.لابد من سبب قال اكثر من واحد .هذا الشحاذ مجنون وربما أثاره بحركة يد أو غمزة .قال بعضهم .نظرات رضا غير مفهوم ارتسمت على وجوه أصحاب الأكشاك .وسط ارتباكي أقسمت أني لا اعرفه ثم جرجرت خطاي باتجاه موقف باصات الركاب .دفع أحدهم اجرتي .إذ كنت تحت تأثير الصدمة . لابدّ أن الرجل قد شهد المنظر المثير للشفقة. شكرته باقتضاب وحاولت اخفاء وجهي بيدي. غيرت طريقي .بعد الحادث لم نعد نرى الشحاذ ، طرد بعد أن نال وجبة من شحاذي الزقاق شاركت فيها خمس شحاذات بتحريض من اصحاب الاكشاك .كان يرفض أن يدفع لهم خلو مكان التسول .قال لي أحدالباعة .. . ذات ليلة ، رأيت الشحاذ في الموقف العام للسيارات على أطراف المدينة .كنت أودع أديبا صديقا يزمع الهجرة كي يموت هناك .عرفت الشحاذ ، تأكدت انه هو .كنت اقف قرب الباص بانتظار أن يغادر . عينا الشحاذ تنظران الي . ترى هل سيعاود فعلته ؟ والله سأضربه حتى وان لم يفعل .اقسمت .تحرك الباص .لوحت لصديقي مودعا .بدأت الساحة تفرغ . المسافرون غادروا والمودعون عادوا. إنها فرصتي. سأختطف عكازه أولا .لمحت الشخاذ يخرج ورقة وقلما ويكتب شيئا .دس الورقة في جيبه .اقتربت منه. كنت مصمما على ردّ الصفعة أضعافا . رفع بصره الي .بادرته بالسؤال هل تتذكرني؟ قال لا.هل اقول انت من صفعني واصفعه ؟ .ماذا لوصرخ .اتهمني بمحاولة تسليبه ؟ .لم اتزحزح بل قلت مؤكدا بل انت هو .قال بهدوء غريب ، انا لا اعرفك و مادمت مصرا اليك هذه توضح الالتباس .قال وناولني الورقة :الليلة القادمة في مثل هذا الوقت ادعوك لتناول العشاء معي في شقتي، سأنتظرك هنا . هي دعوة تعارف وايضاح موقف لا أكثر .تحياتي .صعقت حاولت ان أرد فجاءني صوته ارجوك لا تخذلني تعال بملابس بسيطة تليق بالمعدمين الذين تدعون الدفاع عنهم ،وأنتم تسكرون ، لا تأتني بربطة عنق وحذاء لامع. وفي الوقت المقرر جئت .على بعد امتار من موقف السيارات ، في زقاق مظلم كئيب، كانت شقته .ها قد وصلنا قال واشار الى باب خربة .كان الباب من الصفيح لا يحتاج عناء ليفتح .يفتح لمسا قال وهو يمسه بنهاية العكاز.راح يشرح بعد ان طلب ان أرفع ملابسي كي نجتاز مستنقع باحة الدار .على اليمين في الخربة التي تسمى مجازا سكنا ، يسكن ثلاثة عراقيين . ماجدتان مسنتان ورجل عجوزماجد نسيتهم حتى سجلات النفوس .لا تربطهم علاقة الحاجة .في الغرفة على اليمين معوّق حرب أعمى وزوجته معتوهة.أخذ انفجار عبوة في السوق عقلها ، تعيلهم فتاة خرساء صماء بفعل الصدمة ،هي من بقي حيا من الأخوة وهذه شقة أخيك المواطن معتز .قال وهويشعل قداحة لينير فانوسا نفطيا علّق على عمود وسط الغرفة . .لم يكن في الغرفة الطينية اثاث او فراش .حصيرتان باليتان، حشيتان قذرتان واناء للشاي واكوام من الصحف . كتاب البؤساء لفكتورهوغو . مجموعة قصص رومانسية عليها صورتي . . وقبل أن أسأله قال ما حاجتي للأثاث. اسكن مع شعب الحواسم وطعامي من فضلات المطاعم وما يتركه المسافرون في الحافلات فهناك دائما للخلق طاعم . سيلعنني من يحاول أن يسرقني وقد يتصدق علي ويدخل الجنة .عليك ان تعد الشاي ريثما ادعو جيراني كي نحتفل بضيفنا الاستاذ القاص مثار اعجاب القارئات البرجوازيات .أبو اللايكات .صدمت بما قال وتذرعت بالصبر .خرج وبعد قليل عاد ومعه المدعوون. .تنحى جانبا وراح يفك اللفافة عن رجله .كانت سليمة بلا عيب . تولت الفتاة فتح لفات الاكل . كانت خليطا غير متجانس. ترددت كثيرا في تناوله فاعتذرت وسط استغراب الضيوف اذ كنت عند الظهر مدعوا في بيت نائبالبيعة. واعدا بوجبة غداء فاخروسيأكل معهم ، إن فاز، مقسما بشرف المهنة !! نظر الشحاذ الي وقال بنغمة تهديد :
ـــ شاركنا طعامنا والا صفعتك مرغما يا زميلي قال وهو يقدم لي هوية الاتحاد العام لأدباء وكتاب العراق ، فرع العاصمة !!!.
بعد العشاء قال:
كلنا نحتاج لصفعة .كل رأس كبير يحتاج صفعة تصعقه كي يصحو . كلْ يا مدبج خطابات النواب لقاء وجبة زقوم وبضع دولارات ومجد زائف، لقد كنت مثلك ملمع وجوه ،
يا مبدع .!!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق