قصة رقم/ 1...( ليلة أليمة )
من مجموعتي القصصية ( ما بعد الخريف )
الصادرة من دار الأمل / دمشق- 2015
من مجموعتي القصصية ( ما بعد الخريف )
الصادرة من دار الأمل / دمشق- 2015
ليلة أليمة
كان آخر المتسلّلين من الدار التي تختبئ وراءها أسرارهم، منطلقاً من تحت رماد الغضب جذوة توقد صمت السنين، تهزّه طقوس التحدي ليقتلع جمر الفساد وجيف العروش الجاثمة على أنفاس الحياة، منطلقاً من زوايا منفرجة بالأمل، إلّا أنّ وقع الخطوات المحمومة بالكراهية والموت، تسابقت لإلقاء القبض على مسيرة النقاء، توقفت ذاكرته، أحلامه لبرهة من الزمن، يصيخ السمع إلى وقع أحذية السلطة، ظنّ أنّه لا يفلت من قبضتهم هذه المرّة، حثّ الخطى أملاً بالنجاة، تبعثرت خطواته المشحونة بالقلق والهلع مع تسارع الخطوات المختلطة بأصوات غليظة تدكّ حصن أذنيه، لم يكن أمامه إلّا أن ينطلق راكضاً، يختبئ بين الزحام ، صوت رصاصات في الهواء تنذر بالخناق، تدحرج نحو المجهول، ترنّح يميناً وشمالاً، يجري لاهثاً بين الأزقة المظلمة، لا شيء ينقذه، صار في مرمى البصر، توسّل بتسبيحات أمّه ودعواتها لعلّها تنقذه من هول المجهول، تتصاعد وتيرة القلق، الحيرة، لم يكن أمامه خياراً سوى ملهى المدينة، كان وحيداً، مرتبكاً، متّشحاً بخوفه، وبهدوء شديد انزلق من جادة الهروب إليها، تبتلع خطاه، تدثّره بعالم لم يرَه من قبل، يشعر برهبة المكان، يدخل مضطراً، يخلع ثوب طهارته ممتطياً قذارة عصره، إنّها مصيدة كبيرة، مصيدة من نوع آخر، لكنّها أرحم من ذئاب الليل، اختلطت آمال نجاته بأعرافه وخجله من مكنون سرّه، آثر أن ينعزل في مكان قصي. المكان صاخب، رقص، عري، وخمر، مقصورات مخملية، أضواء حمراء، ثرثرة، الحضور يرتوي من نسغ الأجساد المتهرئة، وما إن انقشع ضباب القلق، راحت عيناه تدوران في فلك المكان، سحالي ملوّنة تخرج من شقوق الرذيلة، تلتقط الذباب المنتشر حول مائدة العهر الليلي، تيوس الزمان، هؤلاء المرؤسين، تتناسل شهواتهم بحرارة كي يثبتوا ذكورتهم المفقودة، استراح فوق بعض أجزائه المتبقية من جليده الذائب من سخونة الرعب. صوت النادل يقرع سمعه:
- ماذا تشرب، سيدي؟
بهت، وعيّ عن الجواب، ظلّ صامتاً، يطارده صوت النادل أكثر من مرّة، تبادر لذهنه هي النبرة ذاتها لتلك الأصوات التي طاردته منذ ساعة، " ما العمل؟ " صوت من أعماق خوفه:
- لا عليك، ارتدِ قناع المكر لتخدعهم، أتمّ اللعبة حتى الختام.
- لكنّي لا أجيدها.
للوهلة الأولى تحسّس غباءه وحظّه العاثر، لكنّ حيرته سقطت عند نشوة أول كأس دخل جوفه، ليكون سبيل نجاته، هكذا ظنّ الأمر. تتدافع أمامه صور لأشياء لم يألفها، طقوس غريبة لكهنة اللهو، عقارب الساعة تتدافع إلى الوراء، تنزلق من هذا التدافع العجيب امرأة مشعّة بضياء موهوم، شمّ عطرها من على بعد، لدغته بهمسها وسحر ابتسامتها، لدغة أخرى بنصف عريها، يصعقه ثوبها الشفاف الملتصق على جسدها:
- ما الذي أتى بكِ هنا؟
- الذي أتى بك.
- إذن هو الزمن المقرف.
حاول الهروب من فخّ الشهوة والإثارة التي بدت تدبّ في كيانه:
- ما اسمك؟
- شمس.
ابتسم ساخراً من هذا الهراء:
- وهل تكون الشمس يوماً ما عاهرة؟
انتابته موجة من الحزن والخوف من المجهول، علت حيرته البادية من تقاطع كلماته التي لا معنى لها، سرعان ما أدركت أنّه بريء، أرادت أن تزيح غمامة تلعثمه:
- لا تخشَ شيئاً، إنّك في حصني.
- وأين أسوار حصنك؟ أراك نصف عارية.
حدّثها عن الفضيلة ومغادرة هذا المكان الذي أكل سني عمرها، تغرق في موجة من الضحك، تبدو أكثر وقاحة:
- الأوساخ التي علت أجسادنا، لايمكن غسلها بماء المطر.
بدت له أول الأمر شجرة تساقطت أوراقها؛ لأنّها تعرّت للخريف، وبعد مغادرة قلقه ووجعه من جراء عناق الكؤوس، وثقل جسده الذي تركه جانباً، بدأت تخضرّ وتتبرعم، لم يستطع مقاومة أنوثتها الطاغية، وهول ما تحت الثياب؛ فسرعان ما رفع الراية البيضاء:
- أنا لا أفقه من عالمكِ شيئاً.
- وأنا لم أرَ آثار رجولتك.
استفزته بجوابها الماكر، تتلألأ عيناها همساً، إغواء، يترجّل من صهوة الوجل، تلمسه، تكشف عن نهدين، يشتعل، توقظ لهيب الفتنة، تسرج أنوثتها، كلّ مناطق الجسد كمائن، تحصي أنفاسه، تهمزة، فيشرئب يبري جمره.
وبلا وعي راح يثبت لها ذكورته، أصابعه المرتجفه تلامس وجنتيها، تأخذه رعشة خفيفة، هي لم تمهله، تفترس انتظاره بلهفة جنون، تهجم بكلّ أسلحتها المدمرة لجفاف كيانه، لم تترك حصناً إلّا واقتحمه منتصرة، حتى اضحى مرثية لتلك الليلة الأليمة، ضحية ارتعاشة رجولته، وسطوة الزمن الذي عصف به، كان بين مدّ وجزر، عاجز عن تفسير ما جرى، لم يبقَ من الليل إلّا أحاديث مبتورة، تساؤلات لا جواب لها. الضجيج يغادر المكان، السحالي الملوّنة تنسحب مترنّحة إلى جحورها، الذباب المنتشر يغادر موائد العهر الليلي، إنّه فجر يوم جديد. يستيقظ على صوت النادل الغليظ، ينصب له مقصلة الحساب:
- خمسة وسبعون ديناراً.
تملكه الفزع من هذا الرقم المهول، حاول أن يعتذر،لجأ لشتّى المناورات، انهالوا عليه ضرباً، جلدوه بسياط أحذيتهم، طرحوه أرضاً، وجوه المغادرين تتجه ناحيته، ينسلّ من بينهم رجل، يحملق في وجه الضحية، يبدو أنّه يعرفه:
- مَن ..؟ ابن الـ(.....).
سدّد حسابه، ابتسم هازئاً، فرحاً بسخرية القدر:
- كنّا نعتقد أنّك خائن، سأثبت براءتك.
لم يدر في باله أنّ الذي طارده بالأمس ينقذه اليوم من هول ما جرى، يمحي كلّ التهم الموجهة له. بعد الظهر استيقظ على وجعه، وألم الكدمات المنتشرة على جميع أجزاء بدنه،
"لابأس بهذه الآلام ما دمت نجوت من براثن القدر"
في اليوم التالي يطّلع على رسالة تخبره باعتقال جميع أفراد مجموعته، توخزه بالخيانة، يتشرنق داخل حيرته، دهشته، يتساءل منذهلاً:
- أخيانتي أثبتها الرفيق أم براءتي؟!
وقع في فخّ آخر، لايعرف كيف يمسح غبار الشكّ من عيون المدينة، بعدما التهمته السنون القادمة بالخيانة.
بغداد / 1984
- ماذا تشرب، سيدي؟
بهت، وعيّ عن الجواب، ظلّ صامتاً، يطارده صوت النادل أكثر من مرّة، تبادر لذهنه هي النبرة ذاتها لتلك الأصوات التي طاردته منذ ساعة، " ما العمل؟ " صوت من أعماق خوفه:
- لا عليك، ارتدِ قناع المكر لتخدعهم، أتمّ اللعبة حتى الختام.
- لكنّي لا أجيدها.
للوهلة الأولى تحسّس غباءه وحظّه العاثر، لكنّ حيرته سقطت عند نشوة أول كأس دخل جوفه، ليكون سبيل نجاته، هكذا ظنّ الأمر. تتدافع أمامه صور لأشياء لم يألفها، طقوس غريبة لكهنة اللهو، عقارب الساعة تتدافع إلى الوراء، تنزلق من هذا التدافع العجيب امرأة مشعّة بضياء موهوم، شمّ عطرها من على بعد، لدغته بهمسها وسحر ابتسامتها، لدغة أخرى بنصف عريها، يصعقه ثوبها الشفاف الملتصق على جسدها:
- ما الذي أتى بكِ هنا؟
- الذي أتى بك.
- إذن هو الزمن المقرف.
حاول الهروب من فخّ الشهوة والإثارة التي بدت تدبّ في كيانه:
- ما اسمك؟
- شمس.
ابتسم ساخراً من هذا الهراء:
- وهل تكون الشمس يوماً ما عاهرة؟
انتابته موجة من الحزن والخوف من المجهول، علت حيرته البادية من تقاطع كلماته التي لا معنى لها، سرعان ما أدركت أنّه بريء، أرادت أن تزيح غمامة تلعثمه:
- لا تخشَ شيئاً، إنّك في حصني.
- وأين أسوار حصنك؟ أراك نصف عارية.
حدّثها عن الفضيلة ومغادرة هذا المكان الذي أكل سني عمرها، تغرق في موجة من الضحك، تبدو أكثر وقاحة:
- الأوساخ التي علت أجسادنا، لايمكن غسلها بماء المطر.
بدت له أول الأمر شجرة تساقطت أوراقها؛ لأنّها تعرّت للخريف، وبعد مغادرة قلقه ووجعه من جراء عناق الكؤوس، وثقل جسده الذي تركه جانباً، بدأت تخضرّ وتتبرعم، لم يستطع مقاومة أنوثتها الطاغية، وهول ما تحت الثياب؛ فسرعان ما رفع الراية البيضاء:
- أنا لا أفقه من عالمكِ شيئاً.
- وأنا لم أرَ آثار رجولتك.
استفزته بجوابها الماكر، تتلألأ عيناها همساً، إغواء، يترجّل من صهوة الوجل، تلمسه، تكشف عن نهدين، يشتعل، توقظ لهيب الفتنة، تسرج أنوثتها، كلّ مناطق الجسد كمائن، تحصي أنفاسه، تهمزة، فيشرئب يبري جمره.
وبلا وعي راح يثبت لها ذكورته، أصابعه المرتجفه تلامس وجنتيها، تأخذه رعشة خفيفة، هي لم تمهله، تفترس انتظاره بلهفة جنون، تهجم بكلّ أسلحتها المدمرة لجفاف كيانه، لم تترك حصناً إلّا واقتحمه منتصرة، حتى اضحى مرثية لتلك الليلة الأليمة، ضحية ارتعاشة رجولته، وسطوة الزمن الذي عصف به، كان بين مدّ وجزر، عاجز عن تفسير ما جرى، لم يبقَ من الليل إلّا أحاديث مبتورة، تساؤلات لا جواب لها. الضجيج يغادر المكان، السحالي الملوّنة تنسحب مترنّحة إلى جحورها، الذباب المنتشر يغادر موائد العهر الليلي، إنّه فجر يوم جديد. يستيقظ على صوت النادل الغليظ، ينصب له مقصلة الحساب:
- خمسة وسبعون ديناراً.
تملكه الفزع من هذا الرقم المهول، حاول أن يعتذر،لجأ لشتّى المناورات، انهالوا عليه ضرباً، جلدوه بسياط أحذيتهم، طرحوه أرضاً، وجوه المغادرين تتجه ناحيته، ينسلّ من بينهم رجل، يحملق في وجه الضحية، يبدو أنّه يعرفه:
- مَن ..؟ ابن الـ(.....).
سدّد حسابه، ابتسم هازئاً، فرحاً بسخرية القدر:
- كنّا نعتقد أنّك خائن، سأثبت براءتك.
لم يدر في باله أنّ الذي طارده بالأمس ينقذه اليوم من هول ما جرى، يمحي كلّ التهم الموجهة له. بعد الظهر استيقظ على وجعه، وألم الكدمات المنتشرة على جميع أجزاء بدنه،
"لابأس بهذه الآلام ما دمت نجوت من براثن القدر"
في اليوم التالي يطّلع على رسالة تخبره باعتقال جميع أفراد مجموعته، توخزه بالخيانة، يتشرنق داخل حيرته، دهشته، يتساءل منذهلاً:
- أخيانتي أثبتها الرفيق أم براءتي؟!
وقع في فخّ آخر، لايعرف كيف يمسح غبار الشكّ من عيون المدينة، بعدما التهمته السنون القادمة بالخيانة.
بغداد / 1984
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق