الجمعة، 3 يوليو 2015

قصة قصيرة_____هذيان../ الكاتبة حنين فيروز / المغرب ...

قصة قصيرة_____هذيان..
راقبها تنصرف بعيون نصف مغمضة، صفّقت الباب وراءها، تنهّد بعمق حين سمع وقع أقدامها تبتعد عن الغرفة،غمغم بضيق :
_أخيرا..!
منذ لحظات ،كانت تقف عند رأسه، قالت كلاما كثيرا، ضاق بثرثرتها، بسخريتها اللاذعة، سلسلة من التحذيرات والتوصيات..ختمتها بحبة دواء وكوب ماء، ظلّت جملتها الكريهة تتردد داخله :
_أرجو أن تحشر رأسك الصلعاء في قبّعة حين تتعافى، إصلاح السيّارات تحت الشمس ربما يكون قاتلا..!
تخاف عليه..أو بالأحرى على مصاريف إضافية مفاجئة..
شعر بالحمّى تلهب سائر جسده ، عرق غزير يتصبب منه ،أبعد الغطاء الثقيل عنه بيد متراخية ،وضع يديه تحت رأسه وتطلّع إلى السقف ، هدوء يخيّم على البيت..لعلّها خرجت للتسوّق،لا تستشير أحدا فيما تفعله أو ستفعله وتتحوّل إلى لبؤة شرسة حين تتفاجأ بأمر بسيط منه أو من الأولاد..
منذ يومين اقتحمت الغرفة وبرفقتها ممرّضة المركز الصحي لأنها أوفر كثيرا،وجبة دسمة وزجاجة عطر من النّوع الرخيص وانتهى الأمر، تلك الشرهة اقتربت منه تبتسم بتملق،تحمل في يدها محرارا، وضعته في فمه..سألتها زوجته في قلق :
_حرارته مرتفعة، وشهيّته ضعيفة، وأحيانا ينبس بكلام غير مفهوم..!
صاحت الممرّضة البدينة بصوتها الأجشّ :
_إنها أعراض الحمّى لا تقلقي..!
تركتاه وذهبتا إلى المطبخ ، بدأت همساتهما تعلو حتى تحوّلت إلى قهقهات عالية..
عادت تنتزع المحرار من فمه ، نظرت إليه بانزعاج :
_أربعون درجة..!
التفتت إلى زوجته كأن الأمر لا يعنيه، كطفل لا يفقه ما يدور حوله..
هرعت إلى حقيبتها الممتلئة بالأدوية المجّانية، مدّت إلى زوجته علبتين وقالت بزهو :
_دواؤه عندي..هذا مخفّض للحرارة وهذا مسكّن سوف يجعله يرتاح ويتحسّن بسرعة..!
ابتهجت الزوجة وعانقتها:
_صديقتي أنت كالبلسم الشافي، إنه مريض منذ يومين، وكل يوم إضافي معناه المزيد من هدر المال..!
مطّت الممرضة شفتيها وقالت بثقة:
_كوني مطمئنّة سيشفى بسرعة، لا تنسي أنني الأخرى أريده أن يصلح سيارة زوجي..! غمغم بتأفف:
_تلك الخردة مرة أخرى !
رمقته زوجته بنظرة تهديد،وغادرت الغرفة رفقة صديقتها..!
حاول أن ينام قليلا، تقلب على جنبيه عدة مرات، كأنه ينام فوق الأشواك، يسقط في غفوة، فتوقظه حرارته المرتفعة..
سٓمِع وقعٓ خطوات تتجه نحو غرفته.حبس أنفاسه ، أرهف سمعه ثم تمتم بحنق:
_يا إلهي..لقد عادت بسرعة..!
جذب الغطاء حول نفسه متظاهرا بالنوم، سكنت كل حركاته ،فُتح الباب..اقتربت الخطوات..توقّفت بجانبه..امتدّت يد إلى جبينه تختبر حرارته..استغرب الأمر..تساءل:
_ماهذا الحنان الذي حلّ عليها فجأة..؟
بدأت اليد تسوّي الغطاء حول رجليه..ومرّت برفق فوق ظهره..تساءل حائرا:
_ماذا تفعل ؟ هل تتأكّد أنني نائم ؟انتقلت الخطوات إلى الجانب الآخر من السرير،شعر باليد تقترب من أنفه تتحسّس أنفاسه ..فكّر بخوف:
_يا إلهي هل تظنّ أني قد متّ..؟ مهلا ..هذه ليست رائحتها..مزيج غريب..القرنفل..الورد..الحنّاء..يا إلهي إنها أمّي..!
انتفض فجأة ورمى الغطاء..جفلت المرأة..ثم ابتسمت..جذب رأسها بكلتا يديه وقبّله بسرعة..استلقى على ظهره وسألها باستياء:
_هل رأتك..؟أجابته بصوت هامس:
_لا ..وجدت الباب مفتوحا..ليست هنا.. المرآب مقفل منذ أيام..وهذا أثار مخاوفي..قاطعها بخشونة:
_لقد تعرّضت لضربة شمس..! تنهّدت بحزن:
_لطالما أصبتَ بالحمّى في صغرك..وكنت أعالجك بماء الورد والأعشاب..قاطعها بفتور:
_وتضعينها في منديل ابيض وتلفّين به رأسي..!
تطلّع إلى الساعة بعصبية..ربّتت على كتفه وقالت:
_لا تقلق ..فقط استرخ ونم ، سوف أنصرف بعد لحظات..!
امتثل إلى أمرها واستدار، شعر بدوار وغثيان كأنه يركب أرجوحة السوق العالية، تداخلت الصور في مخيلته..وعلت أصوات داخله..صرخات..توسّلات..همهمات..أصوات غاضبة..الحاضر..الماضي..بيتُ والديه القديم..وأمه تقف في عتبته وتشير إليها:
_أخرجي ..إياك والعودة الى هنا..! وذلك الوجه المألوف يبكي ..يستعطفها للبقاء..!..وهو يقف حائرا بينهما..تنزع أمّه منديل رأسها ..ترميه على الأرض..تقول جملتها المعهودة بنبرة من الوعيد:
_إذا كان رضاي يهمّك طلّقها يا بنيّ..سأزوّجك بأفضل منها..! يحاول إثناء أمّه عن طردها..احتجّ بكلماتٍ واهية:
_ستطيعك أعدك بذلك..لم تذنب في شيء يا أمي ..!
شيّع زوجته الأولى مغلوبا على أمره بنظرات حزينة ...
تغيّرت الأصوات والوجوه فجأة..تناهى إلى سمعه صوت زوجته تصرخ بحقد وكراهية :
_اخرجي و إلا دفعتك من أعلى السلّم..!
أمه تتوسّل إليها وتتضرّع :
_إنه ابني فلذة كبدي ..لا يمكنك حرماني منه..!
تضع زوجته كلتا يديها حول خصرها وتصرخ بغضب:
_ألا يكفيك أنه يزورك من واء ظهري..؟
أمه تبكي:
_أنا من زوّجتك إياه..! تقهقه الزوجة عاليا بشماتة :
_لست الأولى ، مكسورة الجناح التي رميتِها خارجا..!
تلك الكلمات المتغطرسة يليها رجاء أمه وبكاؤها..تسكت الأصوات فجأة..ويخيّم سكون موحش .
سمع صوتا خافتا يتردّد بجانب رأسه :
_أبي ، أبي هل أنت نائم..؟
فتح عينيه وأجال بصره في الغرفة..كان الولد لا يزال يحمل حقيبته على ظهره، سأله هامسا :
_أبي هل تشاجرت مع أمي ؟لقد أردت تقبيلها لكنها دفعتني حتى كدت أسقط ..إنها غاضبة كثيرا..!
زفر والده باستياء وقال:
_ومتى كانت أمّك راضية ؟
ألقى ابنه حقيبته على الأرض ، اقترب منه ثم التفت بحذر نحو الباب وهمس في أذنه:
_هل زارتك جدتي اليوم ؟
فكّر والده للحظات..حمّى..نوم مضطرب..كابوس مزعج..ثم قال:
_لا يابني لماذا تسأل ؟ هزّ ابنه كتفيه وأجابه بحيرة :
_لا أدري يا أبي ، لكنّي لمحتها في نهاية الزقاق تكفكف دموعها !
ضرب الأب جبينه بكفّه وقال :_يا إلهي..!
حنين فيروز09/01/2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق