الاثنين، 19 أكتوبر 2015

قصة قصيرة______ فضّةٌ ونحاس/ الكاتبة فيروز حنين / المغرب ....

قصة قصيرة______ فضّةٌ ونحاس
جذب حسن طاقيته فوق وجهه وأسند رأسه إلى المقعد يمنّي نفسه بغفوة قصيرة تلتهم ولو جزء يسيرا من ساعات السفر المضنية،رنّ الهاتف فجأة فانتفض رغما عنه،وأدار وجهه منزعجا،يصر على أسنانه من الغيظ،كان رجلا في أواخر العقد الخامس من عمره،يرتدي جلبابا بنيّا وطاقية بيضاء،قبل لحظات كان يجوب المقطورات تباعا باحثا عن الهدوء وراحة البال،حتى عثر على مقطورة خالية إلا من رجل ربما يفوقه بعقد من الزمان، أنيق الهندام،يمسك كتابا في يده وهاتفا في اليد الأخرى..
غمغم ساخطا وهو يستمع إليه يحدث زوجته في الهاتف ويروي لها بإسهاب عن رحلته لتقديم واجب العزاء لأقاربه،تأفف وفكر..
_كم تخدعني المظاهر،فررت من ضجيج الشباب وهواتفهم المزعجة،فإذا بهذا الشيخ لا يقل عنهم ضجيجا!
عمّ الصمت هنيهة فتنهد بارتياح واسترخى محاولا النوم،ولم تمر دقائق معدودة حتى رنّ هاتف جاره مرة أخرى
نزع عن وجهه الطاقية بغضب ونظر إليه شزرا،دسّها في حقيبته وفكّر في نفسه..
"لا مفر من اجتذاب أطراف الحديث مع هذا الجار المزعج لأقلّص من الوقت الذي يتمدد رغما عني"
صاح فجأة وهو يحك رأسه ،بعدما عمّ السكون المقطورة ثانية:
_ما هي شروط الزواج الناجح في رأيك سيدي؟
تلفت الرجل حوله بحيرة باحثا عن شخص سواه،وتابع حسن بحماس:
_أقصد أنه لا داعي للحديث عن الجو ومشقة السفر..!
ابتسم الرجل وقال ببطء وهو ينزع نظاراته بهدوء:
_ليست هناك شروط محددة..ولا توجد قاعدة عامّة للزواج الناجح،هناك فقط توفيق إلهي..
مطّ حسن شفتيه وقال بامتعاض:
_تبدو رجلا حكيما لذلك لاشك أنه لديك نصيحة ما،أنوي أن أخطب لابني البكر فتاة اختارها بنفسه لكني أخشى أن تكون التعاسة من نصيبه مثل والده..
رفع الشيخ رأسه وقال بحزم:
_لا يمكنك فعل شيء لأجله،فقط أدع له بالتوفيق،هذه الحياة يا أخي عجيبة،لا شيء فيها يخضع إلى معيار ثابت،سأحكي لك قصة ستبدو لك غريبة لكنك ستفهم قصدي..
لانت أسارير حسن وعلت وجهه ابتسامة الظفر لبلوغه ما كان يصبو إليه منذ لحظات ،بينما مال الرجل على جانب الكرسي،وضع كتابه جانبا،ثم بدأ يحكي بنبرات هادئة:
_منذ سنوات عديدة،كان لي صديق عيّن مدرّسا في قرية نائية،كان وسيما وأنيقا فوق العادة،بإمكانه صرف كل راتبه حال استلامه على حذاء أو بذلة،أهل القرية لقبوه بالمعلم الأنيق،ورغم كونه ينحدر من إحدى البوادي إلا أنه كان يتصف بغطرسة وتكبر أهل المدينة،كانت المدرسة عبارة عن فصلين تتوسطهما باحة واسعة ويحيط بها سور من الأحجار المتراكمة بعضها فوق بعض،زميله في الفصل المجاور كان طيبا ذو ملامح سمحة،يشاركه التدريس والحديث وحتى الطبخ في الفصل،فالمدرسة كانت عملا ومأوى في الوقت ذاته..
توقف الرجل للحظات،التفت إليه حسن محاولا حثه على متابعة الحكاية،وهو يتأفف من مرور بعض الركاب ومقاطعتهم في كل مرة،استطرد الشيخ بصوت رزين:
_في جل الصباحات كانت فتيات القرية تمررن من جانب المدرسة لجلب الماء من البئر،يحملن دلاء حديدية،يثرثن تارة ويغنين تارة أخرى،وكانت صباح أشهرهن،فهي فتاة جميلة رغم أنها كانت تميل إلى البدانة قليلا،لكنها خفيفة الظل ومرحة،وترتدي دوما ذات الفستان الطويل ذو الألوان الربيعية، وتنفلت من وشاحها الوردي جديلة سميكة وراء ظهرها،لا يمكنها المرور من جانب سور المدرسة دون أن تحمل الدلو الحديدي عاليا وتضرب به مثل الدف،وتغني بأعلى صوتها ثم تحشر رأسها ودلوها في نافذة الفصل لتتابع غناءها،فيلتفت التلاميذ إليها ويبتسمون ،ثم تتابع طريقها مع رفيقاتها بنشاط ومرح،لطالما انزعج المدرّس من ضجيجها المتعمد من جانبها،لكنه اعتاد على مرحها وصخبها..
ذات مرة فوجئ بها تبكي ويد زميله تكفكف دموعها،ويطالبها بالمزيد من الصبر،أثارت دموعها استغرابه،خيّل إليه أنها مخلوق سعيد على الدوام، وينثر السرور والبهجة أينما حلّ وارتحل..
وحين أخبره زميله أنها تعاني الأمرين بسبب قسوة خالتها وزوجها وأنه ينوي الزواج منها،بارك الأمر ساخرا أنه على الأقل سيرتاح من غنائها وضربها على الدلو كل يوم..
ابتسم حسن وقال:
_تبدو حكاية طريفة أكمل يا سيدي!
بادله الرجل الابتسام وأومأ برأسه موافقا ثم استرسل قائلا:
_لكن القدر كان له رأي آخر،غاب زميله لظرف طارئ،وبقي وحده يحدث نفسه بملل،في إحدى الأمسيات خيّل إليه أنّ أحدا يقف أمام باب المدرسة ،حمل إحدى الشمعتين واقترب منه في حذر،كانت صباح تحمل رزمة وتغطي رأسها بوشاح كبير،جاءت تبحث عن زميله،وما لبثت أن انهارت وجلست أرضا تنتحب، أخذته الرأفة بها وحاول اسكاتها،حين هدأت رجته أن يقرضها ثمن الرحلة الى المدينة،شكت له قسوة خالتها وضرب زوجها المبرح لها بسبب وبدونه،
أشار عليها أن تمكث في الفصل الآخر حتى بزوغ الصباح وحينئذ يمكنها الرحيل،وافقته الرأي ونامت
حتى الفجر، وتسللت على أطراف أصابعها واتجهت نحو الطريق المعبدة لتستقل الحافلة إلى المدينة..
خيم الصمت والهدوء على القرية بعدما غادرها بلبلها السعيد،كانت مثل قائد فرقة موسيقية يجيد توزيع الألحان فيُخرِج إلى الوجود سمفونية صاخبة تنفض عن القرية الملل والسكون..
أومأ حسن برأسه بشرود،وحلق عاليا بخياله لثوانٍ قليلة نحو تلك القرية..ونبرات الرجل العميقة تشعره بالحنين إلى شيء ما..ثم سرعان ما التقط طرف حبل الحكاية من جديد..
_بعد أيام قليلة فوجئ برجال الشرطة يقفون عند رأسه ويركلونه،فيقوم مرتاعا جزعا ويقتادونه إلى مخفر القرية
وكانت هي هناك تجلس متكومة وهالات سوداء تقبع أسفل عينيها المتورمتين..
تزاحمت كل الاحتمالات في ذهنه إلا تلك التهمة الباطلة بالاعتداء على بلبل القرية السعيد،هاله الأمر وصعق لما سمع من نائب المركز، الذي أكد له أنه هناك شهود رأوها تغادر المدرسة فجرا،هاج وماج وأرغى وأزبد،وشعر كأنه فأر علق في المصيدة،حضر والده ونصحه بإحناء هامته أمام الريح حتى لا تقتلعه من جذوره،لا يزال يذكر كلماته تلك
"أبي ،أقسم أني لم أمسسها بسوء،لقد أخطأت حين قبلت مساعدتها ،هذا كل ذنبي"
ولا يزال يذكر كلمات أبيه الشيخ الوقور الهادئ على الدوام :
"أصدقك يا بني،لكنك الآن مجبر على الزواج منها،ولستُ في حاجة لأن أخبرك أن مستقبلك المهني على المحك"
كادت عينياه تفران من محجريهما من فرط الذهول وصباح تؤكد أمامه اتهامها الباطل..لو كان بإمكانه شيء حينئذ لأطبق على عنقها وخنقها حتى الموت..
كانت أسارير وجه حسن تلين تارة وتقسو تارة أخرى،قطب حاجبيه واعتدل في جلوسه وقال عابسا:
_يا إلهي،لقد انعطفت الحكاية نحو مسار سيء !
تابع الشيخ بهدوء:
_انهار صديقي باكيا منتحبا ينعي صفاء نيته ويناشدها أن تقول الحقيقة وصرخ في وجهها :
_صباح ..هل أذنبت حين مددت لك يد العون؟ يا إلهي أي شيطان يسكن روحك الشقية لترمينني بتهمة شنيعة كهذه؟
لكنها أصمت أذنيها على توسلاته ولزمت بالصمت،بينما نهره الضابط محذّرا إيّاه من محاولة إخافتها أو الضغط عليها،وما لبث أن استعاد هدوءه بعد ذلك ووافق على الزواج منها عازما على التنكيل بها!
تزوجها في حفل صغير أعده والده،لتداهمه صدمة أخرى ويتأكد أن صباح كذبت مرتين،مرة حين ادعت أنها لم تعد بكرا ومرة حين اتهمته بأنه المجرم المعتدي..
تشعبت الأفكار في رأسه وصارت ككبة من الصوف تلاعب بها هرّ صغير فأفسدها،لكن صباح فرزت الخيوط ببساطة،فأسرت له أنها لم تكن تملك خيارا آخر،فخالتها عبثا لم تصدق أنها هربت من بطشها إلى قريبة لها في المدينة، وأن المعلم لم يمسسها بسوء وأجبرتها على ذلك الادعاء الباطل..
قهقه حسن ضاحكا وهو يداعب لحيته بأصابعه الطويلة :
_فعلا كيدهن عظيم..!
تابع الشيخ حديثه متجاهلا ملاحظة جاره:
_شعر المعلم الأنيق بالمهانة وهو يتساءل كيف لفتاة بدوية وأمية أن تحطم غروره هكذا وتحرمه من اختيار شريكة عمره ؟وكان لابد له من الابتعاد عن القرية،فأهلها لم يجدوا مادة دسمة،غير قصة صباح والمعلم الوسيم،كما أن زميله عاد ورثى زمن الوفاء والفضيلة ،لكن آخر شيء كان يهمه هو تبرئة ساحته،لذلك اكتفى بالرحيل من القرية بصمت
وبالرغم من عفة صباح إلا أنه لم يغفر لها جرمها،وأذاقها ألوان الألم والحرمان والعذاب،لكنها كانت كنخلة شامخة صبورة لتقلبات المناخ، طرحت ثمارا طيبة،ونجحت في ترويض وحش الغضب والانتقام داخله،ومضت السنون بهناء ورخاء،وعوّضته بحنانها وصبرها عن يتمه،فكانت له الأم التي حرم منها في طفولته ،والزوجة المثالية،كانت من معدن فضي أصيل،التي لو بحثتُ عنها شبرا شبرا ما وجدتُ ظفرا يشبه ظفرها..
ضرب حسن كفّا بكف وقال:
_والله حكاية عجيبة،ولكن زلة لسانك يا أخي أوضٓحَت أنك صاحب الحكاية،أنت حقا رجل محظوظ !
وأردف بمرارة:
_بارك الله لك فيها،أنا عكسك تماما،أشاح ببصره نحو نافذة القطار وتابع بحزن:
_فزوجتي من معدن نحاسي،لا..لا حتى النحاس سيلمع إذا قمنا بفركه ،أعتقد أنها من قصدير صدئ،فهي لا تسأل عني أبدا إذا غبت،،ولا تهتم لأمري بتاتا،عالمها فيه كل شيء تافه إلا أنا،كأنها إمرأة انبثقت من الجليد،لديها كمّ من العناد والبرود يستشري في البيت فيركل كل دفء خارجه،،لا تهتم بما يدور حولها،ويندر أن أراها تنفعل أو تتاثر لأجل شيء ما،وحتى أهلي انفضّوا من حولي بسبب سوء معاملتها لهم وقلة اكثراتها،بالإضافة إلى تهاونها وكسلها،فنحن نتناول الإفطار وقت الغذاء ونتناول الغذاء في المساء،أما العشاء فننتظره حتى يداهمنا النعاس فننسى أمره..
اعتدل الشيخ في جلوسه،ونظر مليا إلى جاره،بينما تابع حسن بأسى:
_أحيانا أشعر أنه عقاب من القدر على تعنتي وغروري،ففي كل مرة تختار لي أخواتي عروسا،كنت أنقب عن عيب فيها حتى مللن مني ونسين أمري،إلى أن عرّفني بأسرتها الطيبة أحد أصدقائي،ما أستغربه يا أخي أنني وافقت على الزواج بها منذ الوهلة الأولى،رغم كونها ليست جميلة ولا جذابة ولا أي شيء بالمرة،أظنه القدر أعمى بصري،حتى مشاعر الأمومة لا تملك منها قيراطا واحدا،وصرت الأب والأم في آن واحد،أقسم أنني من سهر على تربيتهم منذ لحظة ميلادهم،أغير الحفاظات،أهدهدهم حتى يناموا،ألاعبهم وأهتم بكلما يخصهم لحدّ الساعة ،كأرمل وفيّ اختطفت يد المنون زوجته..
زفر بضيق وتابع:
_يحز في نفسي يا أخي أنها من اختياري،ولم يجبرني عليها قدرٌ ولا بشرٌ،وليت أحدهم أرغمني على الزواج منها،لألقيت عليه باللوم ولأرحت ضميري لكنني من جلب هذه التعاسة لحياتي،فصبرت على برودها وقسوتها لأجل أبنائي..
ربت الشيخ على كتفه قائلا:
_هوّن عليك يا أخي!
انبعث صوت نسائي رقيق من مكبرات الصوت يخبر الركاب باقتراب وصول القطار إلى المحطة الأخيرة..
ابتهج حسن وهتف:
_لقد ارتحت إليك كثيرا وسأكون شاكرا لك إن رافقتني لخطبة تلك الفتاة لابني،أشعر أنك ستفيدني بطريقة ما..
همّ الشيخ بالاعتراض ،لكن حسن قام فجأة وقبّل رأسه قائلا:
_أحلفك بأغلى شيء لديك،لا تعترض..
غمغم الرجل وهو يحاول التملص من قبضة الرجل الممسك برأسه:
_حسن،سأرافقك،آمل ألا يكون منزل أصهارك بعيدا،لأنني الآخر أنتظر ضيوفا.
مدّ حسن إليه ورقة صغيرة وقال
_صدقا لا ادري،اقرأ العنوان،أنت أدرى مني بهذه المدينة الأخطبوط التي ابتلعت ابني !
رفع الرجل حاجبيه وفغر فاه في دهشة عظيمة:
_غير معقول،هذا عنوان بيتي !
صاح حسن فرحا :
_لقد أخبرني ابني أن الفتاة ابنة لمدرس متقاعد،يا لها من صدفة رائعة!
ثم انحنى على الشيخ يعانقه بحرارة ويقول:
_هذه المرة اتخذت حكايتنا مسارا مفاجئا لنا معا!
وقهقها ضاحكين .
حنين فيروز 8/10/2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق