(قصة قصيرة مستوحاة من الواقع المعاش) المنشورة في صحيفة (الزمان) الغراء في يوم السبت 5 / 9 والمعدلة عن السابق... مع التحية
(كانوا) أربعة أخوة
– نصوص –
منهل الهاشمي
كانوا اربعة اخوة … علي الساعدي، وعمر الدليمي، وكاكة كاميران، وباسل الكلداني… جمعتهم مقاعد الدراسة الجامعية, حيث قبلوا سوية مطلع الثمانينات في كلية الآداب / قسم اللغة الانكليزية. وقضوا سنين دراستهم بأكملها في صف واحد وتخرجوا سوية ايضا ليلتحقوا بالخدمة العسكرية اثناء فترة الحرب العراقية ـ الإيرانية. وشاء القدر ان يجمعهم الصنف نفسه (المشاة) ونفس الوحدة العسكرية ومقر السرية ، ليأكلوا من (قصعة) واحدة ، وليشربوا ماء دجلة من الخزان (التانكي) نفسه. كانوا يقضون فترات الاستراحة بعد ان ينهوا واجباتهم في حراسة المقر وفي الفترات التي تخلو من المعارك, وهم يتسامرون ويمزحون ويتحدثون في اثناء استراحة المحارب هذه عن أفكارهم وهواجسهم.. ارهاصاتهم ودواخلهم النفسية.. عواطفهم.. وطموحاتهم المستقبلية اذا ما انتهت الحرب وبقوا أحياء سالمين وسُرّحوا من الخدمة. سارقين لحظات ممتعة من الزمن الملون بلون النار والدم, محاولين التناسي ولو للحظات جحيم المعارك ولهيبها الجنوني الذي يصطليهم بين الحين والآخر. وفي اغلب هذه الأوقات المختلسة من عمر الزمن كانوا يخوضون في الحديث عن مشاعرهم العاطفية ويبث كل منهم للآخر شوقه, ولوعته, ولهفته لمعشوقته ومعبودته التي تركها بعيدا هناك. فكان علي يتحدث لهم عن مدى حبه واشتياقه لإبنة الجيران (زهراء) في منطقته التي يقطنها (الزعفرانية), حينما كانا يسرقان فرحة اللقاء السري من بين اهاليهما, ليتناجيا وليتبادلا مشاعر الهوى.. والجوى.. واللوعة, معبرين عن مكابدة لهيب نار الشوق التي تعشش في قلبيهما وجسديهما معا. كان علي آنذاك يلقي على مسامع أخوته أشعار (الابوذية) والدارميات العاطفية التي كان يكتبها خصيصا لها, وكيف كانت تشعر حينها بسعادة وفرح غامرين عند سماعها لها, لتبادله عشقاً بعشق.. ولهاً بوَلَه.. هياماً بهيام… وجنوناً بجنون !!. في حين ان عمر يحكي لهم عن حبيبته (وسن) والتي هي في الوقت نفسه ابنة عمه وتسكن معه في الرمادي, وكيف انهما كانا يعزمان الزواج لاكثر من مرة ولكن ظروف الحرب وظروفه المادية المتعسرة كانتا تحولان دون ذلك. اما كاميران فيحدثهم عن حبه الجنوني لفتاته (فيان) التي تسكن معه في قرية (سرسنكـ) في دهوك, عندما كانا يختلسان لذّات الحب والغرام والقبلات بين أشجار الجوز والتين الباسقة المُعمِرة في الحقول والبساتين الغنّاء لهذه المدينة الساحرة الخلاّبة. اما باسل فيحكي لهم عن مدى ولعه وتعلقه بفتاته (جانيت) التي تسكن معه في (بعشيقة). حينما كانا يتبادلان الهدايا والورود والتذكارات الجميلة المغمسة باصدق مشاعر الحب والحنين والوفاء الصادقة, وهما يحتفلان معاً بإضاءة النشرات الضوئية التي تغطي اشجار (الكريسماس) الجميلة البهيجة, مرتديان ملابس (بابا نوئيل), ضاحكين بفرح غامر وليطفئا سوية الشموع عندما تدق الساعة دقّات منتصف الليل معلنة بدء عام جديد. ولم تكن ايام هؤلاء الاخوة وقت العسكرية تخلو في الكثير من المرات من المقالب والمشاكسات التي يقوم بها كل واحد بالاخر, في محاولة منهم لسرقة لحظات جميلة ممتعة او ضحكة بريئة ودودة صافية من القلب ينتزعوها إنتزاعاً من القدر والظروف في خضم سيل من النار والدمار والدماء. ففي فترات الهدوء مابين المعارك, كثيرا ماكان علي يشاكس عمر عند قيامهم بواجب الحراسة, حيث يقوم علي بايقاظه ليسلمه الواجب وهو يخبره بأنَّ الساعة الان هي (الثانية) ليلا وقت واجبه, فيقوم عمر بحسن نية – وهو لايملك ساعة – بمسك الحراسة. لكنه بعد ان طال به الوقت اكثر من اللازم اخذ يتململ ويشعر بأن ساعتي الواجب المفروضة عليه بدت له طويلة جدا خاصة وان الفجر قد لاح, وعندما استيقظ باسل من نومه لان واجبه قد حان سأله عمر عن الوقت فأجابه بأنها (الرابعة) فجرا !!. فأدرك ان الساعة لم تكن (الثانية) كما اخبره علي بل (الثانية عشر) , أي انه مسك الحراسة بدل علي ليصبح واجبه (4) ساعات بدل ساعتين !!. جُنَّ جنونه وأيقظ بعصبية علي الذي كان يغط في نومه, فنهض فزعا عندما شاهد عمر وقد تملكه الانفعال والغضب محاولاً تصنّع البراءة والبلاهة, ولكن حينما همَّ عمر أنْ يمسكه ويقتص منه, هرب ضاحكا والأخير يلاحقه ويشتمه لاعنا اياه والساعة التي عرفه فيها. بعد هذا المقلب بادله عمر باكثر من مقلب، وكذلك تبادل باسل وكاميران معهما هذا المقلب… وهكذا ظل الاربعة يتبادلون المقالب من هذا النوع حتى اضطر كل واحد منهم في النهاية ان يشتري ساعة يدوية , بعد أنْ انعدمت بينهم الثقة !!.
وفي احدى المعارك الكبيرة اصيب عمر اثناء القتال بشظايا متفرقة في جسده من احدى القذائف فسقط في ارض المعركة نازفا بشدة ولا يقوى على الحركة. حينما شاهده علي الذي كان هو الاخر مشغولا تماما بالقتال, هبَّ من فوره رغم كثافة النيران الجنونية الممطرة المتبادلة بين الجانبين وحاول إخلاءه نحو مقر السرية، فاصابته قذيفة بترت ساقة اليمنى في الحال. فوراً وقع مغشياً عليه بجانب عمر، غارقا بدمه التي اختلطت بدماء عمر. بعد لحظات حينما انتبه كل من باسل وكاميران اللذَين كانا ايضا في غمرة القتال بسقوط علي وعمر, استنجدا من فورهما بمفرزة طبية وذهبا معها لاخلاء اخويهما من ساحة المعركة غير مبالين بنار القذائف الغزيرة التي كانت تتساقط فوقهم متناثرة كما المطر وقد احالت الليل نهارا. تمكنوا من اخلائهما بعد لأي. أُجريت الاسعافات الاولية السريعة لايقاف نزف علي وعمر وسط دعوات, وقلق, وهلع باسل وكاميران. وبسبب من نزفهما الشديد المتواصل احتاجا حالا لنقل دم. دونما ادنى تردد تبرع لهما باسل وكاميران بدمائهما لإنقاذهما. بعد مدة من انتهاء هذه المعركة الضارية الشرسة, استفاق علي من غيبوبته وعلم ببتر ساقه. جاءه عمر مغرورق العينين ليحضنه بقوة شديدة، قائلا له بصوت يقطرُ مودةً وإمتناناً : (لا ادري ما اقول لك… انا مدين لك بحياتي… فقدت ساقك من اجلي …. ولولاك ياعلي لهلكت !!). اجابه علي بصوت ودود واهن وهو يربت على يديه مهوّناً عليه : (لا تبكِ ياعمر… يكفي انني فعلت هذا لأنك عمر !!). واردفَ بلهجة تفيض إممتناناً : (وعلى اي حال فكلانا مدينان ايضا لباسل وكاميران فلولاهما ما كنا الآن لنشمُّ الهواء)…. وراح الاثنان في عناق حار ودّي طويل وسط دموعهما المنهمرة التي اختلطت سوية كما اختلطت دماؤهما من قبل. إنتهت الحرب الجنونية الضارية الطويلة بكل آلامها, وعذاباتها, وجراحاتها… وشهدائها ومعاقيها واسراها ومفقوديها… وسنيّها المرة السود. تسرّحوا سوية من الخدمة بإستثناء علي الذي سُرّح قبهلم معفياً من الخدمة بسبب عوقه. عاد كل منهم الى مدينته ، بيد أنهم بقوا متواصلين فيما بينهم من خلال الاتصالات الهاتفية والرسائل. لم يمضِ سوى عامين على انتهاء الحرب المهلكة تلك حتى صحا الشعب بأجمعه مباغتا مصدوما مذهولاً ببيان يعلن دخول الكويت في 2 آب 1990 وضمّها للعراق واستعادتها كمحافظة تاسعة عشرة !!. ما ترتب عليها من حرب الخليج الثانية لقوات التحالف الدولي ضد العراق عام 1991 التي دمرته وانهته تماما. لكن كان من حسن حظ الثلاثة السالمين أَنَّ مواليدهم لم تستدعَ للخدمة حينها. وتوالت سنوات التسعينات العجاف… سنوات الحصار الجائر على الشعب المظلوم المبتلى… السنوات الطويلة الخانقة المعتمة… سنيّ الفاقة والجوع والعَوَز والحرمان والقحط والذل والهوان. اضطر علي للعمل على بسطة متواضعة جدا لبيع الادوات الكهربائية البسيطة في شارع (عقد النصارى) بعد ان ركّبَ له طرفا صناعيا لساقه اليمنى. ورغم ذلك فقد كان باستمرار مع بقية اقرانه اصحاب البسطات الاخرى يهربون بأغراضهم خائفين مسرعين كلما داهمتهم مفارز البلدية. ورغم عوقه كان علي يحاول الهرب مذعوراً وهو يعرج مسرعا قدر استطاعته. وكثيرا ما كانت اغراضهم الكهربائية البسيطة تتبعثر في الشارع وقتما هربوا مسرعين. وكثيرا ـ ايضا ـ ماخانته ساقه الصناعية في الهرب فيمسكه موظفو البلدية ويركلوا بسطته بكل تجبر, وطغيان, وتسلط بعد أنْ خابت معهم كل توسلاته وقبلاته لهم. فيهينوه بأقذع الشتائم وبألفاظ نابية في غاية البذاءة والدناءة, مهدديه بمنتهى الغِلظة.. والصَلَف.. والعَنَت بانه في حال ضبطه مرة اخرى ببسطته سيصادرون اغراضه ويودعوه التوقيف. يلملم اغراضه البسيطة المتناثرة على طول الرصيف والشارع بمنتهى المذلة والمهانة, وقد اغرورقت عيناه بالدموع وخنقته العَبْرَة, مغالباً نفسه قدر ما يستطيع بعد أنْ أوشك على الانهيار بكاءً ونشيجاً لفرط احساسه المرير بالذل والاحتقار والضآلة والصِغَر…. وهو الذي قدّمَ ساقه دفــــــــاعا عن الوطن !!!.
اما عمر فقد اضطر لأن يعمل مدرسا للغة الانكليزية في احدى مدارس الرمادي الثانوية براتب 3) ) الاف دينار فقط. وبعد الدوام كان يعمل على ماكنة لـِ (الحَب والشامية) ليتدبر قوت يومه لأن راتبه ما كان يكفيه سوى يومين او ثلاثة حاله حال اي موظف آخر , وهو في الوقت ذاته يرفض بشدة ويأنف شرعيا واخلاقيا متعففاً عن تعاطي الرِشا وبيع الاسئلة الامتحانية للطلبة كما تفشى في تلك الفترة التعِسة. وكثيرا ماكان طلابه ـ الذين كان يحاول ان يخفي حرجه وخجله منهم ـ يشترون منه لا لرغبتهم بالـ (الحَب والشامية) وشهيتهم لها , ولكن ليربحوه من باب العطف والشفقة !!. في حين ان كاميران استقر في قريته (سرسنكـ) مزارعا بسيطا ، يزرع كروم العنب والخوخ والاجاص والكمثرى، وقد أصبح من الصعب عليه التواصل مع اخوته بعد انشاء اقليم كردستان على اثر تلك الحرب .اما باسل فقد هاجر مع عائلته الى السويد ليعمل هناك في احد (المولات). بيدَ أنَّ القدر الوحيد الذي حالفهم الحظ فيه هو زواج كل منهم من الفتاة التي عشقها. وهكذا أنجبَ علي ولداً اسماه (عمر)… اما عمر فأنجبَ ولداً اسماه (علي)… وكاميران انجب ولداً اسماه (باسل)… وباسل انجب ولداً اسماه (كاميران).
بعد سقوط النظام عام 2003 عاد باسل مع عائلته الى العراق. واخذ كاميران يزور بغداد باستمرار. وفي احدى امسيات آب عام 2007 اجتمع الأربعة في احد مقاهي بغداد, واستذكروا أيامهم الجميلة الخوالي في الكلية والمقالب والمشاكسات التي كانوا يتبادلونها في الكلية والعسكرية, وأنجالهم الذين سمّى كل واحد منهم بِكْرِهِ بأسم اخيه… وفجأة !!.. قطع انشغالهم بالحديث خبر في النشرة الاخبارية التلفازية يفيد : (بالعثور هذا اليوم على “150 ” جثة مقيدة اليدين, معصوبة العينين, مقطوعة الرأس، مُمثّل بها… ومجهولة الهوية !!!). في ذروة الاحداث الطائفية التي عصفت بالبلاد في تلك الفترة الكالحة الحالكة. أيقظهم هذا الخبر الفظيع والمريع من نشوة وسكرة السعادة التي ثملوا بها بسبب لقائهم بعد طول فراق, وذكّرهم بما يحدث يوميا من جرائم على هذا المنوال وأفظع. فهزهم من الأعماق, وكاد يصيبهم الجنون …. ماالذي يجري في العراق ؟!!… أَخ يختطف اخاه ، يعذبه ، يقطع رأسه، ثم يمثّل بجثته ويحرقها… كل هذا بسبب (الهوية) ؟!!!… أي جنون هذا ؟!!… وأية وحشية وبربرية تعافُها وتنكرها حتى وحوش الارض الضواري ؟!!!… ألم يكونوا هم الاربعة المختلفين طائفيا وقوميا ودينيا, اخوة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ انسانية سامية ونبيلة طيلة تلك السنين ؟!!!… أَلمْ يأكلوا من (قُصعة) واحدة, وشربوا سوية من نفس ماء (التانكي) في الجيش ؟!!…. أَوَ لمْ يفتدِ علي (ابو عمر) … عمر (ابو علي) بروحه وفقد ساقه على اثرها بمحاولة اخلائه من ساحة المعركة ؟!!… أَوَ لمْ ينقذ حياتهما باسل وكاميران بتبرعهما بدمائهما.. فغدت الدماء التي تجري في عروقهم جميعاً مختلطة ببعضها البعض وبات من المستحيل التفريق بينها ؟!!!… أَوَ لمْ يُسمِ كل منهم اسم بِكرِهِ بأسم اخيه تيمناً ومحبة به ؟!!… ما الذي يجري ؟!!!.
هنا… في هذه اللحظة عزم كل منهم على امرٍ ما. قرر باسل فورا العودة مهاجراً الى السويد مع عائلته. كاميران قرر أَنْ يستقر نهائيا في قريته (سرسنكَـ) ليعمل مزارعا كما كان من دون عودة الى بغداد. في حين أنَّ علي وعمر قد ترجيا باسل بشدة أنْ يحاول يدبر لهما لجوءاً انسانياً الى السويد حالما يستقر هناك لأن العيش في العراق بات مستحيلا في ظل جنون السادية هذه. فوعدهما باسل صادقاً بأنه سيفعل كل مابوسعه. حالما خرجوا من المقهى للشارع متشابكي الايدي ، وقبل أنْ يودّع كل منهم الاخر ، واذا بسيارة حمل مفخخة تنفجر بمحاذاتهم لتحيلهم فوراً الى فتافيت لأشلاء مبعثرة مختلطة سوية بدمائهم …. رحمهم الله….. (كانوا) أربعة اخوة !!!.
{ كاتب وأكاديمي }
(كانوا) أربعة أخوة
– نصوص –
منهل الهاشمي
كانوا اربعة اخوة … علي الساعدي، وعمر الدليمي، وكاكة كاميران، وباسل الكلداني… جمعتهم مقاعد الدراسة الجامعية, حيث قبلوا سوية مطلع الثمانينات في كلية الآداب / قسم اللغة الانكليزية. وقضوا سنين دراستهم بأكملها في صف واحد وتخرجوا سوية ايضا ليلتحقوا بالخدمة العسكرية اثناء فترة الحرب العراقية ـ الإيرانية. وشاء القدر ان يجمعهم الصنف نفسه (المشاة) ونفس الوحدة العسكرية ومقر السرية ، ليأكلوا من (قصعة) واحدة ، وليشربوا ماء دجلة من الخزان (التانكي) نفسه. كانوا يقضون فترات الاستراحة بعد ان ينهوا واجباتهم في حراسة المقر وفي الفترات التي تخلو من المعارك, وهم يتسامرون ويمزحون ويتحدثون في اثناء استراحة المحارب هذه عن أفكارهم وهواجسهم.. ارهاصاتهم ودواخلهم النفسية.. عواطفهم.. وطموحاتهم المستقبلية اذا ما انتهت الحرب وبقوا أحياء سالمين وسُرّحوا من الخدمة. سارقين لحظات ممتعة من الزمن الملون بلون النار والدم, محاولين التناسي ولو للحظات جحيم المعارك ولهيبها الجنوني الذي يصطليهم بين الحين والآخر. وفي اغلب هذه الأوقات المختلسة من عمر الزمن كانوا يخوضون في الحديث عن مشاعرهم العاطفية ويبث كل منهم للآخر شوقه, ولوعته, ولهفته لمعشوقته ومعبودته التي تركها بعيدا هناك. فكان علي يتحدث لهم عن مدى حبه واشتياقه لإبنة الجيران (زهراء) في منطقته التي يقطنها (الزعفرانية), حينما كانا يسرقان فرحة اللقاء السري من بين اهاليهما, ليتناجيا وليتبادلا مشاعر الهوى.. والجوى.. واللوعة, معبرين عن مكابدة لهيب نار الشوق التي تعشش في قلبيهما وجسديهما معا. كان علي آنذاك يلقي على مسامع أخوته أشعار (الابوذية) والدارميات العاطفية التي كان يكتبها خصيصا لها, وكيف كانت تشعر حينها بسعادة وفرح غامرين عند سماعها لها, لتبادله عشقاً بعشق.. ولهاً بوَلَه.. هياماً بهيام… وجنوناً بجنون !!. في حين ان عمر يحكي لهم عن حبيبته (وسن) والتي هي في الوقت نفسه ابنة عمه وتسكن معه في الرمادي, وكيف انهما كانا يعزمان الزواج لاكثر من مرة ولكن ظروف الحرب وظروفه المادية المتعسرة كانتا تحولان دون ذلك. اما كاميران فيحدثهم عن حبه الجنوني لفتاته (فيان) التي تسكن معه في قرية (سرسنكـ) في دهوك, عندما كانا يختلسان لذّات الحب والغرام والقبلات بين أشجار الجوز والتين الباسقة المُعمِرة في الحقول والبساتين الغنّاء لهذه المدينة الساحرة الخلاّبة. اما باسل فيحكي لهم عن مدى ولعه وتعلقه بفتاته (جانيت) التي تسكن معه في (بعشيقة). حينما كانا يتبادلان الهدايا والورود والتذكارات الجميلة المغمسة باصدق مشاعر الحب والحنين والوفاء الصادقة, وهما يحتفلان معاً بإضاءة النشرات الضوئية التي تغطي اشجار (الكريسماس) الجميلة البهيجة, مرتديان ملابس (بابا نوئيل), ضاحكين بفرح غامر وليطفئا سوية الشموع عندما تدق الساعة دقّات منتصف الليل معلنة بدء عام جديد. ولم تكن ايام هؤلاء الاخوة وقت العسكرية تخلو في الكثير من المرات من المقالب والمشاكسات التي يقوم بها كل واحد بالاخر, في محاولة منهم لسرقة لحظات جميلة ممتعة او ضحكة بريئة ودودة صافية من القلب ينتزعوها إنتزاعاً من القدر والظروف في خضم سيل من النار والدمار والدماء. ففي فترات الهدوء مابين المعارك, كثيرا ماكان علي يشاكس عمر عند قيامهم بواجب الحراسة, حيث يقوم علي بايقاظه ليسلمه الواجب وهو يخبره بأنَّ الساعة الان هي (الثانية) ليلا وقت واجبه, فيقوم عمر بحسن نية – وهو لايملك ساعة – بمسك الحراسة. لكنه بعد ان طال به الوقت اكثر من اللازم اخذ يتململ ويشعر بأن ساعتي الواجب المفروضة عليه بدت له طويلة جدا خاصة وان الفجر قد لاح, وعندما استيقظ باسل من نومه لان واجبه قد حان سأله عمر عن الوقت فأجابه بأنها (الرابعة) فجرا !!. فأدرك ان الساعة لم تكن (الثانية) كما اخبره علي بل (الثانية عشر) , أي انه مسك الحراسة بدل علي ليصبح واجبه (4) ساعات بدل ساعتين !!. جُنَّ جنونه وأيقظ بعصبية علي الذي كان يغط في نومه, فنهض فزعا عندما شاهد عمر وقد تملكه الانفعال والغضب محاولاً تصنّع البراءة والبلاهة, ولكن حينما همَّ عمر أنْ يمسكه ويقتص منه, هرب ضاحكا والأخير يلاحقه ويشتمه لاعنا اياه والساعة التي عرفه فيها. بعد هذا المقلب بادله عمر باكثر من مقلب، وكذلك تبادل باسل وكاميران معهما هذا المقلب… وهكذا ظل الاربعة يتبادلون المقالب من هذا النوع حتى اضطر كل واحد منهم في النهاية ان يشتري ساعة يدوية , بعد أنْ انعدمت بينهم الثقة !!.
وفي احدى المعارك الكبيرة اصيب عمر اثناء القتال بشظايا متفرقة في جسده من احدى القذائف فسقط في ارض المعركة نازفا بشدة ولا يقوى على الحركة. حينما شاهده علي الذي كان هو الاخر مشغولا تماما بالقتال, هبَّ من فوره رغم كثافة النيران الجنونية الممطرة المتبادلة بين الجانبين وحاول إخلاءه نحو مقر السرية، فاصابته قذيفة بترت ساقة اليمنى في الحال. فوراً وقع مغشياً عليه بجانب عمر، غارقا بدمه التي اختلطت بدماء عمر. بعد لحظات حينما انتبه كل من باسل وكاميران اللذَين كانا ايضا في غمرة القتال بسقوط علي وعمر, استنجدا من فورهما بمفرزة طبية وذهبا معها لاخلاء اخويهما من ساحة المعركة غير مبالين بنار القذائف الغزيرة التي كانت تتساقط فوقهم متناثرة كما المطر وقد احالت الليل نهارا. تمكنوا من اخلائهما بعد لأي. أُجريت الاسعافات الاولية السريعة لايقاف نزف علي وعمر وسط دعوات, وقلق, وهلع باسل وكاميران. وبسبب من نزفهما الشديد المتواصل احتاجا حالا لنقل دم. دونما ادنى تردد تبرع لهما باسل وكاميران بدمائهما لإنقاذهما. بعد مدة من انتهاء هذه المعركة الضارية الشرسة, استفاق علي من غيبوبته وعلم ببتر ساقه. جاءه عمر مغرورق العينين ليحضنه بقوة شديدة، قائلا له بصوت يقطرُ مودةً وإمتناناً : (لا ادري ما اقول لك… انا مدين لك بحياتي… فقدت ساقك من اجلي …. ولولاك ياعلي لهلكت !!). اجابه علي بصوت ودود واهن وهو يربت على يديه مهوّناً عليه : (لا تبكِ ياعمر… يكفي انني فعلت هذا لأنك عمر !!). واردفَ بلهجة تفيض إممتناناً : (وعلى اي حال فكلانا مدينان ايضا لباسل وكاميران فلولاهما ما كنا الآن لنشمُّ الهواء)…. وراح الاثنان في عناق حار ودّي طويل وسط دموعهما المنهمرة التي اختلطت سوية كما اختلطت دماؤهما من قبل. إنتهت الحرب الجنونية الضارية الطويلة بكل آلامها, وعذاباتها, وجراحاتها… وشهدائها ومعاقيها واسراها ومفقوديها… وسنيّها المرة السود. تسرّحوا سوية من الخدمة بإستثناء علي الذي سُرّح قبهلم معفياً من الخدمة بسبب عوقه. عاد كل منهم الى مدينته ، بيد أنهم بقوا متواصلين فيما بينهم من خلال الاتصالات الهاتفية والرسائل. لم يمضِ سوى عامين على انتهاء الحرب المهلكة تلك حتى صحا الشعب بأجمعه مباغتا مصدوما مذهولاً ببيان يعلن دخول الكويت في 2 آب 1990 وضمّها للعراق واستعادتها كمحافظة تاسعة عشرة !!. ما ترتب عليها من حرب الخليج الثانية لقوات التحالف الدولي ضد العراق عام 1991 التي دمرته وانهته تماما. لكن كان من حسن حظ الثلاثة السالمين أَنَّ مواليدهم لم تستدعَ للخدمة حينها. وتوالت سنوات التسعينات العجاف… سنوات الحصار الجائر على الشعب المظلوم المبتلى… السنوات الطويلة الخانقة المعتمة… سنيّ الفاقة والجوع والعَوَز والحرمان والقحط والذل والهوان. اضطر علي للعمل على بسطة متواضعة جدا لبيع الادوات الكهربائية البسيطة في شارع (عقد النصارى) بعد ان ركّبَ له طرفا صناعيا لساقه اليمنى. ورغم ذلك فقد كان باستمرار مع بقية اقرانه اصحاب البسطات الاخرى يهربون بأغراضهم خائفين مسرعين كلما داهمتهم مفارز البلدية. ورغم عوقه كان علي يحاول الهرب مذعوراً وهو يعرج مسرعا قدر استطاعته. وكثيرا ما كانت اغراضهم الكهربائية البسيطة تتبعثر في الشارع وقتما هربوا مسرعين. وكثيرا ـ ايضا ـ ماخانته ساقه الصناعية في الهرب فيمسكه موظفو البلدية ويركلوا بسطته بكل تجبر, وطغيان, وتسلط بعد أنْ خابت معهم كل توسلاته وقبلاته لهم. فيهينوه بأقذع الشتائم وبألفاظ نابية في غاية البذاءة والدناءة, مهدديه بمنتهى الغِلظة.. والصَلَف.. والعَنَت بانه في حال ضبطه مرة اخرى ببسطته سيصادرون اغراضه ويودعوه التوقيف. يلملم اغراضه البسيطة المتناثرة على طول الرصيف والشارع بمنتهى المذلة والمهانة, وقد اغرورقت عيناه بالدموع وخنقته العَبْرَة, مغالباً نفسه قدر ما يستطيع بعد أنْ أوشك على الانهيار بكاءً ونشيجاً لفرط احساسه المرير بالذل والاحتقار والضآلة والصِغَر…. وهو الذي قدّمَ ساقه دفــــــــاعا عن الوطن !!!.
اما عمر فقد اضطر لأن يعمل مدرسا للغة الانكليزية في احدى مدارس الرمادي الثانوية براتب 3) ) الاف دينار فقط. وبعد الدوام كان يعمل على ماكنة لـِ (الحَب والشامية) ليتدبر قوت يومه لأن راتبه ما كان يكفيه سوى يومين او ثلاثة حاله حال اي موظف آخر , وهو في الوقت ذاته يرفض بشدة ويأنف شرعيا واخلاقيا متعففاً عن تعاطي الرِشا وبيع الاسئلة الامتحانية للطلبة كما تفشى في تلك الفترة التعِسة. وكثيرا ماكان طلابه ـ الذين كان يحاول ان يخفي حرجه وخجله منهم ـ يشترون منه لا لرغبتهم بالـ (الحَب والشامية) وشهيتهم لها , ولكن ليربحوه من باب العطف والشفقة !!. في حين ان كاميران استقر في قريته (سرسنكـ) مزارعا بسيطا ، يزرع كروم العنب والخوخ والاجاص والكمثرى، وقد أصبح من الصعب عليه التواصل مع اخوته بعد انشاء اقليم كردستان على اثر تلك الحرب .اما باسل فقد هاجر مع عائلته الى السويد ليعمل هناك في احد (المولات). بيدَ أنَّ القدر الوحيد الذي حالفهم الحظ فيه هو زواج كل منهم من الفتاة التي عشقها. وهكذا أنجبَ علي ولداً اسماه (عمر)… اما عمر فأنجبَ ولداً اسماه (علي)… وكاميران انجب ولداً اسماه (باسل)… وباسل انجب ولداً اسماه (كاميران).
بعد سقوط النظام عام 2003 عاد باسل مع عائلته الى العراق. واخذ كاميران يزور بغداد باستمرار. وفي احدى امسيات آب عام 2007 اجتمع الأربعة في احد مقاهي بغداد, واستذكروا أيامهم الجميلة الخوالي في الكلية والمقالب والمشاكسات التي كانوا يتبادلونها في الكلية والعسكرية, وأنجالهم الذين سمّى كل واحد منهم بِكْرِهِ بأسم اخيه… وفجأة !!.. قطع انشغالهم بالحديث خبر في النشرة الاخبارية التلفازية يفيد : (بالعثور هذا اليوم على “150 ” جثة مقيدة اليدين, معصوبة العينين, مقطوعة الرأس، مُمثّل بها… ومجهولة الهوية !!!). في ذروة الاحداث الطائفية التي عصفت بالبلاد في تلك الفترة الكالحة الحالكة. أيقظهم هذا الخبر الفظيع والمريع من نشوة وسكرة السعادة التي ثملوا بها بسبب لقائهم بعد طول فراق, وذكّرهم بما يحدث يوميا من جرائم على هذا المنوال وأفظع. فهزهم من الأعماق, وكاد يصيبهم الجنون …. ماالذي يجري في العراق ؟!!… أَخ يختطف اخاه ، يعذبه ، يقطع رأسه، ثم يمثّل بجثته ويحرقها… كل هذا بسبب (الهوية) ؟!!!… أي جنون هذا ؟!!… وأية وحشية وبربرية تعافُها وتنكرها حتى وحوش الارض الضواري ؟!!!… ألم يكونوا هم الاربعة المختلفين طائفيا وقوميا ودينيا, اخوة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ انسانية سامية ونبيلة طيلة تلك السنين ؟!!!… أَلمْ يأكلوا من (قُصعة) واحدة, وشربوا سوية من نفس ماء (التانكي) في الجيش ؟!!…. أَوَ لمْ يفتدِ علي (ابو عمر) … عمر (ابو علي) بروحه وفقد ساقه على اثرها بمحاولة اخلائه من ساحة المعركة ؟!!… أَوَ لمْ ينقذ حياتهما باسل وكاميران بتبرعهما بدمائهما.. فغدت الدماء التي تجري في عروقهم جميعاً مختلطة ببعضها البعض وبات من المستحيل التفريق بينها ؟!!!… أَوَ لمْ يُسمِ كل منهم اسم بِكرِهِ بأسم اخيه تيمناً ومحبة به ؟!!… ما الذي يجري ؟!!!.
هنا… في هذه اللحظة عزم كل منهم على امرٍ ما. قرر باسل فورا العودة مهاجراً الى السويد مع عائلته. كاميران قرر أَنْ يستقر نهائيا في قريته (سرسنكَـ) ليعمل مزارعا كما كان من دون عودة الى بغداد. في حين أنَّ علي وعمر قد ترجيا باسل بشدة أنْ يحاول يدبر لهما لجوءاً انسانياً الى السويد حالما يستقر هناك لأن العيش في العراق بات مستحيلا في ظل جنون السادية هذه. فوعدهما باسل صادقاً بأنه سيفعل كل مابوسعه. حالما خرجوا من المقهى للشارع متشابكي الايدي ، وقبل أنْ يودّع كل منهم الاخر ، واذا بسيارة حمل مفخخة تنفجر بمحاذاتهم لتحيلهم فوراً الى فتافيت لأشلاء مبعثرة مختلطة سوية بدمائهم …. رحمهم الله….. (كانوا) أربعة اخوة !!!.
{ كاتب وأكاديمي }
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق