تعترضك كل صباح تتكئ على كرسيّ تدفعه بكلتا يديها لتتجاوز الطريق الى الجانب الآخر حيث قرص الشمس استطاع النفوق من الجدران العالية... تبحث عن بعض دفء لعظامها.... ساقان متورّمتان لا تكاد تلقي بخطوة الى الأمام حتّى تتلكّأ الأخرى.. المارّة لا يلْوون اهتماما لها هذا ما لاحظته أو ربما اقترب أحدهم دون ان أراه....
دفعني الفضول وأنا أمرّ أمامها في ذالك اليوم أن أعرف حقيقتها... دنوْت منها... وجه مصفرّ تشقّه خطوط بالطول والعرض لكأنّ هموم العالم تكدّست فوقه لتطبع خرائط وحشتها.. شامة كبيرة متدلّية فوق عيْنيْها تكاد تحجب الرِؤيا.. جمود وكبْت وصمْت كلّها بادية على ملامحها... تنبعث رائحة مُقرفة من جسدها ففهمت للتّو أنها سبب تباعد الناس من حولها مع ذلك ابتسمت وألقيت عليها التحيّة....
- صباح الخير خالتي...
لم تنتبه لوجودي... أعدت الكرّة بصورة أقوى....
- صباح الخير ...
يبدو هذه المرّة أنّها سمعتني... رفعت بصرها تجاهي تقرأني من رأسي حتى إخمص قدميّ...
- هل كلّمْتيني...
- نعم خالتي.. صباح الخير....
انفرجت شفتاها عن ابتسامة باهتة لم تصدّق أنّ أحدا يسأل عن حالها لقد ركَنَتْ إلى الصمت جتى اعتادته لذلك جاء الردّ متأخرا:
صباح الخير ابنتي...
- كيف حالك هل أنت بخير...
- الحمد لله.. من تكونين...
- انا حديثة السّكن بالحيّ لست بعيدة من هنا....
صمتت برهة يبدو أنها استأنست بي..
- قولي لي خالتي... هل تعيشين وحيدة...
- انفلتت تنهيدة من صدرها حتى خلته ينشقّ ثم قالت... نعم وحيدة...
- ليس عندك أولاد...
ولد وحيد غرق في البحر في عمر الشباب..
ليس لديك أقارب...
كنت مع اختي ماتت منذ مدّة وتركتني..
شعرت بالظلمة تحيط بي من كل جانب وغصّت عيناي بعبرات لم تشأ الإنفلات من المآقي فبقِيتْ تجرحني...
- امر الله يا خالتي .. امر الله.. من يُعِيلُك...
- أولاد الحلال...
- من يبِيت معك..
- وحدي...
- يوجد مقرّ للمسنّين لماذا لا تذهبين اليه ليساعدونك؟
- لا أحب المأوى....
- ولكن في هذه الدّنيا هناك العجز والمرض.. هل تستحقّين شيئا...
- ماذا قلت؟
- هل تحبين أن أجلب لك شيئا...
- يكثّر خيرك.. ربي يبارك فيك.... ربيّ يعيشك.....
ودّعتها ومنذ ذلك الوقت لم أرها حتى كان ذات ضحى بينما كنت أمرّ كعادتي الى قضاء شأني اذ بمجموعة من الرجال تحيط بسيارة واقفة بباب الزنقة.. دنوْت منهم فاذا بهم يحملون جثة.. سألت احدى النساء الحاضرات: من يكون الميت رحمه الله؟
- انها الحاجة وجدوها ميتة بغرفتها..
- متى كان ذلك؟
- لا أحد يدري..
بقيت واقفة أكبّر حتى تحرّكت السيارة تحمل نعشها.. لا حبيب ولا قريب يحيط بها.. لقد عاشت وحيدة وماتت وحيدة وما أتعس من لا سند له ولا ولد.....
صالحة بورخيص
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق