الثلاثاء، 28 فبراير 2017

" العين " في الفن التشكيلي ... خطاب الفنان صالح كريم انموذجا قراءة : داود سلمان الشويلي/ العراق ,,,,

" العين " في الفن التشكيلي ... خطاب الفنان صالح كريم انموذجا
قراءة : داود سلمان الشويلي
 إن محاولة البحث عن مسألة ما في لوحات تشكيلية لفنان ما ، تعد رغبة ذاتية وموضوعية في آن واحد لمعرفة الخلفيات المؤثرة فيها فكريا و فنياً ، وذلك من خلال الخطوط ، و الألوان ، والرموز ، والواقع الذي تحاوره ، او تنقل منه.
 وقبل الابحار في لوحات الفنان صالح كريم ، علينا ان نتعرف عن تلك المسألة في الشعر ، لان الاثنين – الشعر والفن التشكيلي – لا ينفصلان عن بعضهما ، وينظران الى هذه المسالة نظرة واحد ، وهي النظرة الابداعية ، إذ لا ينبغي لهما غير ذلك ، لارتباطهما في الشعور والاحساس ، وما تمنحه المخيلة من صور ذات قيمة عالية للواقع وما يحس ويشعر به .
لقد ابحر الشعر ، منذ اول بيت شعري قيل ، في عالم هذه المسألة ، وهي العيون ، فقال الشاعر جرير:
ان العيون التي في طرفها حور .... قتلننا ولم يحيين قتلانا
وقال شاعر اخر :
إن العيون لتبدي في نواظرها... ما في القلوب من البغضاء والإحن
وقال ثالث:
العين تبدي الذي في قلب صاحبها .........من الشناءة أو حب إذا كانا
إن البغيض له عين يصـــدقها ...........لا يستطيع لما في القلب كتمانا
فالعين تنطق والأفواه صـــامتة ....... حتى ترى من صميم القلب تبيانا
وقال الشاعر أحمد شوقي :
السِحرُ مِن سودِ العُيونِ لَقيتُهُ ... وَالبابِلِيُّ بِلَحظِهِنَّ سُقيتُهُ
وقال الشاعر إيليا أبو ماضي :
ليت الذي خلق العــــيون الســــــودا ... خــلق القلـــوب الخــــافقات حديدا
فيما قال الشاعر نزار قباني عن العيون :
ذات العينين السوداوين المقمرتين ... ذات العينين الصاحيتين الممطرتين
وكذلك قال :
أَسُوحُ بتلكَ العيُونْ
على سُفُنٍ من ظُنُونْ
وجاء في طوق الحمامة:
و للعيون لغة يعرفها اهل الهوى ، هي كما يذكر صاحب كتاب " طوق الحمامة في الالفة الالاف " :
- فإن كانت بمؤخرّ العين الواحدة.. فإنّها نهي عن الأمر.
- وتصغيرها.. إعلام بالقبول.
- وإدامة نظرها دليل التوجع والأسى.
- وكسر نظرها آية الفرح.
- وإطباقها دليل على التهديد.
- وقلب الحدقة إلى جهة ثمّ صرفها بسرعة تنبيه عن مُشار إليه.
- والإشارة الخفيّة بمؤخر العينين معاً.. سؤال.
- وقلب الحدقة من وسط العين إلى موقعها بسرعة، شاهدالمنع.
- وترعيد الحدقتين من وسط العينين.. نهي عام.
وكل ذلك لا يدرك إلاّ بالمشاهدة العيانية .
 وفي مقال قصير كتبه الروائي عبد الكريم العبيدي تحت عنوان "ما هي قصة العين العراقية؟ " ذكر ان : (( بين العراقيين والعيون قصصٌ لا تنتهي، تجمعهم بها روابط غريبة، تتحكم بأوهن التفاصيل، وقد تمتد الى اتجاهات شتى، هي هكذا كانت، وستبقى، فالعراقي يختزل مودته كلها في التحية اليومية بجملة قصيرة وشهيرة: "هلو عيني"، وهذه تحية عراقية بامتياز، لن تجدها عند كل شعوب الأرض، ولكن حالما يغضب تراه يهتف بأعلى صوته:"ترى أفكسهه لعينك"!
 العراقي يتغنى أيضا بالعيون:"العيون، حلوات العيون.. وسلم بعيونك الحلوة، تدري سلام العين گلب اليحب سلوه.. وعيني عيني، لتْعاشر البذّات والماله تالي.. ومن أمثلة العراقيين الشائعة: "شفت بعيني وما أچذب عيني"، وربما لن يجد العراقي عبارة امتنان أكثر تعبيرا من "فدوه لعينك"، ولطالما فخر العراقيون بقصيدة الشاعر بدر شاكر السياب:" عيناك غابتا نخيل ساعة السحر".. واذا أراد العراقي أن يعبِّر بإخلاص عن استعداده للوفاء يقول: "اشلع عيني وخذهه"، وربما يعني ذلك أن العيون بنظرهم هي مرآة الكلام، وطلائع بريد قلوبهم الصادق، فعندما تتكلم العيون ستتكلم بدون كلمات، لأن الحقيقة دائما هي في العيون، والجمال، كل الجمال فيهن.
 يقول د. جوبز:"أكبر لص على وجه الأرض هو الجمال الكائن في عيني المرأة، فعيون المرأة بحيرة جافة.. ولكنهـا تستطيع أن تغرق أعظم السباحين".)).
 بعد ان عرفنا ما قاله الناس من كلام ، والشعراء من شعر في العيون ومدلولاتها كما ذكر ، علينا ان نبحث في الفن التشكيلي ، وما قاله هذا الفن عن العيون ، من خلال قراءة بصرية للوحات فنان تشكيلي قدير في هذا الفن وهو الفنان التشكيلي صالح كريم .
 إذ تلعب العيون ونظراتها في الرسم دورا كبيرا و مهما ، لانها تشكل الثيمة الرئيسية والاساسية للاحياء الباصرة وغير الباصرة، إذ انها تحدد للمتلقي ما هية اللوحة التي يقف امامها ، و تدل دلالة تامة على وجهة نظرها .


 والعيون في الطبيعة متنوعة ومختلفة ، فهناك العيون البشرية العادية ، والعيون الطولية ، والعيون المدورة ، وغيرها ، وكلها لها وظيفة واحدة هي الابصار ولكن بدرجات مختلفة ، وغايات عديدة .
وكذلك فانها متنوعة ومتعددة ، مثل : عيون البشر ، وعيون الطيور ، وعيون الاسماك ، وهكذا.
والعيون ملونة ان كان ذلك في طبيعتها ، او كانت لحالة ما مرت بها ، او اصطناعية.
 والعين تستخدم لترمز الى حدة البصر ،وايضا الى قوة الباصرة لشخوص اللوحة ، وترسم تعابيرا للوجه لنقرأ فيه زمكانه ، سايكولوجيته ،وبايلوجيته ،... الخ .
 العيون عند الفنان صالح كريم تتخذ في شخوصه تشكيليا اشكالا متنوعة ومختلفة ، ومتعددة، مثل عيون الاسماك ، وعيون الطيور ، وعيون بشرية ، الا انها بلون واحد هو اللون الاسود ، وذلك لانه لا يريد ان ينقل لنا الحالة النفسية للشخص فحسب ، وانما يريد ان يعبر عن التكوين البايلوجي لهذا الشخص ، وايضا لانها تحمل المعاناة من قسوة الاضطهاد والعنف الذي يريد ان يوصله الفنان لمتلقية.
 يقول الفنان صالح كريم في حوار معه : ((- الجديد هو التكنيك والانتقالات في موضوعة العمل بالإضافة الى الاختزال بالمفردات ...وبالتأكيد الانطباع متروك للمتلقي والمتابع لاعمالي ولمسيرتي الفنية...ومطاوعتها للعمل الفني سواء كان رسما او نحتا ، في بعض الاحيان وخلال تجربتي الطويلة في مجال استخدام الخامة ....واللعب فيها هنالك تناغم وانسجام ...بل توأمة ..حصيلتها مبهرة ....بل نتيجة من الاكتشافات الجمالية والتعبيرية ...غاية في الروعة ...احسها وأتلمسها من خلال تفاعل وتجاوب العمل ومدى السعادة التي ترتسم في محياه ...بل في قلبه ...حد العشق ...وهذا هو المطلوب بل هو سر النجاح في العمل ...على ما اعتقد
 - أنا اعمل دائماً وبوازع من المسؤولية الذاتية لكوني فنانا وصاحب رؤيا وموقف تجاه الحياة والمجتمع وما يدور من حولي ...وهو انعكاس لما نعيشه من تحولات نتيجة الوضع الراهن بكل تناقضاته السلبية والايجابية وبرؤيا فنان له تجربة وباع طويل في مجال الفن والثقافة ...بل هو نتاج بحث معمق ومستفيض في مجال الحكاية والأسطورة والتي بدورها هي نتاج وارث انساني خلاق كما وأني اعمل على اعادة صياغة لمجمل الأحداث والمشاهد التي اعيشها ويعيشها من حولي والتي اصورها بريشة وعلى اللوحة تارة وبالازميل ومادة الحجر تارة اخرى..
 وربما لا تحتاج الفكرة شيئا معقدا بل الى رمز بسيط يعطي دلالة بل إشارة مختزلة للفكرة التي اريد ....والعمل الفني لا يستوجب التعقيد والإسراف بالمفردات ...والفن المعاصر هو فن يؤكد على اختزال المفردة لايصال الفكرة الى المتلقي وبدون تعقيدات..)).
 وفي لوحات الفنان صالح كريم التشكيلية نجد ان فضاءها قد امتلأ بتكوينات رسمها الفنان من واقع الحياة اليومية ، الا انه اتخذ فيها مسارا غير واقعي ، وهو مسار التعبيرية المختزلة التي ساعد مخيال الفنان في ابداعها.
 والفنان صالح كريم في جل لوحاته غير معني بالجسد المرئي ، والواقعي ، بل ان اهتمامه قد انصب على ثيمة رئيسية هي ثيمة العيون في هذا الجسد البشري ، انه فنان بصري على الرغم من ان الفن التشكيلي هو فن بصري، الا انه قد وظف كل ابداعه لينتج فن بصري حاف .
و يمكن تقسيم الخطاب التشكيلي للفنان صالح كريم الى انه :
- يرسم من البيئة.
- يخطط وجوه اصدقائه.
- يرسم الغضب العراقي في المظاهرات.
- التركيز على تعبير العيون في كل ذلك.
 و في كل هذا يعتمد الخط واللون ، حيث ان جل منجزه التشكيلي يأخذ طابعا واحدا وهو التخطيط باللون الاسود ، او في بعض الاحيان تأخذ خلفية اللوحة ( الباك راوند ) لونا اخر ، احمر او اخضر او ازرق .
 ان دراسة العيون وما تشكله من معان ودلالات في لوحات الفنان صالح كريم ستمنحنا رؤية قريبة لفن هذا الفنان البصري الذي شكلت لوحاته جزء من البيئة البصرية والتي هي تمثل بيئة العراق الاوسع .
 - ففي لوحة " العقال "، رسم الفنان العقال اكبر من المراة ، لانه يمثل قيم العشيرة في كل شيء ، فهو مهيمن على النساء، وهناك وجوه كثيرة ومختلفة ، وايد ، وارجل كلها لنساء يقعن تحت هيمنة العقال ، وهذا نقد صريح لتقليد بات غير سليم في وقتنا الحاضر.
 في هذه اللوحة عيون كثيرة ، تتصدرها عين كبيرة تنظر الى حيث تقف المرأة ، انها تراقب كل تحركاتها ، على الرغم من حشمتها الزائدة عن اللزوم .
 - لوحة اطلقت عليها اسم " ادم وحواء" اقرا فيها اسطورة حواء والحية ، وفيها رموز عن حواء وادم والتفاحة والحية ، فكل النساء فيها تفكر بنصفها الثاني الرجل ، وعيونهن مختلفات ، بين عين بشرية واخرى دائرية ، وثالثة على شكل نقطة واحدة، فيما يبرز في منتصف اللوحة وجه رجولي وكل الانظار تتجه له .
انها تمثل خطيئة جدتنا حواء عندما اغرت زوجها ادم بأكل التفاحة ، فعوقب هذا العقاب القاتل .
 رسم الفنان عينين احدهما واسعة واخرى صغيرة لتضيق حدقة العين فيها في مشهد شعبي يسمى عندنا " الخنزرة = الخزر " ، اي التأكيد على نظر شيء ما ، وترك ما يحيط به ، وهذا الشيء كما جاء في اللوحة هو المرأة الواقفة في منتصفها بالضبط .
 - و في لوحة ( جلسة عشائرية ) تبرز العيون اول ما تبرز في اللوحة ، لان حركة الاشخاص تفضحها هذه العيون بتعابيرها التي تتطلبها هذه الجلسة ، فعين كعين الطائر مركزة "مبحلقة" بالذي امامها و الذي سد عينه بسواد كامل، لهو تعبير حاد عن هذه الجلسة وما تناقشه ، وما تقرره.
انهما شخصان يتحدثان فيما الاخرون ساكتون ، صامتون ، كأن على رؤوسهم الطير.
- وفي لوحتيه " وجوه وعيون " ( 1 ، 22 ) تبرز لنا العيون وكانها تمثل للمتلقي الوجه كاملا في تعابيرها ، لانها تبرز ما في نفس الشخص من انفعالات " مشاعر واحاسيس " ، انها الصورة الكاملة التي تقدمها للمتلقي.
 - وفي لوحة " نساء جالسات " رسم الفنان صالح النساء الجالسات وقد تنوعت عيونهن ، بين صاحبة العين الواحدة ، وذات العينين، او بدونهما ، وهذه العيون مفتوحة او مغلقة ، وهو يؤكد ان كل واحدة من النساء في هذه الجلسة تعيش عالمها الخاص ، ولم يكن في عالم واحد ، ولكل امرأة همومها اليومية ومشاكلها الخاصة ، والوجوه مختلفة الملامح وكلها تعبر عن الحزن الذي في النفوس وكمية الهموم ، انهن جالسات سوية بعوالم ذاتية مختلفة.
 - و في لوحة " الشهيد" نجد عيون نساء الفنان مليئة بالاسى والحزن من خلال تنوعها بين العيون البشرية المفتوحة او المغمضة ، وبين اختزالها الى دوائر سوداء ، او على شكل خطوط افقية .
 - وفي لوحة " معاناة المتظاهرين " نتلمس تلك المعاناة من خلال نوع وحركة العيون ، فعيون الاشخاص في اللوحة تأخذ شكل عيون الاسماك الدائرية المبحرة في الماء ، وكأنها تريد التأكيد على انتباهها على الذي يأتي .
 ان الفنان التشكيلي صالح كريم ، وهو يخط له اسلوبه الخاص في الرسم معتمدا على المدرسة التعبيرية المختزلة ، قد قدم لوحات تشكيلية كثيرة تعبر عن وجهة نظره ، و فيما ينضحه الواقع من صور ومواقف شتى لناسه الذين جعلهم ابطال لوحاته بحق ، فقدم مآسيهم واحزانهم وهمومهم ، وكل ذلك من خلال العيون التي جسدها في لوحاته لترمز الى تلك الانفعالات والاحاسيس والمشاعر .
***
 صالح كريم بكالوريوس فنون جميلة جامعة بغداد ، عمل استاذا في معهد الفنون الجميلة لسنوات عديدة ، ورئيسا لقسم الفنون التشكيلة فيه ، عضو نقابة الفنانيين العراقيين ، وجمعية الفنانين ، اقام الكثير من المعارض الفنية الشخصية والمشتركة. حاليا هو فنان متفرغ لنتاجه الفني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق