الاثنين، 27 يوليو 2015

من مجموعتي(نقوش عربية ) تحت الطبع ( عندما لا يذوب الجليد ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قصة قصيرة للأديب / محمد شعبان/ مصر

من مجموعتي(نقوش عربية ) تحت الطبع
( عندما لا يذوب الجليد )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصة قصيرة للأديب / محمد شعبان
قبل أن تسأل لماذا حدث هذا؟، وقبل أن تتهمني بانعدام الضمير أو موت القلب، أو ربما تراني مصابا بضرب من الجنون ،دعني أقول لك إن هذا هو الواقع .. واقع جليدي متحجر لم يلن لأحلامنا الشاعرية وقد أنهكها التحليق بأجنحة الأمل حتى هوت مرتطمة به فتكسرت وتلاشت ... ولم يكن شيء أحب إلى قلبي من طلة هذه العجوز الرقيقة كل شهر وفي يدها مبلغ عشرين ألف جنيه وهي تُلقي عليَّ الصباح وكأنها أمٌّ توقظ ولدها بكل نعومة وحنان :ـ صباح الخير يا أستاذ أحمد كيف حالك يا بني ؟
خفة روحها ووجهها الباسم وثيابها الأنيقة وتبرجها الخفيف وشعرها الكستنائي ورشاقتها جعل منها ـ وهي في الستين من عمرها ـ شابة لا تعطيها أكثر من أربعين سنة ...
تحضر كل أول شهر في نفس الموعد لا تتخلف عنه أعرفها من صوتها ذي البصمة المميزة الدافئ وأنا منكب على الأوراق والشيكات وعد النقود أميزه من بين مئات أصوات عملاء البنك .. في آخر مرة حضرت متأخرة عن موعدها فقلت لها
:ـ أهلا أهلا مدام ( إحسان ) .. تأخرت هذا الشهر يوما عن موعدك .. خير
:ـ السكان ـ يا أستاذ ـ أحمد ... السكان ... الله يجازيهم .
:ـ ها ... نفس المبلغ أم هناك أي تغيير ؟ يسألها بينما يستعد لاتخاذ الإجراءات المعتادة .
:ـ لا .. أبدا .. فقط أريد أن أتبرع لحساب أي جمعية خيرية بألفي جنيه .
:ـ حاضر .. الله يقدرك على فعل الخير ـ يا مدام إحسان ـ .
تناولتْ الإيصالات ، ووضعتْها داخل حقيبتها ، وارتدتْ نظارتها الشمسية ذات العدسات المستديرة الكبيرة ، ثم انصرفت ... تبعها بصري حتى اختفت في شعاع الشمس المتجمع أمام باب البنك ... لاحظ ذلك أحد العملاء عليَّ فأخذ يناديني :ـ
:ـ يا أستاذ أحمد – يا أستاذ أحمد .. هذا دوري !!!! وما زالتُ أنا غارقا في شعاع الشمس الذي غابت فيه ( مدام إحسان ) ... ( مدام إحسان ) بصوتها ومشيتها وكل تفاصيلها ذكَّرتني بـ ( ماما إحسان ) والدة ( سمير ) صديق الثانوية ... ( ماما إحسان ) التي تجسد الحنان والرقة والعطف فيها، كانت تتابعنا أثناء المذاكرة وتقدم لنا الطعام والمشروبات الدافئة في ليالي الشتاء القارس من وقت لآخر وتشجعنا .. أيام كنا غرين تداعبنا الأحلام الجميلة والمستقبل البسام غير عابئين بالواقع وآلامه .. لم تعاملني ( ماما إحسان ) كغريب عن هذه الدار ، بل كولدها وأكثر .. كثيرا ما كنت أعود من المدرسة على هذا البيت لقربه منها وفي الأيام المطيرة كنا نعود مبللين فتستقبلنا بالمنشفة كعصفورة تواري صغارها عن أذى البرد والمطر . .. وأتى الشهر التالي ومر يومان من أوله ولمَّا تحضر مدام ( إحسان ) ، ووجدتني أدعو طيفها وأنا أنظر في لوحة التقويم المضيئة المعلقة في بهو البنك الواسع وأتساءل :ـ ماذا حدث ؟ ماذا أخرها ؟ أَهُم السكان الذين يتأخرون في دفع الإيجار ؟ أم ربما يكون قد ألمَّ بها مكروه ما ؟ .. لهذا الحد شَغلت ( مدام إحسان ) بالي فبتُّ أنتظر مجيئها من الشهر للشهر كطفل يكويه الحنين ويشتاق لعودة أمه من عملها ! .... ووسط كل هذه الأفكار ومع ضجيج العملاء وأصوات مكبرات الصوت التي تدعو أرقام العملاء يجذب سمعي صوت رجل ريفي جاءني من أمام الشباك المجاور وهو ينطق اسم مدام ( إحسان ) بصوت مرتفع ( إحسان محمد غنيم ) نظرت له وهو يحمل كيسا أسود ويضمه لصدره ويحتضنه بقوة .. الرجل بسيط في هندامه يرتدي جلبابًا مكرمشا وعمامة عليها عصابة بيضاء كهيئة حارس عقار ( بواب ) وتساءلتُ :ـ ما علاقة هذا الرجل بـ ( مدام إحسان ) ؟ ولماذا يطلب إيداع المبلغ الذي يحمله باسمها ؟ ، وأين مدام إحسان ؟ .. مؤكد هي مريضة ولم تستطع الحضور .. لكن لحظة ، وانكسر حاجز صمتي فاندفعت سائلا الرجل :ـ أين مدام ( إحسان ) ؟ لماذا لم تحضر بنفسها ؟ فأجاب :ـ البقاء لله يا أستاذ ـ مدام إحسان ماتت ... صُعقت ساعتها من هول الخبر وكأنني فقدت أمي تماما وغبت في دوامة من الحزن والدهشة بينما يُردف الرجل قائلا :ـ ونصحني السكان بأن أضع فلوس الإيجار في حسابها هنا وأنا لا أعرف لها أولادا ولا أقارب ، منذ عملت بوابا لعمارتها وهي تعيش بمفردها ولا يزورها أحد ... وعلى عادة بعض الموظفين المثرثرين مع العملاء أثناء إنجاز الإجراءات تناول زميلي بالشباك المجاور لي الفلوس من البواب وهو يسأله :ـ وكيف عرفتم أنها ماتت ـ يا عم الحاج ـ ؟ :ـ أنا ـ يا أستاذ ـ كنت أقضي لها كل طلباتها ولا أغفل عنها ليلا أو نهارا .. كانت ـ رحمها الله طيبة وخيرة ولم تخيب ظن محتاج بها أبدا .. الله يتولى البيوت التي كانت مفتوحة بأياديها وأفضالها ... وبعد شهرين تقريبا حضر ( سمير ) ابن مدام ( إحسان ) يرتدي نظارة سوداء ، لكنها لا تخفي عينيه تماما ومعه رجل يحمل حقيبة تشبه حقائب المحامين وأخذ يتحاور مع زميلي بالشباك المجاور يقول :ـ أنا ( سمير ) ابن المرحومة ( إحسان محمد غنيم ) ومعي محامٍ وكل الأوراق اللازمة لاستلام ميراثي من والدتي ، فأجاب زميلي بالشباك المجاور:ـ لكن البواب أخبرنا أن ( مدام إحسان ) لا أولاد لها ولا أقارب .. هنا انبرى المحامي ـ وهو الخبير بدوره تماما ـ قائلا :ـ البواب لا يعرف شيئا عن ( مدام إحسان ) والأستاذ ( سمير ) كان مهاجرا وعاد ليستلم ميراث والدته ونحن معنا كل الأوراق المطلوبة وإعلام الوراثة ونود إنهاء الإجراءات في أسرع وقت لو سمحت .. كنتُ أتسمع وأرسل بصري من وقت لآخر وأنا منشغل مع عملائي وأشرب القهوة حتى انتهت الإجراءات بسلاسة .. لكن في هذه اللحظة دغدغ اسم ( سمير ) أذني وكأن القدر الذي فرقنا كل هذه الفترة أراد أن يجمعنا على غير موعد فأُرسل بصري نحو الشباك لأراقب ما يجري وتلتقي عينانا.. أإلى هذا الحد تشبه مدامُ ( إحسان ) أمَّ صديقي ( سمير ) ويشبه ابنُها صديقي ( سميرا ) يا لعجائب القدر ! .. ( سمير ) الذي لم أره ولا أمه ( ماما إحسان ) منذ عشر سنوات .. اعذرني ـ يا صديقي العزيز ـ لقد شغلنا الواقع الجليدي فدُرنا حولَ أحلامنا الشاعرية .. واقع كفيل أن ينسي الإنسان نفسه وليس أصدقاءه فقط .. وانتهت الإجراءات واستلم ( سمير) مبلغ مليون دولار وذهب ... على الفور لملمتُ أوراقي وأنهيت العميلة التي كانت أمامي بسرعة الضوء ، وأخذت ما أمامي من نقود ووضعتها أمام زميلي في الشباك المجاور وطلبت منه إكمال عملي لأني سأستأذن وأخرج خارج البنك تبعتُ القدر ركضا وعدوا حتى غبتُ في شعاع الشمس المتجمع أمام باب البنك فأوصلني إلى خارجه بسرعة طائرٍ فارٍّ من قفصه العتيق طرْتُ غير عابئ بنداء زملائي :ـ خير ـ يا أحمد .. خير ـ يا أحمد ـ ؟! ... من سرعتي نسيت مركن سيارتي المستعملة موديل خمسة وسبعين لم أنتظر حتى أجدها أو أتذكر أين وضعتها حملتني ذكرياتي الجميلة مع ( سمير) فرأيتني أعدو بها وأنا أمشي بين الناس أتجه مباشرة نحو بيت ( سمير ) صديق العمر حتى وصلت إلى هنا .. إلى البيت ذي الطابقين بلونه الأبيض كقطعة من لؤلؤ تفوح منه رائحة الأصالة والزمن الجميل وهرولت على سلالمه نحو زمن خال من الأعباء والهموم مليء بالسعادة والأحلام الشاعرية ، فطرقت الباب ذا الدفتين البنيتين والشّرّاعتين الحديديتين من خلفهما وانفتح الباب الذي أدخلني إلى عالم البراءة والنقاء والصفاء المكان الذي شهد أجمل أيام حياتي مع ( ماما إحسان ) و (سمير )، فانطلقتُ ببصري المشوق في كل مكان بالبيت .. هنا على هذه المنضدة كنا نتناول الطعام مع ( ماما إحسان ) وهنا كنا نذاكر وهنا كنا نستريح من المذاكرة في هذه الشرفة ونطل على أحلامنا ونستشرف المستقبل ، ونبني قصور أمانينا، وهنا وهنا و ..... وها أنا ذا هنا منذ ساعة معك ـ يا سمير ـ وأخشى أن تتهمني بانعدام الضمير ، أو موت القلب ... كان ينبغي ـ يا سمير ـ أن نصادق الواقع لا الأحلام فالأحلام هي ما أوصلنا إلى ذلك طرنا معها وارتفعنا إلى خارج حدود الواقع وفجأة تخلت عنا فأفقنا على صخور الواقع الجليدية الصلبة وقد تكسرت وتلاشت كل الأحلام ، ما كان ينبغي أبدا أن ننسى هذا الواقع، كان من الأولى أن نحلم داخل حدود واقعنا لا خارجه .. أليس كذلك ؟
:ـ صحيح ـ يا أحمد ـ .
:ـ هل هذه هي المليون دولار ؟
:ـ لا .. الولد الذي قام بدور المحامي أخذ عشرة ألاف ، كما اتفقنا، وقد تمت العملية حسب الخطة التي رسمتها لنا ببراعة ـ يا أحمد ـ .
:ـ خذ هذا نصيبك ، وادع لــ ( ماما إحسان ) ، ومدام ( إحسان ) بالرحمة.

=========================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق