( عَصَا أَبـِي )
للأديب / محمد شعبان
" جميل أن تفكر المرأة أحيانا بعقل رجل ، فتُخمَدُ عاطفتُها ، وتنبري الحكمة لتتولى القيادة " ،و حبذا أن تطبق كل امرأة تلك الحكمة اختياريا قبل أن تفرضها عليها الظروف ، وما أشبه الليلة بالبارحة ، وكأني بالزمن يبدأ من جديد ، فقط أنا من يقوم بالدورين معا هذه المرة .. عادَتْ (لِيلْيَان ) ـ ذاتُ الثامنة ربيعا اليوم من المدرسة على جناح السرور والغبطة ، تتراقص الدنيا كلها في عينيها ، تخبرني قائلة :ـ ( ماما ماما ) الـ ( مِسّ ) نادتني اليوم وقالت لي :ـ ـ يا (لِي لِي ) ـ ، وأنا كنتُ مبسوطة جدا ـ يا ( ماما ) .... منذ يومين فقط عادتْ من المدرسة وهي تقول :ـ الـ ( مِسْ ) قالت لن ألصق لك ( إستكر ) مثل زملائك لأن خطك سيء " ، وأنا ـ والله ـ يا ( ماما ) حاولتُ تحسينه أكثر من مرة من أجلها ، ولا أدري ماذا أفعل ؟ .. قالت لي حينَها تلك العبارة الأليمة بعينين مبللتين بدمع أصاب حره مهجتي ، ونشيجٍ انفطر له قلب أم تعود ابنتها من المدرسة بعد يوم طويل وشاق مصفرّا وجهها ، عيناها غائرتان في متاهة من الهالات السوداء ، عبَّأت المسكينة الصغيرة يومئذ الحزنَ والدموعَ وأحكمت عليهما ، ثم انفجرت بمجرد دخولها من باب الشقة ، عندها انبرت أمومتي فقلت :ـ ـ والله ـ غدا لتعرفن هذه ( المس ) شغلها معي .. غصة ألمَّتْ بي ، بسبب ما حدث لابنتي المسكينة التي فقدتْ أباها منذ أسابيع ، ولم تراع تلك المعلمة غليظةُ العواطف حالتها ، لا لا ، لن أسكت ، ينبغي أن تعرف أن لها حاميا ومدافعا قويا عن حقوقها ، وها قد جاء الموقف المناسب لأثبت لك ـ يا بنيتي ـ أن أمك بمائة رجل ، وأنك لم تصبحي اليتيمة مهيضة الجناح التي يدهس عليها كل من هب ودب .. كل ذلك قلته في نفسي ، والخوف على مستقبل هذه اليتيمة يعتصرني اعتصارا خاصة وأنها قالت أيضا :ـ أنا أصبحت أكره معلمة اللغة الإنجلزية ـ يا أمي ـ ، والمَدْرسة كلها ، لن أذهب للمدرسة بعد اليوم .... وناجيتُ نفسي المتعبة المثقلة بالأطراح قائلة :ـ ويلي ويلي ألم يعد لي ، أو لهذه المسكينة نصير ، أبي وأمي وزوجي الكل فارقنا ، ماذا أفعل ؟ ، ماذا أفعل ؟ ... صحبتُها اليومَ للمدرسة لأضع حدًّا لهذه المعلمة التي ستُكَرّهها في المدرسة والتعليم ، مشتِ الصغيرة معي وبصرها لم يبرح الأرض ، تقدم خطوة وتؤخر أخرى ، تمنيت أنْ لو انشقت الأرض وابتلعتني ،ولا أراها هكذا ، عزمت على الشدة ولو بلغت حد الشجار مع المعلمة ، وأقول :ـ (آااهٍ) ، ولعلّ الوضع كان سيختلف لو بقي زوجي ، أو أبي ، (نعممممم) أبي أبي ! ...
توقفت عند أحد المحال وبه بعض الأدوات المدرسية ، فتذكرتُ ذلك اليوم الذي اصطحبني فيه أبي للمدرسة وأنا ما زلتُ في الصف الثاني الابتدائي ، بعدها ولأوَّل مرة نادتني معلمة الرياضيات بأحب الأسماء إلىّ ( فِي فِي ) وقالت :ـ أم تُحبِّين ( فيفيان ) أكثر ؟ .. وفوجئت بهذا فعلا ، فالمعلمة ـ وخاصة بعد حوارها ـ أو بالأحرى شجارها ـ الأخير مع والدتي ـ كانت تعاملني معاملة جافة ، ولأتفه الأسباب تعاقبني ، فتوقفني آخر الفصل ، وزاد الجفاء بإحراجها لي كثيرا أمام الطلاب والطالبات ، وإن أجبت إجابة صحيحة كانت تقول :ـ طيب طيب اجلسي .. الأمر الذي كرَّهني زمانًا في المدرسة وحصة الرياضيات بالذات ، وأصبح نداؤها المشهور لي بعد هذه المشاجرة :ـ ـ البنت التي أحضرت أمها ، ـ أجيبي ، ـ البنت التي أحضرت أمها ـ ، قفي .. وكانت مدمنةً على مضغ العلك ، نعم كان إدمانا بمعنى الكلمة ، حتى داخل الحصة وأثناء الشرح ، ما زلت أذكر منظرها وهي تتحدث بينما تمضغ بسرعة مائتي مضغة في الدقيقة ، ويتناثر من فمها بعض الرذاذ ، لكنها للحق كانت جميلة وتهتم بملابسها الضيقة والقصيرة ، وشعرها الناعم الطويل ، وتستعمل بعض مساحيق التبرج ، كانت ( مِسْ صفاء ) ملكة جمال ، وبعد اصطحاب أبي تغيرت معاملتها ثلاثمائة وستين درجة ، فأعادتني لمقعدي في أول الصف ... ذهب أبي معي بمحض الصدفة ، ولولا إصابة أمي بالإنفلونزا يومئذ لاصطحبتني بدلا منه ، وربما ما زادت زيارتها الثانية الطين إلا بلة ...
صحيح! ينبغي أن يكون المعلم داخل الفصل وسيلة تحبيب للطالب في المادة والتعليم عموما ، لكن ينبغي أيضا أن يجد من البيت مساعدة بصورة ما وتشجيعا ،ومتابعة ، واحتراما وتقديرا خاصة في المدارس الحكومية التي تفتقر لقنوات التواصل بين المعلم والبيت .. لعل البعض يقول الآن إن كوني امرأة لم يسَهّل لي حل المشكلة بطريقة أبي ، ولعل كونه رجلا قد يسهل له التفاهم مع أمثالها من النساء اللواتي تهتممن بأنفسهن ورشاقتهن ... تتصورون ؟! ، بالفعل كان أبي وسيما رشيقا ويلفت نظر العديد من النساء وهو يسير في كامل هيئته المتناسقة ويفوح طيبه ويعبق المكان كله ، أنا نفسي كنت أحب الأوقات التي أخرج فيها معه ليرانا الجميع وكأننا مخطوبان ، مات ولم يأت تقدم السنُّ على شيء من تقاطيعه الجميلة الطيبة ، لكن ـ يا ساااادة ـ أبي لم يقابلها أصلا( ههههههه ) ، نعم أبي لم يلتق بالمعلمة يومَها أصصصصلا .... أبي طلب مني ونحن في طريقنا للمدرسة أن أحدثه عن المعلمة ، ثم توقفنا أمام أحد المحال فترجَّل من سيارته ، واشترى نوعين من أغلى أنواع العلك ، وقال لي :ـ إهدي بعضا منه لمعلمتك مع ابتسامة حلوة ، ولا تنْسي أن تقولي لها إنكِ مَنْ أحضرتِه ، وإنكِ تحبينها ، وعِدِيها بأن يتحسن مستواكِ ، ( هاا ) ، هل فهمتِ ؟! ... نعم فهمتُ الدرسَ يا أبي ، وأشكرك . تمتـــــــــــــــــــــــــ
للأديب / محمد شعبان
" جميل أن تفكر المرأة أحيانا بعقل رجل ، فتُخمَدُ عاطفتُها ، وتنبري الحكمة لتتولى القيادة " ،و حبذا أن تطبق كل امرأة تلك الحكمة اختياريا قبل أن تفرضها عليها الظروف ، وما أشبه الليلة بالبارحة ، وكأني بالزمن يبدأ من جديد ، فقط أنا من يقوم بالدورين معا هذه المرة .. عادَتْ (لِيلْيَان ) ـ ذاتُ الثامنة ربيعا اليوم من المدرسة على جناح السرور والغبطة ، تتراقص الدنيا كلها في عينيها ، تخبرني قائلة :ـ ( ماما ماما ) الـ ( مِسّ ) نادتني اليوم وقالت لي :ـ ـ يا (لِي لِي ) ـ ، وأنا كنتُ مبسوطة جدا ـ يا ( ماما ) .... منذ يومين فقط عادتْ من المدرسة وهي تقول :ـ الـ ( مِسْ ) قالت لن ألصق لك ( إستكر ) مثل زملائك لأن خطك سيء " ، وأنا ـ والله ـ يا ( ماما ) حاولتُ تحسينه أكثر من مرة من أجلها ، ولا أدري ماذا أفعل ؟ .. قالت لي حينَها تلك العبارة الأليمة بعينين مبللتين بدمع أصاب حره مهجتي ، ونشيجٍ انفطر له قلب أم تعود ابنتها من المدرسة بعد يوم طويل وشاق مصفرّا وجهها ، عيناها غائرتان في متاهة من الهالات السوداء ، عبَّأت المسكينة الصغيرة يومئذ الحزنَ والدموعَ وأحكمت عليهما ، ثم انفجرت بمجرد دخولها من باب الشقة ، عندها انبرت أمومتي فقلت :ـ ـ والله ـ غدا لتعرفن هذه ( المس ) شغلها معي .. غصة ألمَّتْ بي ، بسبب ما حدث لابنتي المسكينة التي فقدتْ أباها منذ أسابيع ، ولم تراع تلك المعلمة غليظةُ العواطف حالتها ، لا لا ، لن أسكت ، ينبغي أن تعرف أن لها حاميا ومدافعا قويا عن حقوقها ، وها قد جاء الموقف المناسب لأثبت لك ـ يا بنيتي ـ أن أمك بمائة رجل ، وأنك لم تصبحي اليتيمة مهيضة الجناح التي يدهس عليها كل من هب ودب .. كل ذلك قلته في نفسي ، والخوف على مستقبل هذه اليتيمة يعتصرني اعتصارا خاصة وأنها قالت أيضا :ـ أنا أصبحت أكره معلمة اللغة الإنجلزية ـ يا أمي ـ ، والمَدْرسة كلها ، لن أذهب للمدرسة بعد اليوم .... وناجيتُ نفسي المتعبة المثقلة بالأطراح قائلة :ـ ويلي ويلي ألم يعد لي ، أو لهذه المسكينة نصير ، أبي وأمي وزوجي الكل فارقنا ، ماذا أفعل ؟ ، ماذا أفعل ؟ ... صحبتُها اليومَ للمدرسة لأضع حدًّا لهذه المعلمة التي ستُكَرّهها في المدرسة والتعليم ، مشتِ الصغيرة معي وبصرها لم يبرح الأرض ، تقدم خطوة وتؤخر أخرى ، تمنيت أنْ لو انشقت الأرض وابتلعتني ،ولا أراها هكذا ، عزمت على الشدة ولو بلغت حد الشجار مع المعلمة ، وأقول :ـ (آااهٍ) ، ولعلّ الوضع كان سيختلف لو بقي زوجي ، أو أبي ، (نعممممم) أبي أبي ! ...
توقفت عند أحد المحال وبه بعض الأدوات المدرسية ، فتذكرتُ ذلك اليوم الذي اصطحبني فيه أبي للمدرسة وأنا ما زلتُ في الصف الثاني الابتدائي ، بعدها ولأوَّل مرة نادتني معلمة الرياضيات بأحب الأسماء إلىّ ( فِي فِي ) وقالت :ـ أم تُحبِّين ( فيفيان ) أكثر ؟ .. وفوجئت بهذا فعلا ، فالمعلمة ـ وخاصة بعد حوارها ـ أو بالأحرى شجارها ـ الأخير مع والدتي ـ كانت تعاملني معاملة جافة ، ولأتفه الأسباب تعاقبني ، فتوقفني آخر الفصل ، وزاد الجفاء بإحراجها لي كثيرا أمام الطلاب والطالبات ، وإن أجبت إجابة صحيحة كانت تقول :ـ طيب طيب اجلسي .. الأمر الذي كرَّهني زمانًا في المدرسة وحصة الرياضيات بالذات ، وأصبح نداؤها المشهور لي بعد هذه المشاجرة :ـ ـ البنت التي أحضرت أمها ، ـ أجيبي ، ـ البنت التي أحضرت أمها ـ ، قفي .. وكانت مدمنةً على مضغ العلك ، نعم كان إدمانا بمعنى الكلمة ، حتى داخل الحصة وأثناء الشرح ، ما زلت أذكر منظرها وهي تتحدث بينما تمضغ بسرعة مائتي مضغة في الدقيقة ، ويتناثر من فمها بعض الرذاذ ، لكنها للحق كانت جميلة وتهتم بملابسها الضيقة والقصيرة ، وشعرها الناعم الطويل ، وتستعمل بعض مساحيق التبرج ، كانت ( مِسْ صفاء ) ملكة جمال ، وبعد اصطحاب أبي تغيرت معاملتها ثلاثمائة وستين درجة ، فأعادتني لمقعدي في أول الصف ... ذهب أبي معي بمحض الصدفة ، ولولا إصابة أمي بالإنفلونزا يومئذ لاصطحبتني بدلا منه ، وربما ما زادت زيارتها الثانية الطين إلا بلة ...
صحيح! ينبغي أن يكون المعلم داخل الفصل وسيلة تحبيب للطالب في المادة والتعليم عموما ، لكن ينبغي أيضا أن يجد من البيت مساعدة بصورة ما وتشجيعا ،ومتابعة ، واحتراما وتقديرا خاصة في المدارس الحكومية التي تفتقر لقنوات التواصل بين المعلم والبيت .. لعل البعض يقول الآن إن كوني امرأة لم يسَهّل لي حل المشكلة بطريقة أبي ، ولعل كونه رجلا قد يسهل له التفاهم مع أمثالها من النساء اللواتي تهتممن بأنفسهن ورشاقتهن ... تتصورون ؟! ، بالفعل كان أبي وسيما رشيقا ويلفت نظر العديد من النساء وهو يسير في كامل هيئته المتناسقة ويفوح طيبه ويعبق المكان كله ، أنا نفسي كنت أحب الأوقات التي أخرج فيها معه ليرانا الجميع وكأننا مخطوبان ، مات ولم يأت تقدم السنُّ على شيء من تقاطيعه الجميلة الطيبة ، لكن ـ يا ساااادة ـ أبي لم يقابلها أصلا( ههههههه ) ، نعم أبي لم يلتق بالمعلمة يومَها أصصصصلا .... أبي طلب مني ونحن في طريقنا للمدرسة أن أحدثه عن المعلمة ، ثم توقفنا أمام أحد المحال فترجَّل من سيارته ، واشترى نوعين من أغلى أنواع العلك ، وقال لي :ـ إهدي بعضا منه لمعلمتك مع ابتسامة حلوة ، ولا تنْسي أن تقولي لها إنكِ مَنْ أحضرتِه ، وإنكِ تحبينها ، وعِدِيها بأن يتحسن مستواكِ ، ( هاا ) ، هل فهمتِ ؟! ... نعم فهمتُ الدرسَ يا أبي ، وأشكرك . تمتـــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق