الثلاثاء، 31 مارس 2015

د. أنور غني الموسوي السردية التعبيرية رياض الغريب و ناظم ناصر نموذجا

د. أنور غني الموسوي
السردية التعبيرية
رياض الغريب و ناظم ناصر نموذجا
ضمن تعريف اكاديمي حديث لقصيدة النثر في موقع تقنيات الادب (literary device ) ) ، يبرز السرد كمقوّم اساسي لها ، لانّها شعر باسلوب سردي ، حيث ان الاتكاء على الصورة الشعرية هو من الشعرية التصويرية المعهودة ، وهي في جوهرها تخالف نثرية قصيدة النثر. قصيدة النثر ليست صورا شعرية بصورة نثر و انما سرد لصور شعرية انها شعر سردي و الفرق واضح .
الميزة الأهم للشعر السردي الذي يميزه عن النثر وان كان شعريا هو التعبيرية في السرد ، فبينما في النثر السردي يكون السرد لأجل السرد ، فانه في الشعر السردي يكون موظفا لأجل تعظيم طاقات اللغة التعبيرية.
تعتمد التعبيرية في اللغة على التوظيفات في ثلاث مستويات كما بيناه سابقا في مقالاتنا ، مستوى النص كقول و كتركيب لفظي معنوي ، و مستوى التجربة كعالم من المعاني و الحقول الفكرية المعنوية ، و المستوى الوسيط الرابط ينهما ، فبينما الجمالية في عناصر النص التعبيرية تعتمد على انجازات فردية اسلوبية على مستوى المفردات و التراكيب كوحدات كلامية ، فانّ عناصر الجمالية اللغوية في حقول المعنى الفكرية العميقة و العامة تكمن في اشكال تمظهر و تجلّي لمناطق و افراد تلك الحقول ، و اما العنصر الوسيط فهي عملية ذهنية رابطة تنتج عن عملية القراءة ، بمعنى اخر لدينا ثلاثة عوامل تنتج اللحظة الجميلة و الادهاش المصاحب : عناصر كتابية نصية و عناصر التجربة العميقة و عناصر قراءاتية و سيطة بالمعنى المتقدم ، هذا التناول هو شكل من اشكال النقد التعبيري ،و الذي بتجاوز اخفاقات النقد الاسلوبي في منطقتي العناصر القراءاتية الوسيطة و عناصر التجربة اللغوية العميقة .
سنتناول هنا كمنوذج للسردية التعبرين نصين من قصيدة النثر : الاول ( في صورته يرى) لرياض الغريب ، و الثاني ( ظل تقياه السراب ) و يكون من المفيد اولا ايراد النصين قبل الحديث عنهما :
( من صورته يرى )
رياض الغريب
من خوف تدلى من نافذة بعيدة
يرى أيامهُ
جهز كامرتهُ
ليلتقط صورة لحياتهِ بالمقلوبِ
اشار لهيئتهِ ان تقف على رأسِها
القدمان تختفيان
الرأس يختفي
ملامح واضحة لاسئلة مثقوبة
عينان
جهز كامرته
لمشهد لايتكرر
يستقبل فداحة ايامه بالخسائر
والذكريات البعيدة
في الطريق الملتوي
فوق اجساد العابرين يكتشف العشب ثقل المساء في قلوب المتلفتين ويفتح بابا لصوت قادم من امكنة يسكنها حلم راكض باتجاه افق شاحب لم تكن انت فيه.
عطل بسيط في الكامره أخر تصوير المشهد
هم يعتقدون
كلما اراد متلفت منهم ان يقد شروقه من وجع رافقه تصفعه الايادي التي تختفي خلف المشهد الشاحب.. في ذهنه ..
ياالله كم هي مؤلمة تلك الحياة التي نعيش
قالها وهو يحاول ان يرفع بيت الشعر
ليقضي على اخر ماتبقى لديه من ضوء الحلم
هو متعثر بالكلام
امام حقيقة الغياب
الصورة بالمقلوب
والمشهد عار لاتستر عورته عشبة المساء
&&&
ظل تقيأه السراب
كريح مسجونة في قفص
صوتي لا يخرج من عنق الزجاجة
ساعة رملية تتبدد في الوهم
أسقطني الذهول في حيرة الندم
أقف وحدي ...
انظر الى شمسي وهي تذوب في الأصيل
تبهت الألوان في كف المساء
تضيع التفاصيل في الظلام
والموجات الصغيرة تبلل الجذور
مبتهجة بالطين الذي يحمل سلالة التاريخ
وتناسل الحضارة
كان الزمن ... يتأبط الوقت
يظنه السكون ...
لكنه ريح راكدة...
ناظم ناصر
&&&&
النصان يرتكزان على السرد ، وهو عنصر نصّي ، الا ان حقل المعنى لكل منهما مختلف ، فمفردات و تراكيب رياض الغريب ، تتنقل وسط حقول قريبة في مفرداتها و تراكيبها ، اما حقول المعنى عند ناظم ناصر فانها تتنقل وسط حقول بعيدة شاعرية ، وهذه من عناصر التجربة اللغوية ، اذن السردية الشعرية ممكن ان تكون قريبة ، و ممكن ان تكون بعيدة . و طبعا كل من ذلك يفرض سياقات و اسلوبيات خاصة في تحقيق الصدمة و الابهار .
وسط هذا الجو القريب عند رياض الغريب ، تنبثق الخروقات اللغوية الابداعية في انزياحات و توظيفات فذة ، كعناصر كتابية جمالية فتحصل حالة تموّج تعبيرية ، تكون فيها العلاقة بين حقول الدلالة و المعنى و عناصر النص الكتابية علاقة متغيّرة ، وهذا توظيف في الوسط الرابط بين الدال و المدلول ، يقول رياض الغريب :
( من خوف تدلى ، من نافذة بعيدة \ يرى ايامه \ جهز كامرته \ ليلتقط صورة لحياته بالمقلوب )
ليس فقط المفردات المركزية التي خلقت الجوّ العام للنص ( خوف ، نافذة ، كاميرة، صورة ، حياة ) في توظيف عال المستوى لنقل القارئ الى حقل المعنى ، بل انّ العناصر الكلامية الرابطة ( تدلى ، بعيدة ، المقلوب ) كان لها اثر جمالي صادم ، لانها تحدث المفارقة و التناقص ، اذ انّ خط الكلام و الافادة يتجه نحو الرؤية و السيطرة و التمكن ، الا انّ هذه المفردات احدثت اخلالا في ذلك الجوّ ، احدثت اضطرابا في تناغم عقل القارئ مع فكرة القارئ ، لقد حصلت حالة انعطافية في القراءة اجلت نقطة الصفر القراءاتية ، فكأن فكر القارئ قد استدار و انعطف الى زاوية هزت كيانه ، و احدثت الهزة الجمالية الصادمة ، و ان كانت بهدوء يطغى على اسلوب رياض الغريب .
بينما في تعبيرية ناظم ناصر ، فبعد ان تم نقل القارئ الى عالم عال من الحقول المعنوي بقاموس شاعري ، ترسخ في ذهن القارئ الجو العام الانزياحي ، و هذا ينعكس على تأثير الانزياحات لتركيبية ، فيكون كأنه ينظر الى سماء بالوان مفردات النص و حقول المعنى التي تطرقه ، يقول ناظم ناصر :
( كريح مسجونة أقف وحدي \صوتي لا يخرج من عنق الزجاجة \ ساعة رملية تتبدد في الوهم \ اسقطني الذهول في حيرة الندم \ اقف وحدي \ انظر الى شمس وهي تذوب في الاصيل )
فرغم تبين الجو العام للنص بقاموس مفردات مأساوية وحزينة تخيم عليه الحسرة و اليأس ، الا ان التراكيب كانت مشتملة على استعارات و التشبيهات تعبيرية بلغة تحلق نحو شعرية بارزة . ان عناصر النص المنبثّة و سط التراكيب كانت فاعلة في تحقيق الوحدة السردية متمثلا بصوت المتكلم و اشيائه ، و بالوصف التفصيلي لاحوال الذات المركزية ، فكان الشاعر ممسكا بتراكيبه الشعرية و سط بناء سردي واضح . الابهار هنا مع هذه الشاعرية يعتمد كثيرا على تلك التركيبة الفذة بين سردية البناء و شعرية الوحدات الكلامية ، فتتحقق اللغة المتموّجة ، من خلال تلك العلاقة ـ فذهن القارئ يتنقل بين تصوير و تكوين لغوي متغير مع زمن النص ، و هذه الممارسة ايضا هنا لها اثرها في تحقيق الابهار ، بصوت هادئ .
اذن السردية التعبيرية ابدا ليست لأجل ان تحكي ، و انما لأجل ان تخلق لغة وسط اللغة ، و تعبيرا وسط التعبير ، و من الملاحظ ان التموّج في تلقي الخطاب في السردية التعبيرية يكون بشكل نار هادئة ، و افق واضح و فضاء موحد ، بينما تموجية التلقي في الشعرية الصوري تكون حماسية ، و على قدر واضح من التشظي .هذا الفرق الجوهري بين شعرية قصيدة النثر المعتمدة على التموّجية التعبيرية الهادئة و الموحدة ، و بين الشعر التصويري المعتمد على التموجية التعبيرية الحماسية المتشظية غاليا .
ان تاثير هذه العملية الذهنية و اثرها الواضح كعنصر جمالي و عنصر من عناصر الابهار ادركته المدرسة الاسلوبية متأخرا ، فاتجهت من التركيب الجملي المعتمد على خرف اللغة على مستوى تجاور المفردات الى النص كبناء كلي و فضاء للابداع اللغوي .
هذا الشكل من التعبيرية يتكرر في كل من النصين كمظهر من مظاهر التفنن اللغوي و عنصرا من عناصر الابهار الجمالي .
و في عنصر تعبيري اخر و هو امتداد للغة الصادمة يقول رياض الغريب
( القدمان تختفيان \ الراس يختفي \ ملامح واضحة لاسئلة مثقوبة )
وهنا بهذه التعبيرية يحقق الشاعر بوحا عميقا و تصل القصيدة السردية هنا الى ذروتها في محاكاة منطقية للسرد النثري . و نجد هذا الامتداد و الذروة السردية في قول ناظم ناصر :
( اقف وحدي \ انظر الى شمس وهي تذزب في الاصيل \ تبهت الالوان في كف المساء \ تضيع التفاصيل في الظلتم )
هنا في هذه اللوحة التعبيرية تصل قصيدة ناظم ناصر ذروتها في طرح الاعتراض و السؤال و وصف الحال .
حتى يستمر و يدخل في لمحة طلب الخلاص ، و بيان الرؤية ، و التعليل في قوله
( كان الزمن .. يتأبط الوقت \ يظنه السكون \ لكنه ريح راكدة )
في هذا المقطع المكثف طرح لجانبين من الحكاية ، التعليل وهو اساسي كثيرا في الشعرية السردية ، بحيث يختصر الشاعر الحال السابقة و يتجه نحو بيان علل و مسببات الوضع ، طبعا بتفكيرنا السردي و ليس بواقع النص الشعري المكثف ، و بالذي نراه كقراء و ليس بما هو عليه النص ككتابة ، ثم يتجه النص الشعري نحو لمحة الخلاصة و الحل ، الا ان هنا خفوتا في هذا الجانب ، وهو امتداد و فاء لليأس المخيم على النص ،فما هنا سوى تأبط للوقت و ظنون ، و سكون ، الا انّ هناك اشارة الى ريح راكدة يمكن ان تهيج . بالطبع هذه الخاتمة السردية لم ترد في الاساس ان تحكي لنا قصة ، و انما هنا توظيف عال للتعبير ، لبيان اكبر للفكرة ، و ايضاح تعبيري اكبر للدلالات ، ان السردية ي قصيدة النثر محاولة جادة لاغراق القارئ في النص ، و نقله بشتى السبل الى عوالم معناه ، بحيث يجد القارئ نفسه في لحظة ما انه ذاب في النص و عاش لحظته و كانه هو من كتب النص ، وهذا انجاز عال المستوى كلغة تعبيرية . يقول رياض الغريب :
( في الطريق الملتوي \ فوق اجساد العابرين يكتشف العشب ثقل المساء في قلوب المتلفتين و يفتح الباب لصوت قادم من امكنة يسكنها حلم راكض باتجاه افقشاحب لم تكن انت فيه \ عطل في الكامرة اخر تصوير المشهد \ هم يعتقدون \ كلما اراد متلفت منهم ان يقد شروقه من وجع رافقه تصفعه الايدي التي تختفي خلف المشهد الشاحب ... في ذهنه )
هنا يسطّر الشاعر التعليل و يصوره بصور مختلفة لها تأثير واضح في تجلّي المأساة و ديمومتها . مع أشارة رؤيوة نحو تلك العلل و مدى واقعيتها . ثم يتجه النص نحو طلب الخلاص ، و ان كان بتعبير عكسي بذكر نقيضه في لغة تعبيرية فذة حيث يقول
( هو متعثر بالكلام \ امام حقيقة الغياب \ الصورة بالمقلوب \ و المشهد عار لا تستره عورته عشبة المساء )
في ضوء ما تقدّم ، المبيّن لجانب من جوانب التفنن الاسلوبي العميق للشعرية السردية ، المتمثّل بالسردية التعبيرية ، يتضح الفارق بين سردية الفنون النثرية و سردية قصيدة النثر ، بل واختلاف الاخير عما في الشعر التصويري ، فيكون للقول بان قصيدة النثر جنس ثالث مجال عريض جدا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق