Mohamed Khassif
الفن والمعمار، أي تكامل؟
محمد خصيف - المغرب
الإدماج من المصطلحات التي أصبحت متداولة في الأوساط الفنية، حيث تقابل مصطلح Intégration الذي راج بكثرة في العديد من المنشورات بما فيها الكتب المتخصصة في الفنون التشكيلية (1) والهندسة المعمارية، إلا أن شيوعها جاء على حساب مفردات أخرى أقرب للمعنى (تكامل، عملية تكامل، دمج، توحيد) نظرا لغياب قاموس فني/جمالي عربي يضبط المصطلحات ويساير تطور الفنون التشكيلية.
ولا شك أن مفهوم Intégration كما هو شائع في الميادين الفنية يتفق وعمليات التكامل والتوحيد المطلوب توفرها في الفنون، والتي لا تتحقق إلا بتواجد علائق عضوية تشد العناصر البنائية (من البناء) شدا متناسقا يجعل المجموعة المعمارية غير خامدة، بل تكيفية. فموضوع العلائق هذه هو الذي يحدد مفهوم الإدماج.
إن مفهوم الإدماج لا تثبت فعاليته إلا بمرجعية مفاهيم أخرى. فالإدماج كالحرية لا يوجد مستقلا بذاته في غنى عن غيره. والعمل الفني لا يحقق الإدماج إلا بعدما تتضح الروابط المضمرة التي تشده إلى السياق المجالي le contexte spatialالذي ينتمي إليه، فيلا حظ إن الموضوع المدمج في عملية تكاملية يثبت ذاته دون أن يكون في وضعية خضوع واستسلام.
ولقد أثار الإدماج عدة تساؤلات، واستدرج فنانين ومعماريين ونقادا إلى مناقشة عدة قضايا ترتبط بالفن والعمارة والمجتمع. ومما لا شك فيه أن فن العمارة انحط إلى درجة كوننا لا نتكلم إلا عن العمارة بمفهومها الضيق، أي طوابق سكنية أفقية/عمودية لا علاقة لها بالإبداع الفني في الهندسة المعمارية.
فكيف والحالة هذه سيزيد الاهتمام بالأعمال الفنية المدمجة أو المتكاملة في غياب عمارة (مهندسة) فنيا وجماليا؟
إن هذا السؤال يثير بلا ريب جدلا كبيرا حول العلائق التي تحدد نوعية التعامل وطبيعته بين العناصر الرئيسية للعملية الإبداعية في المجال التشكيلي/المعماري. (نفرق هنا بين ما هو تشكيلي وما هو معماري تفاديا للخلط، مع العلم أن العمارة جزء من الفنون التشكيلية إن لم نقل أم تلك الفنون).
المهندس المعماري – العمارة
المعماريون كغيرهم يضعون مصلحتهم فوق كل شيء، فتتحقق بذلك مصلحة المهندس على حساب الإبداع، وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن العمارة ليست هي العمارة وأن ما تبقى للمعماريين هو جملة خطابات نظرية مليئة بالعبارات الفضفاضة، (يلاحظ أن هذا النوع من الخطابات حاضر في الأدب الفني المتواتر في الصحف المغربية) وأن سلطتهم ويدهم الطويلة في المشاريع المعمارية أصبحت محدودة النفوذ نظرا لشخصية صاحب المشروع المتزايدة في الثبوت خلال كل مراحل إنجاز العمل.
وإن ما يعاب على المعماريين كونهم رموا بالفن في سلات المهملات (3)، فقد سبق وأن صرح أحد المهندسين البارزين في أوربا في كتابه Architecture en transition «إني لا أعرف مدينة في العالم تتركنا نفتخر ببناياتها"(4).
إن قسطا كبيرا من المسؤولية – المسؤولية عن تزايد الرداءة- تعود إلى الجمهور الذي، نتيجة لأميته الجمالية، يختار ما يشاهده عند غيره دون إبداء رأيه، فيكون كل شيء يتمتع به على حساب ذوقه الشخصي وعلى حساب أي تجديد إستطيقي. فهذه وضعية لها أثرها السيء على أخلاقيات المهنة، وتفتح الباب على مصراعيه أمام الطلبات المتزايدة على البضاعة الرخيصة. فاستعفاء المهندس المعماري وانسلاخه الأخلاقي والفعلي من مهامه ترك المجال مفتوحا أمام تزايد عدد مكاتب الدراسات المعمارية والمقاولة والتوزيع لتقوم بتصور وتخطيط وتنفيذ الأعمال المعمارية غير مراعية أدنى قسط من أخلاقيات المهنة. فكم من مهندس معماري يوافق على وثائق تتعلق بالبناء دون أن يتحرك من كرسيه ليجري بحثا يتقصى من خلاله واقع ما يوافق عليه بتوقيعه؟
الفنان التشكيلي- العمارة
بالرغم من علاقة الأصل التي تربط الفن بالمعمار وتجعل الواحد مكملا للآخر، فإن الفنان التشكيلي يكاد يغيب عن كل عملية تسعى إلى إعطاء العمارة صورة جمالية واضحة. ولذلك نجد أن المتعاونين الذين يساهمون في تصميم الهندسة ويسهرون على تنفيذها لا يتم النداء عليهم إلا حينما يكون العمل جاريا أو على وشك الانتهاء، وأحينا لا يتدخلون إلا بعد مرحلة التدشين.
فقبا سنوات كان الفنانون في الغرب والولايات المتحدة الأمريكية يطالبون بتخصيص جدران لتدخلاتهم. أما اليوم فأصبحوا ينجزون "جدرانهم الصغيرة" إلى جانب جدران المهندس المعماري، ولا غرابة في هذا الأمر ذا كانت العمارة الحديثة التي غزت المدن مع بداية الثمانينات والمواد اللدنة المستعملة في بنائها (الزجاج، البلاستيك، الفولاذ) لم تترك مجالا لأيدي الفنانين، ونسرد كمثال على هذا المؤسسات البنكية التي تهتم وترعى الفنون التشكيلية الحديثة بالمغرب.
فقد خصصت هذه المؤسسات أجنحة للعروض الفنية إلا أن الشكل الذي وزع به الفضاء وتتالت عليه الأحجام وتناسقت به الألوان يرفض أي عمل فني بداخله، فيحس المشاهد أن قيمة اللوحة تتلاشى داخل الفضاء المشوش الذي يعانقها رغما عنها.
إن التباس العلاقة التي تربط الفنان بالمهندس المعماري ظاهرة معلقة. فحينما تبدو العمارة جميلة ومتكاملة يرفض المهندس أي تدخل للفنان الذي يعتبره إصلاحا فنيا مرمقا( ( Bricolage artistique، بينما تطلب المعون الفنية في حالة إخفاق ستر عيوب العمارة. وبديهي ألا يفلح الفنان في مشروعه خاصة حينما تكون الميزانية المالية لتمويله غير مشجعة. فحتى يلقى عمل الفنان النجاح الكامل يجب أن تكون هناك عمارة ناجحة (5)، وأن تذوب الحزازات التي لت تساعد أبدا على ستر العيوب وكتمان التنافر الحاصل على مستوى الرؤى والأفكار عند الإثنين معا، الفنان والمهندس. بل إن اختيار التسوية وصك التراضي المغشوش يؤدي في كثير من الأحيان بالعملين معا (لعمل الفني والعمل المعماري) إلى الفشل ثم إلى النسيان فيما بعد، ونادرا ما يفكر الفنانون بدهاء أن "عمارة فاشلة هي أرضية للأفكار الخلاقة".
الزخرفة الفنية ليست تكاملية
يحقق الإدماج تكاملا ملموسا لا يصل إليه أبدا التزيين الفني. فهذا النوع من التدخلات يثبت مهاراته وكل اهتماماته التشكيلية في إطار الواجهات المعمارية أو ما يدخل في باب الديكور دون أن يعطي أي اهتمام للشكل والمضمون (هنا الشكل والمضمون في معناهما الواسع والشامل للحجم المعماري).
إن العمارة ليست بنية مضيفة أو وعاء يشمل العمل التشكيلي مستقلا بذاته، فعملية الإدماج تغيب كليا حينما تكون العناصر الفاعلة غير مكملة non intégrante.
ولوحظ في بعض الدول أن المفهوم القدحي الذي اتخذته كلمة زخرفة Décorationحمل السلطات الثقافية على مراجعة المصطلحات الفنية المعمول بها في الوثائق الرسمية. فتم بالسويد مثلا خلال الميزانية المالية لسنة 1966/67 تمويل جميع المشاريع المتعلقة باقتناء الأعمال الفنية المرتبطة بالعمارة بعدما كانت الدولة تمول ما يرتبط بالزخارف الفنية (6).
وبذلك انبثق عن التقرير الرسمي الصادر عن المجلس الثقافي بنفس البلد بيان يوضح الفرق الحاصل بين الزخرفة والتصور المظهري للبيئة Configuration et conception de l’environnement.
فالإضافة الزخرفية زيادة تحصل على مستوى الشكل المسطح حينما يكون العمل الأصلي الحامل لها موجودا، بينما يشمل المفهوم الثاني عمق العمل الفني بحضوره خلال مراحل الإنجاز: التصور الأولي والتخطيط والدراسة والتنفيذ والتقييم النهائي.
تاريخها
يجب الإقرار بأن الإدماج كفعل تكاملي يربط بين العمارة والفنون التشكيلية ليس جديدا تماما وليس كليا. بل إن المفهوم /المصطلح ظهر مع التيارات الحديثة في الهندسة المعمارية مع أواخر القرن التاسع عشر، وأصبحت كلمة Intégrationموظفة بشكل واسع كمفهوم جمالي حاضر بين المصطلحات الفنية مع شيوع نظريات مدرسة الباوهاوس الألمانية. لكن وقبل أن نبدأ بتحليل وجهات نظر الباوهاوس في عملية الإدماج، لابد وأن نطرح التساؤل الملح: ماذا قبل القرن العشرين؟
"نشأ الفن مع الإنسان منذ بدأت الحياة الإنسانية"
ومما لا شك فيه أن عمليات الإدماج كتقنيات تشكيلية وكتصور جمالي هي ضرب من الفن.
إن فن الإنسان القديم لم يخضع لنسق موحد في كل الأمكنة والأزمنة التي ظهر فيها. فهو يختلف في تكويناته وأشكاله وألوانه ورموزه وشخوصه، باختلاف الظروف البيئية التي وجد فيها، وكان الكهف أول سكنى الأنسان وأول أرضية ترعرع فيها الفن، على صيغة تصاوير ذات طابع سحري خرافي تزين الجدران. فكانت الأشكال والصور تتفق وطبيعة الأمكنة التي توجد بها، لا تخلو من وحدة وتكامل في الشكل والمضمون والألوان الموظفة، تشهد بذلك على العقلية التي أبدعتها، فتبقى البدائية Primitivismeهي الخط الرابط بين العناصر الثلاثة: الزمان – المكان- الفعل، الضرورية لأي إنتاج فني.
ثلاثة عناصر أساسية تسير في خط أفقي لتنظم الأنساق الجمالية عبر العصور، فنجد الحضارات القديمة تتأثر فيها العمارة أشد تأثير بالفكر الأسطوري وبالعقيدة الدينية. فتشيد المعابد ضخمة شامخة، ولا بأس أن نسرد وصفا للمعبد الفرعوني كما جاء في كتاب عز الدين إسماعيل (7): "كان المعبد يتكون من صحن ذي أروقة يتلوه بهو ذو أعمدة، ثم هيكل أو أكثر ويتقدم المعبد طريق تقوم على جانبيه تماثيل الكباش، يفضي إلى بوابة يكتنفها برجان هائلان. وتقف المسلات – رمز عبادة الشمس- أمام كل معبر شامخة برؤوسها. وهنا ننظر فنجد أن الضوء يتدرج في المعبد من الشمس الساطعة في صحنه إلى الظلمة الحالكة في الهيكل، ومن صحن المعبد يصعد السائر إلى بهو الأعمدة الشامخة حتى يصل إلى الهيكل، وهذا التخطيط الهندسي يعكس روح الديانة المصرية القديمة".
إن الفنان التشكيلي سواء كان رساما أو نحاتا لم يكن غائبا عن المراحل الأولية من تصور وتخطيط العما رة الهندسي، بل ربما أنه يشكل مع المهندس المعماري المشرف على المشروع مجموعة متكاملة متجانسة غايتها تحقيق هدف واحد.
وإننا لا نسعى إلى إعطاء نبذة تاريخية شاملة عن تطور مفهوم الإدماج فالمجال لا يتسع لذلك، ولكن لابد من القول بأن العمارة القديمة كانت تتكيف مع الإنسان الذي يسكنها وتتوافق مع متطلباته اليومية، وأن الرسام القديم ينادى عليه ليرسم على الجدران والسقوف مستعملا ألوانه وريشته حينما يكون البيت جاهزا واقفا منتصبا. وهذه عملية تدخل في إطار الزخرفة الفنية، وهي كما بينا آنفا غير الإدماج والتكامل. إلا أنه تجب الإشارة ولتأكيد على أن العمارة القديمة قروية أو حضرية، تأخذ جذورها من تقاليد عريقة لا تنفصل فيها الزخرفة عن البناء. كما هو الشأن في المعمار الإسلامي مثلا. فرغم أن هذه الزخرفة تنجز بعد انتصاب البناية وتشييدها، فإنها تعد جزءا من المشروع المعماري وأن لفعاليتها دورا تكامليا في مرحلة تصور شكل البناء وتصميميه. بل إن العمارة في تاريخ الفنون الإسلامية هي الزخرفة نفسها حسب رأي بعض المؤلفين (8). فالكتل والأحجام وتوزيع الفضاء كلها عناصر تأتي في درجة ثانية بعد التزيين.
فلا يمكن أن نتصور عمارة إسلامية سواء كانت مسجدا أو ضريحا أو مدرسة عتيقة بدون زخرفة. فبألوانها وأشكالها وخطوطها اللولبية المتاهية labyrinthiqueتكون ما يسمى بالنظام المستقل للعمل الفني، بحيث إنها تثبت ذاتها وتفرض وجودها دون سواها مستقلة عن أي تأويل موضوعي، مما يؤكد على أن الفنانين المسلمين أثاروا جدلية الموضوع الجمالي/الموضوع الموضوعي أو ما أسماه ببادبولو (9) بالعالم المستقل للعمل الفني قبل الغربيين بعدة قرون.
إن "عناصر الزخرفة الإسلامية المقتبسة من الطبيعة تعلو وتسمو بمشاهدها إلى الأفق المقدس، أفق الحق المبدع الوحيد المصور الوحيد، فالتأمل في الطبيعة هو تأمل في الوجود وتأمل في معاني الشهادة. إنها وقفة توحيدية تعود لتقرأ صور الغيب انطلاقا من صور الوجود...فليس العالم فضاء ووجودا وطبيعة، إلا الشهادة الكبرى للغيب الأزلي الأبدي، فالوجود كما يشير القرآن الكريم ما هو إلا ساجد يسبح"(10).
"يسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، ومن شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم" (سورة الإسراء – آية 44).
إن قراءة فلسفية وجمالية لهندسة المسجد – أهم ركائز العمارة الإسلامية – توحي بأن الهاجس المعماري والهاجس الفني كانا معقودين حول علاقة الأطراف بالمركز أو علاقة المحيط بنقطة الوسط. كيف يدور الجميع حول النقطة الواحدة وكيف يشع الواحد ويتجلى في الكل"(11).
ولم تكن الزخارف التي تزين المساجد مجرد أشكال تزيينية عبثية لا نفع لها سوى ما تمنحه لمشاهدها من جمالية حسية، بل إن لها مضمونا روحيا ينبع من التصورات الأساسية التي يحملها الإنسان المسلم فيما يختص بالله والكون والإنسان. إنها أشكال كأحجام العمارة تستشعر الحضرة الإلهية في وحدة تكامل بين الروح والجسد.
ونجد أن الوحدة والتكامل كذلك من سمات الفنون التشكيلية في عصر النهضة الإيطالية. فقد تم ابتداء من أوائل القرن السادس عشر الميلادي إعادة توحيد ما اجتهد مفكرو القرون الوسطى في تفرقته وتشتيتيه، فجاءت إنتاجات هذه الفترة عبارة عن مؤلف ثابت متين un composé stable (12)، يكشف صراحة عن إدماج كلي بين الموضوع والشكل الكلاسيكيين.
إن الفكر الوسيطي (نسبة إلى العهد الوسيط)، عمل على ضم كل ما كان يراه مقبولا من أفكار العصور الكلاسيكية مع العمل على توسيع الهوة بين العقل والإيمان (الدنيا والدين)، بينما اتجه المفكرون النهضويون إلى تشجيع فكرة إذابة الحواجز بضم العالمين إلى بعضهما بإلغاء كل العوامل التي تفرق بين الفلسفات والدين والسحر.
وإن ما يهمنا في هذا المقام هو عدوى رفع الحواجز التي عمت كل الفكر النهضوي ولم تستثن من ذلك الفنون التشكيلية حيث تم العمل على إدماج ما كان يسمى بالفنون الحرة Arts libérauxوضمها إلى الفنون الميكانيكية Arts mécaniques أي الرفع من مستوى النشاطات التطبيقية ذات المهارات اليدوية إلى مستوى المعرفة النظرية المنبثقة عن الفكر. فقد أثبت الفنان ليوناردو دافنشي في كتاباته أن الرسم يعتمد النظريات الرياضية والعلمية كهندسة المنظور والتشريح والبصريات.
فالفكر التام والمتكامل الذي يجمع بين النظري والعملي لخلق ما يسمى بالفن الكلي Art totalيبقى شعارا للاتجاهات الحديثة التي ظهرت بعد الكلاسيكية الجديدة، ولاريب أن نسبة النجاح في تحقيق الشمولية والتكامل تختلف حسب المدارس التشكيلية التي تكون صرح الفن. وفي نظر النقاد والمؤرخين أن بعض الحركات الحديثة التي ظهرت في أوربا مع أوائل القرن العشرين وعلى رأسها مدرة البو هاوس (13) حققت هدفها.
الباوهاوس Bauhaus
أفلح الفريق الفني الساهر على التدريس في مدرسة الباوهاوس في الجمع بين مختلف التقنيات التشكيلية وتطوير المفاهيم الجمالية المرتبطة بالشكل والمضمون في علاقتها النفعية بالمجتمع، وكان أهم شيء حققته هذه المجموعة التربوية يتجلى في سد الهوة وطمس الفوارق بين الفنان Artisteوالحرفي Artisan، ويقول المهندس والتر غروبيوس، أحد رواد المدرسة، في بيانه:" إننا نريد خلق جماعة من الصناع الحرفيين لا يعرفون الطريق إلى الأنانية الطبقية التي تضع سدا منيعا بين الفنان والحرفي. يجب أن نعمل جميعا على تصور وتهيئ صرح المستقبل الجديد الذي سيوحد بشكل تناسقي بين المعمار والنحت والتصوير la peinture «. (14)
إن إدخال الفن في الحياة وخصوصا في إطار حياة الإنسان لا يكون بدون أخلاقيات جديدة تترجم لنوع جديد من العلاقات بين المدرسة والمتعلم، وهنا يقول غروبيوس:" إن الأمر لا يتعلق بأساتذة وتلاميذ ولكن بمعلمين ومتعلمين. إنه لا يتعلق بفنانين متخصصين في الفن الحر أو الفن التطبيقي ولكن بمبدعين يكمل بعضهم بعضا من أجل خلق عمل فني موحد" (15).
لم تكن مدرسة الباوهاوس معهدا للبحوث الفنية فقط، بل كان الاهتمام مركزا كذلك على الظروف الاقتصادية المرتبطة بدمج الفن في الحياة الصناعية. فعوض الحديث عن معامل يشتغل فيها الأفراد كل منزوي في ركنه، تم تشكيل مقاولة تجمع بين متخصصين في ميادين مختلفة كالرسو والمعمار والتصميم الصناعي وغيرها، تحمل شعار: "يجب أن يحصل التكامل التام أو لا يحصل، التكامل الذي يؤدي إلى العلاقة الحقيقية بين الشكل والوظيفة والخامات في علاقتها مع خطوط الإنتاج". (16)
ماذا عن المغرب؟
سؤال يطرح نفسه منذ البداية ويمكنه أن يوسع فيشمل العالم العربي وسائر دول العالم الثالث. إلا أنه وضيق المجال سنكتفي بإلقاء نظرة سريعة على تطور عمليات الإدماج كما راجت في البيئة المعمارية المغربية.
لقد تناول خليل لمرابط في كتابه (17) العلاقة بين الفن والمعمار بالتحليل والنقد، فبين كيف تطورت لدى الفنان التشكيلي فكرة التعامل مع المهندس المعماري، مستخلصا أن هذا الأخير يتدخل في العمارة أو يشارك في المشروع في آخر مرحلة من مراحل إنجازه مكتفيا في غالب الأحيان بتكبير إحدى لوحاته وعرضها على الحائط.
ويوضح لمرابط أن الذين يتعاونون مع المهندس المعماري كأصحاب الطلب والمشاريع جلهم من الخواص كالأبناك والشركات الكبرى. وهنا يجب طرح التساؤل التالي: إلى أي حد تهتم السلطات الرسمية الثقافية وغيرها بالإدماج المعماري وتنظيم البيئة؟
في هذا تبقى تجربة أصيلة بارزة أكثر من غيرها نظرا للمكانة الثقافية التي أخذها الموسم الصيفي على الصعيدين الوطني والعالمي، ونظرا كذلك لتزايد عدد من الفنانين المتدخلين من موسم إلى آخر. فهي تجربة تطفو على السطح أكثر من غيرها إلا أنها تخرج عن نطاق كون الأعمال المنجزة من طرف الفنانين التشكيليين لم تستوف الشروط المتوفرة لتحقيق الإدماج، رغم كونها فتحت المجال أمام العديد منهم لواجهوا لأول مرة خلفية Support – الجدار - غير التي اعتادوا الاشتغال عليها.
لقد حاول كل من الفنانين المتدخلين تزيين الجدران بلوحات جدارية تناولوا فيها نفس العناصر التشكيلية من ألوان وأشكال ورموز وتقسيمات فضائية، فجاءت أعمالهم مشوشة شيئا ما وتؤدي إلى زعزعة الوسط المعماري الخاص بالمدينة البيضاء ذات العلامات الزرقاء (الأبواب والنوافذ). ويعترف الفنان بلكاهية بأن الفنانين اكتفوا بإلصاق أعمالهم على الحائط فقط (18). زيادة على كون بعضهم أتوا ومعهم تخطيطيات أولية جاهزة سعوا إلى نقلها على الجدار في مساحات كبيرة.
إن العمليات التزيينية التي تمت بأصيلة خلال الفترة الأولى ثم الفترة الثانية تعطي أحد الأمثلة السلبية للإدماج، ذلك أن أي تدخل كهذا الذي حصل يكرس فردانية الفنان ويقوي غطرسة غروره، عكس ما تتطلبه عملية الإدماج من تنازل عن الرأي الشخصي لحساب المصلحة الجماعية ومن ذوبان الذات الفردية لصالح الجماعة.
إن تجربة أصيلة لم تكن قارة ومؤذية بالبيئة. فقد تمت إعادة صباغة الجدران من جديد وبذلك تبقى الغاية منها هي منح الفرصة للفنان ليفجر مكبوته في الهواء الطلق بعيدا عن ضيق المرسم وروائح الصباغة الزيتية. في حين أن ما يتحقق من عمليات "إدماج" على مستوى المشاريع العمرانية الحضرية في المدن المغربية يشكل خطرا على البيئة المحلية (ميلاد بعض العمارات ذات الأشكال المنقولة عن الغرب، تزايد عدد الأشكال الهندسية ذات الطابع الإغريقي/الروماني – الأعمدة الأيونية، المثلث، الدائرة...)، وكمثال على نتناول ما ينجز حاليا بمدينة مكناس، في انتظار العودة إلى الموضوع بالتفصيل.
لقد تم التخطيط لأعادة تنظيم ساحة لهديم بمكناس، فسلم المشروع بعد الموافقة عليه – وكان المشروع الوحيد- إلى مهندس معماري بالمدينة.
وتتلخص العملية في تزيين الساحة بأشياء تؤدي وظائف مختلفة، فكانت النافورة أول ما تم التفكير فيه ولم تكن واحدة بل ثلاث. إلا أن التساؤل الذي يطرح نفسه هو، هل ساحة لهديم كساحة شعبية في حاجة إلى إعادة تنظيم بالشكل الذي هي عليه الآن؟
لقد تم الاستحواذ على المشروع من طرف المهندس متقمصا دور الملحن الذي يكتب الكلمات ويلحن ويغني في نفس الوقت، فتكون النتيجة أغنية من نوع Tarte à la crème (19).
وإذا سلمنا بأن الساحة في حاجة إلى تنظيم وهيكلة، والأصح أنها تكتفي بنفسها وتتمتع بما يسمى بالاكتفاء والإشباع الذاتيين. فالأجدر أن تتكون لجنة فاعلة تسهر على تنفيذ المشروع حتى يتم ما يسمى بتنوع الاختصاصات pluridisciplinaritéليحصل التكامل المرجو تحقيقه الذي به يتحقق النجاح. فالظاهر أن المشروع لم تتم دراسته من كل جوانبه الأساسية، فقد كانت للسلطة الخارجة عن سلطة المهندس الكلمة العليا. فغاب بذلك الذوق الفني والحساسية الجمالية المرهفة.
إن الأحجام التي تم إلصاقها بالساحة (نافورة – مقصورات – أرضيات لوضع الأعلام – رخام...) لا علاقة لها بالمناخ العام الذي وضعت فيه. فالنافورات صممت على شكل أقداح لا تتجاوب والأشكال الهندسية التي تملأ الساحة والمقصورات المتفرقة الملصقة بأسفل الجدران تأخذ مرجعتيها من مقصورتي جامع القرويين بفاس التي بناها أحمد المنصور الذهبي في عهد الدولة السعدية. وإذا حاولنا البحث عن أصلها نكتشف أنها لا تبتعد كثيرا عن شكل الخيام المربوطة في الصحراء. وإذا وظفها السعوديون أو غيرهم فلكونها وجدت بمدينة مكناس. فإنها ضدا على العمارة الإسماعيلية ذات الطابع القار الدفاعي التحسيني.
إن المعالم الإسماعيلية قلاع وحصون في ذاتها، والمدينة نفسها لا تخرج عن هذا النطاق، خالية من كل عناصر زخرفية، فهي عمارة على الطراز الموحدي تترك الذي بداخلها يرمي ببصره إلى الخارج وليست من الطراز المريني مثلا ذي الزخرفة الكثيفة.
ولا شك أن لساحة لهديم قيمة تاريخية تساوي القيمة الجمالية التي تم التشويش عليها إن لم نقل طمسها. فبالساحة باب شامخة شاهدة على حقبة متميزة من تاريخ مكناس، لدرجة كونها ارتبطت بها فأصبحت بمثابة توقيعها، فنقول مكناس ونتذكر باب المنصور لعلج. كما نستحضر القرويين حينما نتحدث عن فاس أو الكتيبة بمراكش.
باب المنصور إحدى الأبواب الرئيسية من أبواب المغرب العتيقة تفتح على ساحة لهديم متنفسها الوحيد، والتي بدونها لا يكون لها وجود، فالباب غابت من الساحة أو كادت، رغم عظمتها وكبر حجمها، بين العناصر التلفيقة التي وضعت أمامها.
ولا شك أن الساحة من الفضاءات الضرورية والأساسية في حياة الإنسان المغربي على الخصوص فشساعتها تخلق توازنا على مستوى الأشكال والأحجام المعمارية داخل المحيط البيئي الذي توجد به. فلا نتصور منزلا بدون ساحة (المراح)، وخير دليل على ضرورة تواجدها التغييرات التي يدخلها البعض على الشقق الحديثة، حيث يهدمون الحمام أو غيره لتوسيع فناء المنزل.
والساحة من الأماكن ذات الامتياز داخل إطار الفضاءات المعمارية الإسلامية، فهي تأتي في درجة ثانية بعد المسجد من حيث أهميتها وقدسيتها، فضاء ديني/دنيوي، متجانس/لا متجانس في نفس الوقت.
فضاء متجانس لكونه لا يضع حدودا بين الديني والدنيوي، فالساحة تلعب دور المسجد (المصلى) والمحكمة والسوق والبيعة...
إن ساحة لهديم كغيرها من ساحات المغرب المشهورة محمولة بالرموز التي تكون ذاكرة أهل مكناس، ذاكرة شعبية قوية وخصبة، أصلا لكل رصيد ثقافي وفكري، وقد قال أحد رجالات مكناس مستنكرا: "إني بجولة صغيرو أو وقفة تأملية بساحة لهديم أستذكر طفولتي، فهناك تعلمت الركوب على الدراجة وأنا في السابعة من عمري".
وبقدر ما هي متنفس للباب الكبيرة التي تواجهها، فإنها كذلك متنفسا لأهل المدينة أيضا. يجدون فيها راحتهم وينسون فيها همومهم اليومية. ولقد تمت عصرنتها بتوظيف عناصر معمارية لا علاقة لها بالوسط الذي يحتضنها. فالمكان ليس مكملاintégrant والعناصر نفسها ليست مدمجة intégré، ومواد البناء الهجينة كالقرميد وحجر سلا الأصفر أصبحت عملة لعصرنة العمارة العتيقة بالمغرب. فأين هي الخصوصيات الإقليمية التي تميز عمارة عن أخرى؟ والتي تكون الخصوصية الوطنية، إحدى مكونات الاختلاف، شعار الهوية الوطنية؟
خاتمة
إن الالتزام بالأعمال الهائلة والقدرة على الإدماج والتكامل ليسا من الأمور السهلة والهينة. فالأسباب والعزائم على مستوى العلائق لا تخلو من أي معنى، علائق ليست فقط إنسانية وللكنها أيضا مرتبطة بمسلمات سياسية واقتصادية وتقنية وجمالية. وبالنظر إلى \لك تبقى ه\ه المسلمات هي التي توجه لحمة العلاقات البنائية.
إن فعل الإدماج عرضة لاتهامات ومؤاخذات لا رجعية، سواء كانت نابعة من شخص واحد أو جماعة من الأفراد أو إدارة مركزية جهوية أو إقليمية، تكون نتيجته عملا إبداعيا يشهد إما عن كماله أو عن تعارضات ملازمة له منبثقة عن الأيدي التي تتهمه. فحضوره في المجال البيئي يكفينا لنكون على وعي به.
هوامش
أول اجتماع طرحت فيه قضايا تدخل الفنان التشكيلي إلى جانب المهندس المعماري كان سنة 1982، من تنظيم الجمعية المغربية للفنون التشكيلية والجمعية المغربية للمهندسين المعماريين بالأودية – الرباط.
Bauhaus، مدرسة الفن المعماري والفنون التطبيقية. أسسها المهندس Walter Gropius بمدينة فيمار الألمانية سنة 1919، ثم انتقلت بعد نهاية الحرب العالمية الأولى إلى مدينو ديسو. وقد لعبت المدرسة دورا كبيرا في تطوير الأفكار والتقنيات الفنية الحديثة. وكان من بين أساتذتها: جوهانس إيتن وبول كلي وفسيلي كاند نسكي ومهولي ناجي وجوزيف البرس وهانس مايير وميس فان ديرو.
بعد الحرب العالمية الثانية نشطت المدرسة بالولايات المتحدة الأمريكية بعد هجرة أفرادها حين شدد عليهم النازيون الخناق وأغلقوا المدرسة بألمانيا.
المراجع
Khalil M’RABET – Peinture et identité, l’expérience marocaine – Paris, Le Harmattan, 1987.
- Michel RAGON – Les erreurs monumentales – Hachette, 1971.
- J.L. CHALUMEAU – Introduction à l’art d’aujourd’hui – Paris, F. Nattant, 1971.
- In Art et Architecture – Bilan et problème du 1%, (Catalogue du FNAC, exposition Paris, Septembre/Octobre 1970)
- Marian STORM – L’art public – Paris, Dumont/Bordas, 1980.
- Alexander PAPADHÓPOULOS – L’Islam et l’art musulman – Paris, Mazenod, 1976.
- Erwin PANOFSKY – L’œuvre d’art et ses significations – Gallimard – Paris, 1969
- Thomas MUNRO – Les arts et leurs relations mutuelles – Paris, NRF, 1954.
- د. عزالدين إسماعيل – الفن والإنسان – بيروت، دار القلم، 1974
- سمير الصايغ – الفن الإسلامي – بيروت، دار المعرفة، 1988.
- يوهانس إيتن – الدورة الدراسية في الباوهاوس – ترجمة وجدام ماهد – مجلة فنون عربية، عدد1، 1992
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق