عندما يصبح صراخ الجنون حقيقة كالوجود، يتحرّرصباح من أوهام الحاضر، يصير الماضي في متناول ذاكرته، يحطّم خوف المحلّة بهتاف مرتعش،يحمل لعنات منصبّة على أمسه،يقف شامخاً، يقطب جبينه،يرفع يده، تعبث نظراته بالفراغ، تحملق عيون المارّة حوله، يمتشق لسانه:
- أيّها الغرباء، أريد أن أحرركم من سجن الخوف، ما لي أرى ألسنتكم مغمدة؟ ألا ترون معصم عقلي كيف حزّته القيود؟
الشفاه المحتضرة، المغروسة في محجر الفراغ، تطلق ضحكات هازئة بعقله، يتراءى لك أنّهم في نزهة، تتوهج نوبته الجنونية، يرتفع صراخه؛ فيرتفع التصفيق والصفير، يشتعل حماساً، فتنطفئ أصوات الوجوه الكالحة:
- أرى وحوشاً ضارية تسير، تتبعها خفافيش.
يمتعض بعض أصحاب الكروش المارّين أمامه، يوبّخونه بكلمات قاسية، لكنّه لا يدعهم يمرّون حتى يسمعهم ألواناً من الشتائم والسباب. وحين تلسعه الذاكرة بالمهانة وذلّ المطبلين بالنفاق، يخرق خوفه لهفة الانتقام، يفتح أبواب الجحيم على الذين يحوطنه بالضحك والسخرية، وكأنه يعرف كيف يهزمهم، يرميهم بقذيفة مدوّية:
- لقد دنّستم التراب بالعار وارتديتم لباس الهوان، فلتسقط الحكومة.
يفرّ المتفرجون صوب مفارق الطرق، كالذباب خوفاً من المجهول، ولمّا لم يجد أحداً يغرق في موجة من الضحك، تبقى تلاحقهم حتى يختفي الأثر. لم يكن صباح مجنوناً كالآخرين كثّ الشعر قذراً، حين تراه أول مرّة، لا يتبادر لذهنك سوى أنه رجل سوي. اعتاد أن يقطع شارع المدينة، مؤتزراً بملامح عابسة، حتى يستقر به المطاف عند السوق، لاينبس بكلمة، يحب أن يسرد قصته. سألته ذات مرة:
- لماذا تسبُّ الحكومة؟ ألا تخاف أن يقتلوك؟
- لقد قتلوني مرّتين، ولا يجرؤ أحد على قتلي مرّة ثالثة.
- كيف؟ لا أفهم ما تقول.
فاحت منه رائحة الألم وصقيع الأيام الماضية:
- أنت تعلم أنّي لست مجنوناً، ولكنّي أعاني من اضطرابات نفسية حادّة بسبب السجن.
- وماذا بعد؟ هل هناك شيء تريد أن تخفيه؟
- لا، و لكنّي أعاني من نوبات صرع لعينة، ستقتلني يوماً ما.
سألته عن سبب سجنه، تحدّث بغرابة وألم ممزوجين بكلمات نابية:
- كنت مدرساً للفيزياء، تحدّثت يوماً عن نيوتن العظيم، وما يعانيه من إضطرابات نفسية، فلم يصدقني أحد، تحدّثت عن أشهر العظماء المجانين، الأمر ليس مقصوراً على نيوتن، فان كوخ الرسام الهولندي لقد قطع أذنه، وانتحر في نهاية المطاف. صمت برهة، ثمّ واصل الحديث:
- آه لو اكتفيت بهذا الكلام لما حدث ماحدث، ألا لعنت الله على تشالرز المجنون. - ومن هذا المجنون؟ ابتسم ابتسامة شفيفة:
- أحد ملوك فرنسا حكمها(42) عاماً، آخر سنواته كان ينسى، حتى وصل به الأمر أنّه ينسى اسمه، فكان يوصف بالجنون.
- وما علاقة هذا بالموضوع؟ لم يجبني.
فهمت لاحقاً أنّه أتّهم بوصف الرئيس بالجنون. بكى كثيراً، حين دخل مديرية الموت، شيّعوا ذكورته، فكان أول إعدام لكينونته. مرّت أيام وصراخه يتنامى،بريق الجنون يخترق نافذة خوفه، نوبات الصرع تجتاحه على غير المعتاد. وحين استطال الوجع على صراخه اليومي، أطلق سراح جسده.ارتدى ثوب الجنون، تحرك فوق الأرصفة مثل رفات تبحث عن قبر يؤويها، تهرب خطواته من تحت ظلّه، يجلس فوق دكّة صمته، تضيء ذاكرته، وجوه بلا ملامح، صور مقلوبة، انقلابيون يكرسون كلّ شيء للموت،خراف تساق للذبح، صوت غارات، طائرات، قتلى ....، فيعلم أن تلك الأيام هي ذاتها، وأنّ الناس تتعذب بقدر أحلامها، لا يرى في الأفق غير سرب من الجرذان والفئران تحيط بالعقول المدجّنة بالهزيمة، الشفاه المتيبّسة تهرول بكامل صمتها نحو أرض جرداء. لم تعد الأشياء مختلفة إلّا هو بدا غريباً، ينفلت من عقال صمته:
- يقولون لي، "إنّك تبحث عن قبرك" والله سأتنفس ما تبقى من ذاكرتي حتى ألعن آباءهم وأعرّي عروشهم الخاوية. همست في أذنه:
- أخفض صوتك.
- لا تخف، قلت لك أنّهم لا يجرؤن على قتلي لمرّة ثالثة.
- وكيف كانت قتلتك الثانية؟
حدّق في وجهي كثيراً،غادرني نحو ساحل صمته، أرعبتني نظراته،لأول مرّة أشعر بالخوف من شيء مخبّأ في حدقاته المشروخة بالرعب. مجموعة من الزمّارين والجرذان تتزاحم خلفه، ارتعش، ربما يعدم للمرّة الثالثة. عاين المكان، وجوه تحمل ملامح متشابه، بائسة، شفاه متورّمة، أكوام من اللحم تختبئ في ملابس مخطّطة، العنوان يهبط بضحكاته الموشاة بالجنون، تعلو شفتيه إبتسامة،
"آه إنّها الشماعية*، سأجد صاحبي، أين أنت يا نيوتن؟"
تزحف مطارق الضجيج والخوف،تحطّم ما بقى من عقله، الأسئلة المنهارة عليه تتنفس الأتجاهات المصلوبة على ملفّ جنونه، يمنح رقماً جديداً بدل اسمه المغادر عتبة الجنون. يتعثّر كلّ شيء، حتى الضوء الخافت يسقط خلف أسلاك المشفى، يعرف كلّ شيء ساكن، يرحل من نسيانٍ إلى نسيان. منعطفات الليل والنهار تتكرر، تشيخ، محفوفة بالعادة من صرائف خلف السدة الترابية إلى الشماعية، من القتل إلى القتل، والوطن يهرول من الشمال إلى الجنوب عبر مسافات ومسامات تتنفسها الغربان والعربان. يبتلعه ظلام المشفى، فيرقد الخوف على أنين الموتى، لا أحد يأتي لفكّ وثاق غربته الأزلية أو حتى زيارته:
- لماذا يتربصون بنا ؟ ألا يكفي مصادرة عقولنا، أيامنا؟
حاولت إخراجه من صمته اللعين، لم يبق غير سؤال واحد طالما حيرني، لأكمل مدوّنتي لذاكرته:
- لِمَ لم تخبرني كيف تمّ قتلك في المرّة الثانية؟
كان السؤال صفعة لذاكرته، التهب كيانه بالارتعاش، هزّني صوت استنكاري ملؤه الغضب:
- إنّك لا تطلب الحكمة، مَن يرد لي عقلي أعطيه الجواب، هذا فراق بيني وبينك. صور مرعبة تتراقص في عينيه، يغرق في موجة جديدة من الهيجان:
- أيّها الغرباء، أنا مهاجر كثرت محطات ذعري، أخشى عليكم أن يغادر جباهكم الحياء، أغلقوا أبواب عهر الوحوش الضارية، أريد أن أحرركم من سجن الخوف، كلماتي المذبوحة على شفا عقولكم الخاوية ستنير لكم الطريق. أصاب الجموع دهشة وحيرة، وكأنّ الخرس قد أغلق أفواههم، العيون خطوات تتبع ظلّه، آن له أن ينزع آية الظمأ، لوى عنان ألمه واختفى. ثلاثة أيام لا غير، صحا الناس على خبر قتل صباح، جثة ملقاة خلف السوق، رصاصة مجهولة اغتالت ما تبقى من ذاكرته، نحروا أيامه على مذبح الجنون، ولم ينحنِ لهوج المحطات. تحسّس المشيّعون جباههم، وأنا اكتويت بغصة مدونتي التي لم تكتمل بعد.
- أيّها الغرباء، أريد أن أحرركم من سجن الخوف، ما لي أرى ألسنتكم مغمدة؟ ألا ترون معصم عقلي كيف حزّته القيود؟
الشفاه المحتضرة، المغروسة في محجر الفراغ، تطلق ضحكات هازئة بعقله، يتراءى لك أنّهم في نزهة، تتوهج نوبته الجنونية، يرتفع صراخه؛ فيرتفع التصفيق والصفير، يشتعل حماساً، فتنطفئ أصوات الوجوه الكالحة:
- أرى وحوشاً ضارية تسير، تتبعها خفافيش.
يمتعض بعض أصحاب الكروش المارّين أمامه، يوبّخونه بكلمات قاسية، لكنّه لا يدعهم يمرّون حتى يسمعهم ألواناً من الشتائم والسباب. وحين تلسعه الذاكرة بالمهانة وذلّ المطبلين بالنفاق، يخرق خوفه لهفة الانتقام، يفتح أبواب الجحيم على الذين يحوطنه بالضحك والسخرية، وكأنه يعرف كيف يهزمهم، يرميهم بقذيفة مدوّية:
- لقد دنّستم التراب بالعار وارتديتم لباس الهوان، فلتسقط الحكومة.
يفرّ المتفرجون صوب مفارق الطرق، كالذباب خوفاً من المجهول، ولمّا لم يجد أحداً يغرق في موجة من الضحك، تبقى تلاحقهم حتى يختفي الأثر. لم يكن صباح مجنوناً كالآخرين كثّ الشعر قذراً، حين تراه أول مرّة، لا يتبادر لذهنك سوى أنه رجل سوي. اعتاد أن يقطع شارع المدينة، مؤتزراً بملامح عابسة، حتى يستقر به المطاف عند السوق، لاينبس بكلمة، يحب أن يسرد قصته. سألته ذات مرة:
- لماذا تسبُّ الحكومة؟ ألا تخاف أن يقتلوك؟
- لقد قتلوني مرّتين، ولا يجرؤ أحد على قتلي مرّة ثالثة.
- كيف؟ لا أفهم ما تقول.
فاحت منه رائحة الألم وصقيع الأيام الماضية:
- أنت تعلم أنّي لست مجنوناً، ولكنّي أعاني من اضطرابات نفسية حادّة بسبب السجن.
- وماذا بعد؟ هل هناك شيء تريد أن تخفيه؟
- لا، و لكنّي أعاني من نوبات صرع لعينة، ستقتلني يوماً ما.
سألته عن سبب سجنه، تحدّث بغرابة وألم ممزوجين بكلمات نابية:
- كنت مدرساً للفيزياء، تحدّثت يوماً عن نيوتن العظيم، وما يعانيه من إضطرابات نفسية، فلم يصدقني أحد، تحدّثت عن أشهر العظماء المجانين، الأمر ليس مقصوراً على نيوتن، فان كوخ الرسام الهولندي لقد قطع أذنه، وانتحر في نهاية المطاف. صمت برهة، ثمّ واصل الحديث:
- آه لو اكتفيت بهذا الكلام لما حدث ماحدث، ألا لعنت الله على تشالرز المجنون. - ومن هذا المجنون؟ ابتسم ابتسامة شفيفة:
- أحد ملوك فرنسا حكمها(42) عاماً، آخر سنواته كان ينسى، حتى وصل به الأمر أنّه ينسى اسمه، فكان يوصف بالجنون.
- وما علاقة هذا بالموضوع؟ لم يجبني.
فهمت لاحقاً أنّه أتّهم بوصف الرئيس بالجنون. بكى كثيراً، حين دخل مديرية الموت، شيّعوا ذكورته، فكان أول إعدام لكينونته. مرّت أيام وصراخه يتنامى،بريق الجنون يخترق نافذة خوفه، نوبات الصرع تجتاحه على غير المعتاد. وحين استطال الوجع على صراخه اليومي، أطلق سراح جسده.ارتدى ثوب الجنون، تحرك فوق الأرصفة مثل رفات تبحث عن قبر يؤويها، تهرب خطواته من تحت ظلّه، يجلس فوق دكّة صمته، تضيء ذاكرته، وجوه بلا ملامح، صور مقلوبة، انقلابيون يكرسون كلّ شيء للموت،خراف تساق للذبح، صوت غارات، طائرات، قتلى ....، فيعلم أن تلك الأيام هي ذاتها، وأنّ الناس تتعذب بقدر أحلامها، لا يرى في الأفق غير سرب من الجرذان والفئران تحيط بالعقول المدجّنة بالهزيمة، الشفاه المتيبّسة تهرول بكامل صمتها نحو أرض جرداء. لم تعد الأشياء مختلفة إلّا هو بدا غريباً، ينفلت من عقال صمته:
- يقولون لي، "إنّك تبحث عن قبرك" والله سأتنفس ما تبقى من ذاكرتي حتى ألعن آباءهم وأعرّي عروشهم الخاوية. همست في أذنه:
- أخفض صوتك.
- لا تخف، قلت لك أنّهم لا يجرؤن على قتلي لمرّة ثالثة.
- وكيف كانت قتلتك الثانية؟
حدّق في وجهي كثيراً،غادرني نحو ساحل صمته، أرعبتني نظراته،لأول مرّة أشعر بالخوف من شيء مخبّأ في حدقاته المشروخة بالرعب. مجموعة من الزمّارين والجرذان تتزاحم خلفه، ارتعش، ربما يعدم للمرّة الثالثة. عاين المكان، وجوه تحمل ملامح متشابه، بائسة، شفاه متورّمة، أكوام من اللحم تختبئ في ملابس مخطّطة، العنوان يهبط بضحكاته الموشاة بالجنون، تعلو شفتيه إبتسامة،
"آه إنّها الشماعية*، سأجد صاحبي، أين أنت يا نيوتن؟"
تزحف مطارق الضجيج والخوف،تحطّم ما بقى من عقله، الأسئلة المنهارة عليه تتنفس الأتجاهات المصلوبة على ملفّ جنونه، يمنح رقماً جديداً بدل اسمه المغادر عتبة الجنون. يتعثّر كلّ شيء، حتى الضوء الخافت يسقط خلف أسلاك المشفى، يعرف كلّ شيء ساكن، يرحل من نسيانٍ إلى نسيان. منعطفات الليل والنهار تتكرر، تشيخ، محفوفة بالعادة من صرائف خلف السدة الترابية إلى الشماعية، من القتل إلى القتل، والوطن يهرول من الشمال إلى الجنوب عبر مسافات ومسامات تتنفسها الغربان والعربان. يبتلعه ظلام المشفى، فيرقد الخوف على أنين الموتى، لا أحد يأتي لفكّ وثاق غربته الأزلية أو حتى زيارته:
- لماذا يتربصون بنا ؟ ألا يكفي مصادرة عقولنا، أيامنا؟
حاولت إخراجه من صمته اللعين، لم يبق غير سؤال واحد طالما حيرني، لأكمل مدوّنتي لذاكرته:
- لِمَ لم تخبرني كيف تمّ قتلك في المرّة الثانية؟
كان السؤال صفعة لذاكرته، التهب كيانه بالارتعاش، هزّني صوت استنكاري ملؤه الغضب:
- إنّك لا تطلب الحكمة، مَن يرد لي عقلي أعطيه الجواب، هذا فراق بيني وبينك. صور مرعبة تتراقص في عينيه، يغرق في موجة جديدة من الهيجان:
- أيّها الغرباء، أنا مهاجر كثرت محطات ذعري، أخشى عليكم أن يغادر جباهكم الحياء، أغلقوا أبواب عهر الوحوش الضارية، أريد أن أحرركم من سجن الخوف، كلماتي المذبوحة على شفا عقولكم الخاوية ستنير لكم الطريق. أصاب الجموع دهشة وحيرة، وكأنّ الخرس قد أغلق أفواههم، العيون خطوات تتبع ظلّه، آن له أن ينزع آية الظمأ، لوى عنان ألمه واختفى. ثلاثة أيام لا غير، صحا الناس على خبر قتل صباح، جثة ملقاة خلف السوق، رصاصة مجهولة اغتالت ما تبقى من ذاكرته، نحروا أيامه على مذبح الجنون، ولم ينحنِ لهوج المحطات. تحسّس المشيّعون جباههم، وأنا اكتويت بغصة مدونتي التي لم تكتمل بعد.
*الشماعية مستشفى للأمراض النفسية و العقلية يقع في بغداد؟.
عبدالكريم الساعدي
عبدالكريم الساعدي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق