السبت، 22 أغسطس 2015

الرقص على أصوات الصفيح/ قصة الكاتب / عبد الكريم الساعدي / العراق


لم يخطر في باله أنّه سيأتي يوماً ما إلى هذا المكان ولو في الأحلام، تربّع على عرشه، راح يتأمل المكان بنشوة المنتصر، غابة خضراء متعانقة الأغصان، سحر أصوات الطيور،خرير الماء الذي يتهامس مع ملامح صورته المتماوجة على سطحه، تسربل خلوته ونزواته المتيبّسة على غصن ماضيه الصدئ بالخيبة والخواء، لقد أصبح محض مسافات بعيدة لا يدركها غير خازن سرّه الأمين على عرشه الصوري. مزّق شرنقة ضحالته ليطلّ على زمنه الجديد غير مكترث بما يدورحوله، لاينقصه شيء، فهو يجيد فنّ الكلام والخديعة، وتحيط به الأضواء البنفسجية من كلّ مكان. تراقصت مآقيه بكحل الزهو وجهل الصامتين، أطلق عنان ترانيم أحلامه المضمرة بين حناياه لريح سطوته، انعتق من خوفه الذي يسكنه، كلّ شيء تلاشى حدّ الاندثار، يستعيد سلطته على رعشاته، ينزوى جانباً، حاول أن يفكّ مغاليق الماضي، لكنّه لم يفلح، ربما غضّ الطرف عنه. صوت الخازن سرّه يقطع خلوته:
- سيدي لقد ذهب جميع الضيوف.
استنشق عبير زهوه/ كبرياءه. تحيط به مجموعة من ( البودي كَارد ) من كلّ الجهات، يتهامسون، ينظرون في جميع الاتجاهات، تتشكّل هالة من وهم / خواء على موكبه الملكي. لم يبقَ أمامه عائق سوى تلك القرى الغافية على أكتاف الحزن المرير، المركونة عند أطراف المدينة، لكنّ قلقه سرعان ما تبدّد حين همس سادن كهفه الغاطس بأجداف الرذيلة في أذنه، فتعالت ضحكاتهما بعد إن كشرا عن أنياب اللهفة الشبقة التي ترافق ظلّهما:
- سيدي لقد أرسلت كتيبة من المنزلقين على مائدتك إلى مرمى المنطقة الرمادية، فأهل مكة أدرى بشعابها.
أثنى عليه كثيراً، أغدقه بالمال حتى تهدّلت جيوبه. بات ليلته متمدّداً على شاطىء فجر الغد، وهو يسبّح بحمد أصوات القرى، ليزهر أملاً لهم ويورق وعداً صادقاً، يزيح الفاقة الجاثية على صدورهم، هذا ما أخبر به الوفد أهالي تلك القرى. وفي صباح اليوم التالي سار موكبه متحدياً كلّ لطخات القيء المرتسمة بداخله، وهو منتفخ وهماً وزيفاً حدّ الأنفجار. دروب وعرة، طرق ترابية اجتازها موكبه بامتعاض شديد، هو لايدري أين يسير، ساءل سادنه بنبرة ملؤها الاحتقار:
- وهل يعيش هنا بشرٌ؟
- نعم سيدي، المدينة غير التي كنت تعرفها، نحن على مقربة من القرية.
وما إن وصل الموكب حتى اعترض الطريق نهرٌ متعرّج مليء بالقمامة الراسية على ماءٍ آسن، ترجّل مع بطانته والحرس يحيط به من كلّ جانب، ارتدى قناع التواضع، استقبله أهل القرية فرحين مستبشرين خيراً به، سلّم عليهم،انحنى يطبع قبلاته على صفحات خدود الأطفال، يلوّح بكلتا يديه، يردّ السلام على النسوة اللاتي استقبلنه بالزغاريد والتحايا، وبعد أن ألقى في الجمع خطبة حماسية راسماً لهم وعود النجاة، هو ليس مثل الآخرين الذين لم يتكلّفوا بزيارة قريتهم، ينتفخ زهواً، يزور بعض البيوت ليثبت أنّه ابنهم البار الذي لم تغب أحلام قريته عن باله، وها هو الآن بين ظهرانيهم، يدلف إلى أحد الأزقة الملتوية المحاطة بجدران الصفيح الملطّخة بالطين، بيوت لا أبواب لها سوى أسمال تحجب النظر إليها، يقطع مسافة عدّة بيوت، تنزلق إحدى قدميه في مستنقع يتوسط الزقاق، تغطس قدمه حدّ الكعب في الأوساخ وقذارة الأطفال، يهرع أهل القرية لإنقاذه من هذه المصيبة التي حلّت به، لكنّه طمأنهم ليس في الأمر بأس، دخل أحد البيوت وراحت صاحبة الدار تنظف حذائه وهو صابر على الأمر، لايعرف ما يفعله، يذهب إلى دورة المياه ليزيل النجاسة، تسمّر واقفاً، ارتعش من رؤية الصراصير وأبو بريص، وما هي إلّا دقيقة حتى تقيّء ما في جوفه، راسماً خريطة الخديعة فوق صدره، صرخ بأعلى صوته منادياً سادن كهفه، يفسح له الطريق، يحيط به حرسه من كلّ جانب، يختبئ بينهم، يلوذ بالهرب تاركاً حذاءه وأحلام القرية لزيارة قادمة.
عبدالكريم الساعدي
بغداد/ 2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق