الاثنين، 17 أغسطس 2015

خَرْفٌ وخَرِيفٌ ــــــــــــــــــــــــــــــ للأديب / محمد شعبان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ/ مص المحروسة ....


ذهبتُ إليهِ بُعَيْدَ اتصالٍ هاتفيّ ألحَّ عليَّ فيه بالحضور فورًا ، وأنا لم أعتدْ أن أرفضَ له طلبًا، كما أنَّ أعذاري كلها تتهاوي بمجرد أن يطلب مني طلبًا، فرغم انشغالي فعلا لا أملك إلا أن أذهبَ راضيةً نفسي ، فلهذا الرجل معي قوة السحر أحب أن أعرف عنه كل شيء .. لابد أنه سيأخذ رأيي في قصيدة جديدة من قصائده العامية التافهة المُترعَة بالصور الإباحية والألفاظ النابية .. يُعجبُ بامرأةٍ فيُشْعرُ فيها ويصف .. يغضب من أحدهم فيهجوه ويسبه .. وأنا أجلس أستمع لما يسميه شعرا، وما هو سوى وصلات تَهتُّك و ( رَدْح ) .. يحتوشني الملل .. تبص عيناي في ساعتي بسرعة خمسين بصة في الدقيقة بينما هو يهدئني ويحضر لي الساخن والبارد من المشروبات وكل ما لذ وطاب من الطعام، ليس هذا نقطة ضعفي ههههه ، وإنما نقطة ضعفي معه أنني لا أستطيع أن أرفض له طلبًا .. فتحَ لي البابَ، وقال لي وهو يُوَلِّي مسرعًا نحو غرفةِ نومه :ـ " ادخل بسرعة وأغلق الباب التكييف مفتوح .. ستكون هذه القصة أسهل قصة تكتبها في حياتك إذا قصصتَها كما سأحكيها لك، ولا أريدك أن تنعت صاحبها بالتفاهة أو الأنانية أو انعدام المسؤولية والدين، فكلها نعوت لا يعرفها صاحب القصة منذ أن بدأ يتهجَّى في مدرسةِ الحياة .... انظرْ إلى هذه الشقة الواسعة التي أعيش فيها مؤتنسًا بوحدتي متلذذًا بعزلتي أشاهد برامج ( التوك شوز )، والمسلسلات والأفلام .. أطبخ طعامي .. كل أنواع الطعام ونَفَسي في الطبخ رائع كما تعلم .. أتسوَّق بنفسي كل ما يحتاجه البيت ، وأنزل من شقتي بالدور الرابع أكثر من خمس مراتٍ يوميًّا .. أقضي مشاويري كلها مهما بَعُدَتْ سيرًا على قدميَّ وأنا الآن في أواخر الستينيات من عمري حتى السُّكَّريّ زاملتُه منذ ابتُليتُ به ولا أشكو منه أبدا ولم يعقْني في يوم من الأيام .. وإن سألتني لماذا لا أنفق بعضًا من وقتي ومالي ـ وما أكثرهما ! ـ في صلة بنتيَّ المتزوجتين واللتين لا أعرف لبيتهما طريقا، بل لا أعرف عنهما شيئًا منذ انفصالي عن أمهما وهما لم تزالا في المرحلة الإعدادية .. تخيل أنهما تزوجتا ولم أحضر لهما خطوبةً أو زفافًا .. ربما لو سألتني لماذا ؟، لن تجد مني إجابة تروي غلة قناعتك .... "
أخذتُ أنظرُ إليه بينما يحكي قصته الذاتية لي ، فأنا أعرفه من صغري .. جاري .. عايشت كل تفاصيل حياته ودقائقها ولا يخفى عني شيء منها .. لأول مرة أتنقل بنظري بدقة في وجهه الذي بدا شاحبًا بعض الشيء حزينًا متألمًا رغم خلوه من تجاعيد الشيخوخة وثنياتها .. يصبغ شعره بالأسود دائما .. ربما هي لحظة إفاقة لمن يحس اقتراب آخرته المحتومة فأراد أن يتوب، أو لعلها نفس مثقلة بأوزارها وقد وجدت في اعترافها تخفيفا ، أو لعلها لا شيء، وما هي إلا برهة تفكير بصوت عال من شخص لا ينتظر ردًّا أو تعليقًا إنَّما هو بوحٌ وفصفضةٌ يكتفي صاحبها بالحديث فقط .. أجاب في بثِّه هذا عن أطنان من الأسئلة كنت أكنها في صدري له إلا أن جرأتي لم تطاوعني يومًا أن أسأله إياها ، ثم أردف قائلًا :
ذلك الوضع كان بناء عن رغبتي، طلاقي من أم أولادي كان برغبتي ، وابتعادي عن بنتيَّ وولدي كان برغبتي ، ومنعهم من زيارتي كان برغبتي إلا الولد فأنا أدعوه باستمرار يأكل معي ويقضي لي بعض أعمال المنزل من إصلاح للتكييف والثلاجة وبعض الأعمال التي تحتاج ما يحمله من آلات ومعدات،وما لديه من خبرة في هذا المجال، رغم كرهي الكبير لزوجته وأولاده فأنا أساعده وأخصه بما لم أخص به البنتين .. زيجتي الثانية ، والثالثة ، والرابعة ، والخامسة ، وطلاقي منهن كان برغبتي .. عشت حياتي بالطول والعرض لم يردعني أي شيءٍ عن فعل أي شيء .. أنفقت مكافأتي التي استلمتها من الوزارة، ومعاشي على الزواج والطلاق .. يوافقن رغم إطلاعهن على كل شيء من مشاكل السكري وضعف الجنس وكبر السن .. تزوجت البكر والثيب والعزباء والمطلقة والأرملة و... ، كلهن يبحثن عن المصلحة .. رجل عجوزعلى بعد خطوة من القبر، ويملك معاشا ، وشقة ملكه ، وسيارة ، كيف يرفضن وسوق الزواج كاسدة ؟! ... أتذكرُ هذه المرأةَ التي طلقتُها في ليلة الدخلة ؟ ها ؟ .. لأول مرة سأخبركَ السببَ ! .. أخبرَتْني أنَّها بكرٌ وفوجئت ليلة الدخلة أنها مومس، أقسمْتُ أنَّها لن يهنَأَ لها مضجعٌ في بيتي، وأحضرتُ أهلها الذين لم يكونوا يعرفون شيئًا، أو ربما يعرفون وينكرون ولذلك زوجوها من عجوز مثلي .. الطلاق الوحيد الذي لم أخسر فيه مليمًا واحدًا .. آثروا السلامة، وغلْق أبواب الفضيحة فأبقيتُها أسبوعًا على ذمتي وأبرأتني من كل شيء .. مع أن الأمر كان غيرَ ذي بالٍ بالنسبةِ لي، إلا أني أكره الكذبَ!!
وهممتُ أن أسأله .. بما أنك تدرك ضعفك الجنسي وكبر سنك ، وبما أنك لست بحاجة لمساعدة من أحد وعندك معاشك وقادر على خدمة نفسك .. عاجلني هو بالإجابة العجيبة قائلا :ـ الزواج هو الأمر الوحيد الذي يشعرني بأنني حي وموجود في هذه الدنيا المتعبة، فقط أحب أن أشعر بأنني مرغوبٌ من أحد ما حتى وإن كان يرغبني لأهداف دونية دنيوية .. لمالي أو شقتي أو سيارتي أو... ، ولولا هذا السبب لكنت آثرت غيري من الشباب الذين في حاجة لمال للزواج، وقد يفسخ أحدهما خطبته من أجل ألف جنيه زيادة على ثمن الشبكة، أولأنها لا تستطيع إكمال جهازها ، حتى بنتيَّ لم أساعدهما، وأعلم أنهما تكرهانني لما فعلته مع أمهما واحتجابي عن مساعدتهما وأنني أجبرتُ أمهما على التنازل عن كل حقوقها قبل الطلاق ، ولم أعطهنَّ نفقة .. أعلم أنهن جميعا يكرهنني بما فيهن ابني الذي تربى بعيدا عني، وذلك الشعور ينمي رغبتي في البحث عن الحب بطرق أخرى .. صدقني أنا فقط أريد الحب، ولا أملك الشجاعة الكافية لأحاول رأب الصدع الذي عمقته تلك الأزمات بيني وبينهم، وران على قلبي طول البعاد فأُغلقتْ دونهمْ آلاف آلاف الأبواب ....
أشفقتُ عليه حقًّا .. حاولتُ أنْ أوقفه وقد اغرورقت عيناه بالدَّمع ، واختنق صوته بنشيج حاد، لكنه تماسك، وأكمل حديثة قائلا :ـ اسمع .. أنا أعلم أنك لا ترفضُ لي طلبًا ....
تمنيتُ ساعتَها لو يطلبُ مني أنْ أتوسَّطَ له عندَ بنتِيه وأمِّهما لتعود المياه لمجاريها ، وتورق أغصان أسرة جففتها رغبات هذا الخَرِفِ ونزواتِه الحيوانيةِ، لكنه ختم قصتَهُ بما هو أعجبُ مما سمعتْه أذناي منه فأردف قائلًا :ـ وأنا لم أجربْ الزواجَ العرفيَّ ، وأمامي فرصةٌ مع امرأةٍ لديها معاشٌ ولا تريد أن تفقده هلَّا شَهِدْتَ لي على العَقْدِ ... !!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق