الأحد، 6 ديسمبر 2015

توهم / قصة قصيرة / الشاعر والكاتب / عبد الكريم الساعدي / العراق ...

توهُّم
ذات خريف وفي أقصى المكان، كنت عالقاً بفوضى طاولة منسية، أحوك تفاصيل مهملة؛ لأرتدي عبث اللحظة، أزيح غبار الوجع، أحلّق راقصاً على نغم حزين، يورق حلم دافئ في دمي، ألملم أشلائي المبعثرة في متون الريح، يتعثّر قلبي بسواد عينيك، أغافل عبثي، أحثّ الخطى إليكِ، لا أدري لماذا أذكركِ الآن، بعد أن ضيّعتني المحن، أكرع آخر كأس ولم أنسَ، أتطاير شغفاً مع أنين الجلّاس وخيوط الدخان في حانة منسية. يحاصرني الشوق؛ فأمدّ جسراً إليك، أراك تبتسمين كما الأمس، بينما أنا أنفرط في حزن مستديم، بيني وبينك خيط من عتمة، منْ يوصلني إليك؟.
- الشيب لن ينسخ آيات العشق.
- لكن غيابكَ طال، ولم تترك أثراً لظلّك.
أتثاءب ندماً، امتلئ بالهواجس، يرتجف صوتي:
- أريد أن أراك.
أشدّ أكمام ذاكرتي، أرقب سيري؛ فتومئ لي الطرقات، أواصل خطواتي، جنوني، توقظني ابتسامتك، كنتِ زخة مطر، حفنة من حنين. في لقائنا الأول تدثّرنا بظلّ نخلة بعيداً عن عيون القرية، بنينا حلماً على ضفة نهر يموج بالهمس، كنت تنشرين أحلامك في سمائي، وأنا أمازحك ببراءة طفل. أمدّ بصري، أراك عبر مرايا الحانة تحدّقين في شيبي، ما زلت أنت، مشرقة الوجه، شفتاك مبلّلتان بماء الورد، تسطعان بذات الابتسامة التي أسّرت قلبي، يسوّرني عطرك، لا أدري لماذا تغضّين الطرف كلّما نظرت إليك، أتفحص ملامحك، نعم أنت، حاملة حطام سنين مضت، تتشاغل عيناك بالنظر إلى وجوه المارة، تختلسين النظر إليّ، عيناك فيهما عتب شديد، تساؤل يطلي شفتيك بلون الوجع:
- لِمَ تركتني؟
أطأطئ رأسي خجلاً، ألملم أوصال الخيبة، أتوارى خلف أعذار واهية، أطلق حسرة شوق في مكان طاعن بالضجيج، عطب يصيبني، خيط من دخان يتصاعد من رأسي، دقات قلبي تتسارع، أنفاسي تتقطّع، يتشكّل حاجز من ضباب كثيف أمام عينيّ، أفزّ أمام كوني الآيل للسقوط، يرمقني الحضور بنظرات بلهاء، أتوه في موجة دهشة، أنفض تراب النعاس، أنتصب، أخاف ضياع الوقت، سنخوض غمار مشاعرنا الجميلة ثانية، أرسم بسمة جديدة على شفتيك، ولن يحدث وداعاً آخر، ألتفت، ما زالت واقفة، أنظر في عينيها، تبتسم، تحف بي رغبة للعناق، تلوّح لي بيدها، تمضي، أترك مكاني، أتعثّر بظلّي، أضع يدي على أكرة الباب، تنزلق إلى أسفل، أهم بملاحقتها، يعترضني النادل:
- الحساب.
أنقده، أخرج مسرعاً، أشقّ صفوف المارة، أتبع رائحتها، حفيف ثوبها، أقترب منها، أقدّها من خلف، تلتفت، يتقلّص وجهي خجلاً، تصفعني، كنتُ محتاجاً للبكاء.
لم تكوني أنتِ، كانت امرأة أخرى!
عبدالكريم الساعدي
العراق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق