أهلاً بكِ ... ننتظركِ في بغداد
الوقت مساء، المدينة تلتفّ حول جبل الأسمر، تتّخذ شكل القوس، ترتدي ثوباً ناصع البياض، مطرّزاً بأغصان الشجر، تعدو مبتهجة بين جبلي سلمى وأجا، هي عروس صحراء جزيرة العرب، خيوط الشمس الذهبية تداعب رمالها، ترسم لوحة زاهية الألوان على جدران منازلها. ثمة شفق أحمر يهبط على شفاه ست نساء، إحداهنّ ترتدي نقاباً أسود، يلتقينَ في عطلة الفصل الدراسي برفقة أزواجهنّ، في نزهة قصيرة لحديقة واسعة، يخترقها وادي الأديرع*، النساء مزهوات بأزواجهنّ، يخترقنَ مسطحات خضر تعجّ بخطى السائحين، يقتربنَ من بحيرة صناعية، تتوسطها نافورة، يحطنَ رحالهنّ قرب شجرة كثيفة الأغصان، المكان يتنفس أحلامهنّ، يصغي لهمس يتعدى حدود الأسرار. كان كلّ ما يدور في فلك الحديث محضّ التقاط أنفاس مكبوتة. تكشف إحداهنّ طقسها الليلي، متباهية بزوج مفتول العضلات، تتلوى غنجاً بين ساعديه؛ فتثير فيهنّ أحلاماً يقظة. المرأة ذات الجسد النحيف تطلق آهة حرى،
- ليس من اليسير اصطياد جوادي، هو ليس جامحاً، لقد هدّه التعب والتفكير في إدارة الشركة، فبعد كلّ لوعة انتظار أطلق عطري، أتسربل بثوب شفاف، أكشف له عن مناطق تثيره؛ حتى يسقط صريع لهفتي.
المرأة السمراء يبلّلها الشبق، تفتح ساقيها بلا وعي، تدسّ كفّيها بين فخذيها، تعصرهما، تمطّ شفتيها، تريد أن تتكلّم، ترتبك الحروف بين شفتيها؛ فتصمت. كانت الأجساد تتراقص إثارة على وقع تفاصيل الغرف المتّشحة باللون الأحمر. في الجانب الآخر من المدينة، ثمة طرقات تمتدّ كأذرع، أزقتها غارقة في العتمة، ترتصف فوقها بنايات رافلة بالضوء، يعانقها وشاح المساء والأشجار، دونها صحراء تمتدّ حتى البحر، الأطفال فرحين بالأضواء والأراجيح والطيور، يغسلون وجوههم برذاذ النافورة الراقدة وسط البحيرة. الزوجة الأصغر سناً، تنصت إليهنّ بشغف، تبدو معتلة النفس، يسكنها الحزن، على الرغم من أنّها الأجمل، الزوجة المقابلة لها ذات النقاب الأسود تشجعها على الكلام، تتجه أنظار النسوة إليها، تطلق ضحكة بريئة، يخرسها الحياء، تتداعى أمامها مشاهد لم تفصح عنها،
- كم عمرك؟
- عشرون سنة.
- وزوجك، أبو إدهام؟.
- خمس وستون.
- وهل الأمر على ما يرام؟.
- نعم، لقد لبى كلّ طلباتي، حتى الشقة سجّلها باسمي.
تحاصرها بعيني ذئبة، تفترس قوامها الممشوق،
- أ لم تخسري حياتك؟.
- أنا لم أخسر إلّا حذائي.
ينسلّ من شفتي ذات النقاب رائحة سؤال كريه:
- وأيّ حلم ترتجين بعد هذا؟.
تنتصب أحزانها، تتعثّر بجسد بارد، بجثة تورق أوهاماً، تزدحم بالغيظ:
- يكفيني حبّه، وهيامه بي.
كانت عيناها ترقبان فرح الأطفال؛ وهم يتقافزون كما العصافير في ساحة الألعاب، مدركة أنّ الحلم خرقة بالية يخدش وحدتها.
المرأة الخمسينية تنفر من أحاديث الجسد، تلكز ذات النقاب بكوعها، تهمس في أذنها:
- ما لك تقرعينها بسوط اللؤم؟ أراكِ تغرزين مخالبك في قلبها، كفّي لسانك.
تلتفت نحوها، تمتشق عصا أنثى هجرتها الليالي، يتلبّسها الشوق إلى نزوة معلّقة في حنايا الشبق، يرتجف سروالها، ينشد رائحة الدفء:
- وأنت يا سعاد، كيف الحياة بعد الخمسين؟
- أراها طقوس مضمّخة بعشق دائم، نبحر في عين الليالي، نطرب على تغاريد نبض القلب، نتدثّر بابتسامة وعطر أبنائنا؛ حتى يشرق يوم جديد.
الظلمة تهبط بسرعة، الظلّ يتكور خلف نشيجهنّ المكتوم، ينهضنَ متثاقلات بالهموم، وقبل أن يغادرنَ المكان، تدعوهن سعاد لحضور حفلة عيد ميلادها بعد عشرة أيام. قالت مازحة:
- إياكنّ أن تنسينَ الهدايا.
- سنفاجئك يا سعاد.
في البيت تتأمل سعاد ولديها، تحدّق في قمرها، يرتلان معاً سيرة أياماً خلت، تستنشق رائحة الورد؛ فتغفو بين ذراعيه، تهدهدها الأحلام. في صباح اليوم التالي تتلقى رسالة عبر تطبيق (واتساب)، حروفها كما أشواك برية، توخز عينيها، تقطب حاجبيها، تلسعها رعشة خوف، ترفع رأسها، تلقي نظرة حولها، تحطّ عيناها على غصن الحرف مرة أخرى:
- " كم أنتِ محظوظة -أيتّها الحسناء- لقد اخترناكِ لتكوني أحد السبايا لدينا، وشهيدة أيضاً، وفقك الله في منظمة داعش... ننتظرك في بغداد "
تحدّق في الأفق الممتدّ حتى البحر، تتقاذفها أمواج القلق، تزمّ شفتيها، الدهشة تلتصق على وجهها، يسوّرها قيد الخوف، ترتبك خطواتها، تحدّث نفسها،
" الرقم غريب، ربما الرسالة وصلت خطأ، أو هي مزحة، لا، أنا على يقين أنّها ليست لي، ثم ما علاقة الفلبين بجزيرة العرب؟ ".
تضحك، تكنس الأوهام من ذهنها، تمضي إلى مدرستها، تخوض في بحيرة من أحلام. في المساء تتعثّر بظلّ رسالة أخرى، تحوم حولها، الرقم ذاته من الفلبين،
" استودعي ابنيك مبارك ومحمد، وزوجك أيضاً، خلال الأيام القادمة ستذهبين معنا إلى بغداد ".
يستفزها الاختيار، الموافقة أو خطف ابنيها. في تلك اللحظة المتّشحة بالجنون، وما بين الرعب والتوقع أنّها وصلت خطأ، والتفكير في إبلاغ الجهات الأمنية والتراجع لعلّ الأمر كلّه مقلب، تتوضّأ سعاد بدخان الاحتمالات، كوابيس الليل والنهار تهبط بها على جسر بغداد، بين الرصافة والكرخ، تتعثّر بالخراب ورائحة البارود، ينقلها طائر يشبه الرخ إلى جحيم البراري، إلى سوق النخاسة، نساء جئنَ من كلّ حدب وصوب، يخضنَ في أوحال جزر وحشية، يتقيّأنَ انتظاراً على أرصفة زمن صحراوي موحش، مشهد رسمته سطوة الظلام، تحيط به الهاوية، العيون زائغة، تقتات على أجساد مصلوبة على دكّة الأمير؛ فتنطفئ تلك الأجساد في سجلات الجهاد، في صحراء عارية من ظل السماء. المفتي ذو اللحية الطويلة يستقصي أنفاسها، سوطه الطويل ينتصب أنشوطة، يلتفّ حول رقبتها، جسد سعاد ينتصب تمثالاً من حجر، يستلقي على سرير الشهوة، فتحجب الأحلام، النور، على وقع الطبول، ألسنة الصحراء تلحس ساقيها، فخذيها؛ فتذوب كما الجليد، يختفي المشهد على صراخ سعاد.
الوقت يمضغها، تختنق بأنفاسها، تتفتّت، تغرق في موجة هذيان، الموعد يقترب، وجه المفتي ما زال يلاحقها، تسرح بصرها بعيداً، ترتجف عضلات وجهها،
" آه، لو لم أرَ هذه الرسالة اللعينة "
الزوج يطالع حزنها، يصغي لصمتها، يؤلمه ذبولها، يحلّق في عوالم الأمس، كانت له زهرة فواحة بعطرها، رقيقة كنسمة الربيع، تطلق عنان الفرح، تجول في البيت مبتهجة مثل فراشة ملوّنة. خيط من نور يداهمه، ينسج رداء الشكّ، يدّس رائحة الأمل في أنفها، تقدح وجوه في عالم الذعر والقلق، عالم غريب يقف أمامه، يرى مدى قبحه، هنا تكمن الدهشة إنْ صدقت الرؤيا،
- لابدّ أن نحرر أنفسنا من هذا الوهم، ربما هو مقلب، أو حماقة مريض توهجت في لحظة انتقام.
- ماذا تقصد؟
تعتلي تلّة من الظنون، تفترش ملامح صديقاتها، قريباتها، تقلّب صفحات الأمس، كان الوضع مريباً، قد تكون الزوجة الصغيرة، أو ذات النقاب الأسود، وقد تكون...وقد يكون... تتسع الاحتمالات.
- لا عليكِ، سأوقد شمعة فرحك المؤجل.
تنتصف ليلتها، تجري بين متاهات الشك، تطلق سراح الخيال، كانت خائبة، حزينة، يستعصي عليها الوضوح؛ فيبقى الألم؛ لتغفو على انتظار الحضور لعيد ميلادها. قبل إطفاء شموع الفرح تتشكّل لوحة سريالية، مؤطّرة بألوان مبهرة، تتراقص على أطرافها أضواء المحبة، تختلط بأنغام الفرح، ملامح الصديقات والقريبات مزدانة بالبهجة والسرور، هدايا ثمينة، ابتسامات ترتسم فوق الشفاه، تهاني متبادلة، على يسار اللوحة ترقد علبة مزركشة، إلى جانبها وردة جوري، تفوح عطراً، وبطاقة تهنئة مدجّجة بحروف ينبثق الموت منها،
" عيد ميلاد سعيد، لا تنسي، لقد اخترناكِ لتكوني أحد السبايا لدينا، وشهيدة أيضاً،...... ننتظرك في بغداد "
المكان يزدحم بالدهشة والاستغراب، الرعب يهاجم عينيها، يفرّ الكلام من شفتيها، تنتفخ أوداجها، لم يكن في الحسبان ما يحدث,
" لا أحد يعرف ما بي، ربما أحداهن تدرك علّة ذعري من هول المفاجأة"
تتحصّن بأسوار الحكمة، تستعيد رباط جأشها، ترمي بمخاوفها، تتمتم مع نفسها،
" لابدّ من إتمام السهرة حتى أفهم وأستريح "
تطفئ صمت الحضور:
- إنّها مزحة، أما من زغاريد؟.
في تلك المتاهات الغامضة، وفي ظلّ أغاني باهتة، كانت محمولة على كتف نعش غريب ومخيف، لا وجهة لها غير السماء، كلّ شيء مثقوب، أمطار دامية، أقدام غريبة تسحق أقراطها، قلائدها، ينهكها الجري وسط ظلام متخثّر، عينا المفتي تستمرئ مذاق جسدها في ممالك يسكنها ظلام الخرافة؛ وبينما تتأمل مصيرها المجهول، تستوي على رنّة رسالة نصية صادرة من مركز شرطة المدينة، المسافة بينها والحرف غائمة، تحاصرها الظنون، تحتجب خلف دقات قلبها المتسارعة، تتسلّل عبر عينين لا يرمشان، تلتقط بعض الكلمات، الطرف يرتدّ مثقلاً بهاجس غريب،
" لقد تمّ التعرف على صاحب الرسالة، إنّـ ......... "
لم تكمل قراءتها. صور الحضور تتماوج، تغرب في عينيها، خشية أن تكون واحدة منهنّ/ منهم؛ فيُفسد الحفل. تمدّ ظلّها على الحضور كشجرة جميلة، تبتسم:
- الآن نطفئ الشموع.
-----------------------------------------------------------------------------
*وادي الأديرع : وادٍ فسيح تقع فيه مدينة حائل السعودية.
عبدالكريم الساعدي
العراق
الوقت مساء، المدينة تلتفّ حول جبل الأسمر، تتّخذ شكل القوس، ترتدي ثوباً ناصع البياض، مطرّزاً بأغصان الشجر، تعدو مبتهجة بين جبلي سلمى وأجا، هي عروس صحراء جزيرة العرب، خيوط الشمس الذهبية تداعب رمالها، ترسم لوحة زاهية الألوان على جدران منازلها. ثمة شفق أحمر يهبط على شفاه ست نساء، إحداهنّ ترتدي نقاباً أسود، يلتقينَ في عطلة الفصل الدراسي برفقة أزواجهنّ، في نزهة قصيرة لحديقة واسعة، يخترقها وادي الأديرع*، النساء مزهوات بأزواجهنّ، يخترقنَ مسطحات خضر تعجّ بخطى السائحين، يقتربنَ من بحيرة صناعية، تتوسطها نافورة، يحطنَ رحالهنّ قرب شجرة كثيفة الأغصان، المكان يتنفس أحلامهنّ، يصغي لهمس يتعدى حدود الأسرار. كان كلّ ما يدور في فلك الحديث محضّ التقاط أنفاس مكبوتة. تكشف إحداهنّ طقسها الليلي، متباهية بزوج مفتول العضلات، تتلوى غنجاً بين ساعديه؛ فتثير فيهنّ أحلاماً يقظة. المرأة ذات الجسد النحيف تطلق آهة حرى،
- ليس من اليسير اصطياد جوادي، هو ليس جامحاً، لقد هدّه التعب والتفكير في إدارة الشركة، فبعد كلّ لوعة انتظار أطلق عطري، أتسربل بثوب شفاف، أكشف له عن مناطق تثيره؛ حتى يسقط صريع لهفتي.
المرأة السمراء يبلّلها الشبق، تفتح ساقيها بلا وعي، تدسّ كفّيها بين فخذيها، تعصرهما، تمطّ شفتيها، تريد أن تتكلّم، ترتبك الحروف بين شفتيها؛ فتصمت. كانت الأجساد تتراقص إثارة على وقع تفاصيل الغرف المتّشحة باللون الأحمر. في الجانب الآخر من المدينة، ثمة طرقات تمتدّ كأذرع، أزقتها غارقة في العتمة، ترتصف فوقها بنايات رافلة بالضوء، يعانقها وشاح المساء والأشجار، دونها صحراء تمتدّ حتى البحر، الأطفال فرحين بالأضواء والأراجيح والطيور، يغسلون وجوههم برذاذ النافورة الراقدة وسط البحيرة. الزوجة الأصغر سناً، تنصت إليهنّ بشغف، تبدو معتلة النفس، يسكنها الحزن، على الرغم من أنّها الأجمل، الزوجة المقابلة لها ذات النقاب الأسود تشجعها على الكلام، تتجه أنظار النسوة إليها، تطلق ضحكة بريئة، يخرسها الحياء، تتداعى أمامها مشاهد لم تفصح عنها،
- كم عمرك؟
- عشرون سنة.
- وزوجك، أبو إدهام؟.
- خمس وستون.
- وهل الأمر على ما يرام؟.
- نعم، لقد لبى كلّ طلباتي، حتى الشقة سجّلها باسمي.
تحاصرها بعيني ذئبة، تفترس قوامها الممشوق،
- أ لم تخسري حياتك؟.
- أنا لم أخسر إلّا حذائي.
ينسلّ من شفتي ذات النقاب رائحة سؤال كريه:
- وأيّ حلم ترتجين بعد هذا؟.
تنتصب أحزانها، تتعثّر بجسد بارد، بجثة تورق أوهاماً، تزدحم بالغيظ:
- يكفيني حبّه، وهيامه بي.
كانت عيناها ترقبان فرح الأطفال؛ وهم يتقافزون كما العصافير في ساحة الألعاب، مدركة أنّ الحلم خرقة بالية يخدش وحدتها.
المرأة الخمسينية تنفر من أحاديث الجسد، تلكز ذات النقاب بكوعها، تهمس في أذنها:
- ما لك تقرعينها بسوط اللؤم؟ أراكِ تغرزين مخالبك في قلبها، كفّي لسانك.
تلتفت نحوها، تمتشق عصا أنثى هجرتها الليالي، يتلبّسها الشوق إلى نزوة معلّقة في حنايا الشبق، يرتجف سروالها، ينشد رائحة الدفء:
- وأنت يا سعاد، كيف الحياة بعد الخمسين؟
- أراها طقوس مضمّخة بعشق دائم، نبحر في عين الليالي، نطرب على تغاريد نبض القلب، نتدثّر بابتسامة وعطر أبنائنا؛ حتى يشرق يوم جديد.
الظلمة تهبط بسرعة، الظلّ يتكور خلف نشيجهنّ المكتوم، ينهضنَ متثاقلات بالهموم، وقبل أن يغادرنَ المكان، تدعوهن سعاد لحضور حفلة عيد ميلادها بعد عشرة أيام. قالت مازحة:
- إياكنّ أن تنسينَ الهدايا.
- سنفاجئك يا سعاد.
في البيت تتأمل سعاد ولديها، تحدّق في قمرها، يرتلان معاً سيرة أياماً خلت، تستنشق رائحة الورد؛ فتغفو بين ذراعيه، تهدهدها الأحلام. في صباح اليوم التالي تتلقى رسالة عبر تطبيق (واتساب)، حروفها كما أشواك برية، توخز عينيها، تقطب حاجبيها، تلسعها رعشة خوف، ترفع رأسها، تلقي نظرة حولها، تحطّ عيناها على غصن الحرف مرة أخرى:
- " كم أنتِ محظوظة -أيتّها الحسناء- لقد اخترناكِ لتكوني أحد السبايا لدينا، وشهيدة أيضاً، وفقك الله في منظمة داعش... ننتظرك في بغداد "
تحدّق في الأفق الممتدّ حتى البحر، تتقاذفها أمواج القلق، تزمّ شفتيها، الدهشة تلتصق على وجهها، يسوّرها قيد الخوف، ترتبك خطواتها، تحدّث نفسها،
" الرقم غريب، ربما الرسالة وصلت خطأ، أو هي مزحة، لا، أنا على يقين أنّها ليست لي، ثم ما علاقة الفلبين بجزيرة العرب؟ ".
تضحك، تكنس الأوهام من ذهنها، تمضي إلى مدرستها، تخوض في بحيرة من أحلام. في المساء تتعثّر بظلّ رسالة أخرى، تحوم حولها، الرقم ذاته من الفلبين،
" استودعي ابنيك مبارك ومحمد، وزوجك أيضاً، خلال الأيام القادمة ستذهبين معنا إلى بغداد ".
يستفزها الاختيار، الموافقة أو خطف ابنيها. في تلك اللحظة المتّشحة بالجنون، وما بين الرعب والتوقع أنّها وصلت خطأ، والتفكير في إبلاغ الجهات الأمنية والتراجع لعلّ الأمر كلّه مقلب، تتوضّأ سعاد بدخان الاحتمالات، كوابيس الليل والنهار تهبط بها على جسر بغداد، بين الرصافة والكرخ، تتعثّر بالخراب ورائحة البارود، ينقلها طائر يشبه الرخ إلى جحيم البراري، إلى سوق النخاسة، نساء جئنَ من كلّ حدب وصوب، يخضنَ في أوحال جزر وحشية، يتقيّأنَ انتظاراً على أرصفة زمن صحراوي موحش، مشهد رسمته سطوة الظلام، تحيط به الهاوية، العيون زائغة، تقتات على أجساد مصلوبة على دكّة الأمير؛ فتنطفئ تلك الأجساد في سجلات الجهاد، في صحراء عارية من ظل السماء. المفتي ذو اللحية الطويلة يستقصي أنفاسها، سوطه الطويل ينتصب أنشوطة، يلتفّ حول رقبتها، جسد سعاد ينتصب تمثالاً من حجر، يستلقي على سرير الشهوة، فتحجب الأحلام، النور، على وقع الطبول، ألسنة الصحراء تلحس ساقيها، فخذيها؛ فتذوب كما الجليد، يختفي المشهد على صراخ سعاد.
الوقت يمضغها، تختنق بأنفاسها، تتفتّت، تغرق في موجة هذيان، الموعد يقترب، وجه المفتي ما زال يلاحقها، تسرح بصرها بعيداً، ترتجف عضلات وجهها،
" آه، لو لم أرَ هذه الرسالة اللعينة "
الزوج يطالع حزنها، يصغي لصمتها، يؤلمه ذبولها، يحلّق في عوالم الأمس، كانت له زهرة فواحة بعطرها، رقيقة كنسمة الربيع، تطلق عنان الفرح، تجول في البيت مبتهجة مثل فراشة ملوّنة. خيط من نور يداهمه، ينسج رداء الشكّ، يدّس رائحة الأمل في أنفها، تقدح وجوه في عالم الذعر والقلق، عالم غريب يقف أمامه، يرى مدى قبحه، هنا تكمن الدهشة إنْ صدقت الرؤيا،
- لابدّ أن نحرر أنفسنا من هذا الوهم، ربما هو مقلب، أو حماقة مريض توهجت في لحظة انتقام.
- ماذا تقصد؟
تعتلي تلّة من الظنون، تفترش ملامح صديقاتها، قريباتها، تقلّب صفحات الأمس، كان الوضع مريباً، قد تكون الزوجة الصغيرة، أو ذات النقاب الأسود، وقد تكون...وقد يكون... تتسع الاحتمالات.
- لا عليكِ، سأوقد شمعة فرحك المؤجل.
تنتصف ليلتها، تجري بين متاهات الشك، تطلق سراح الخيال، كانت خائبة، حزينة، يستعصي عليها الوضوح؛ فيبقى الألم؛ لتغفو على انتظار الحضور لعيد ميلادها. قبل إطفاء شموع الفرح تتشكّل لوحة سريالية، مؤطّرة بألوان مبهرة، تتراقص على أطرافها أضواء المحبة، تختلط بأنغام الفرح، ملامح الصديقات والقريبات مزدانة بالبهجة والسرور، هدايا ثمينة، ابتسامات ترتسم فوق الشفاه، تهاني متبادلة، على يسار اللوحة ترقد علبة مزركشة، إلى جانبها وردة جوري، تفوح عطراً، وبطاقة تهنئة مدجّجة بحروف ينبثق الموت منها،
" عيد ميلاد سعيد، لا تنسي، لقد اخترناكِ لتكوني أحد السبايا لدينا، وشهيدة أيضاً،...... ننتظرك في بغداد "
المكان يزدحم بالدهشة والاستغراب، الرعب يهاجم عينيها، يفرّ الكلام من شفتيها، تنتفخ أوداجها، لم يكن في الحسبان ما يحدث,
" لا أحد يعرف ما بي، ربما أحداهن تدرك علّة ذعري من هول المفاجأة"
تتحصّن بأسوار الحكمة، تستعيد رباط جأشها، ترمي بمخاوفها، تتمتم مع نفسها،
" لابدّ من إتمام السهرة حتى أفهم وأستريح "
تطفئ صمت الحضور:
- إنّها مزحة، أما من زغاريد؟.
في تلك المتاهات الغامضة، وفي ظلّ أغاني باهتة، كانت محمولة على كتف نعش غريب ومخيف، لا وجهة لها غير السماء، كلّ شيء مثقوب، أمطار دامية، أقدام غريبة تسحق أقراطها، قلائدها، ينهكها الجري وسط ظلام متخثّر، عينا المفتي تستمرئ مذاق جسدها في ممالك يسكنها ظلام الخرافة؛ وبينما تتأمل مصيرها المجهول، تستوي على رنّة رسالة نصية صادرة من مركز شرطة المدينة، المسافة بينها والحرف غائمة، تحاصرها الظنون، تحتجب خلف دقات قلبها المتسارعة، تتسلّل عبر عينين لا يرمشان، تلتقط بعض الكلمات، الطرف يرتدّ مثقلاً بهاجس غريب،
" لقد تمّ التعرف على صاحب الرسالة، إنّـ ......... "
لم تكمل قراءتها. صور الحضور تتماوج، تغرب في عينيها، خشية أن تكون واحدة منهنّ/ منهم؛ فيُفسد الحفل. تمدّ ظلّها على الحضور كشجرة جميلة، تبتسم:
- الآن نطفئ الشموع.
-----------------------------------------------------------------------------
*وادي الأديرع : وادٍ فسيح تقع فيه مدينة حائل السعودية.
عبدالكريم الساعدي
العراق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق