علي البدر
عرض نقدي لقصة " غابة في الفضاء" للقاص عبد السادة جبار
تتحدث القصة عن حمامة رمادية اللون حبست في قفص صغير فترة طويلة، قرر صاحب الدار اطلاق سراحها " من أجل اعادة ترتيب المكان استجابة للظروف الجديدة." وهو دائما ما يقوم بأعادة ترتيب بيته " للتكيف مع كل طاريء." ولكن الطاريء الذي على وشك الحدوث مختلف تماما هذه المرة " فالتغييرات دراماتيكية ومصدرها أطراف كبرى غير متوقعة.." وكان اليوم الذي اطلقت فيه الحمامة عاصفاً، فالجو مشبع بالدخان وبرطوبة حامضية" ، بينما امتلأ الفضاء " بأنواع المفترسات والكواسر.." وكانت الأنفجارات تهز المنطقة.
وتقف الحمامة حائرة خائفة على أحد الأغصان بعد أن تخلصت من أسرها. أترجع لمن حبسها في قفص صغير شل حركتها سنين حيث منعها من شيء جبلت عليه وهو الطيران أم تهيم في فضاء فاقد للأمان؟ وكان خيار الحرية هو الأقوى خاصة عندما أسدل صاحبها ستائره وأطفأ الأنوار وسلاحه في يده خائفاً. وهنا التحقت بسرب حمام رمادي اللون أيضاً، لكنها لم تنسجم معه فلم يكن وجودها مرحباً به من بعض الحمام، اضافة لعدم انسجام السرب مع بعضه حتى عندما "اقترب سرب الكواسر"، لم يتمكنوا من أخذ قرار ينجيهم من الموت فقد عمت خلافاتهم وأدركت حمامتنا " ان عليها ألا تثق بهذا السرب.."
طبيعي أن يتهيأ الأنسان لظروف تكون أحيانا غامضة النتائج. وهكذا قام بأعادة ترتيب بيته، وهو أسلوب "اعتاد صاحبنا اجراء مثل هذه التغييرات ... لكن الأمر مختلف هذه المرة فقد " حاول فهم طريقة تفكير وأهداف القادمين الى البلاد. ويبدو أنه استنتج بأن "العرابين الجدد" تواقون لأشاعة الحرية خلال " تغييرات دراماتيكية توجهها أطراف كبرى." أجل الحرية ما أجملها.. أيعقل أن يمتليء صدري بهواء الحرية وأغفو مطمئنا هادءاً والى الأبد؟ لأطلق حمامتي " بعد حبس طويل في قفص صغير." فتلك القضبان رمز للظلم والقهر والعبودية ، وبلحظات فتح القفص وكان في عجلة من أمره حيث " أطلقها في يوم عاصف برغم معرفته بأن الفضاء يعج بأنواع المفترسات والكواسر.." فقد انتابه شعور داخلي بأن يطلقها رغم اعتزازه بها فالرغبة في انسجامه مع القادم من بعيد وتفاؤله يعوضانه وربما ينسى تلك الحمامة المسكينه.. وهكذا دفعته ميوله بالتغاضي عن خطر الكواسر التي تحوم في السماء في جو مشبع "بالدخان وبرطوبة حامضية قد ابتلع عطر الزهور الربيعية"
ورغم ابتهاج الحمامة لكنها استغربت أن يطلقها بهذا الجو فحطت على أحد الأغصان وكان "الرجل يلوح لها بذراعيه لتغادر المنزل" الا انها لم تستجب" وكيف تحلق بأجنحة هدها الأسر وفي سماء غير امنة واصوات الأنفجارات تشق حجب الصمت بين ان واخر؟ نظرت لصاحبها الذي احتفظ بها لسنين لكنه "عاد الى الداخل" وأسدل الستائر، ورغم ذلك فكرت بالرجوع ودخول القفص بعد سماعها دوي الأنفجارات ورشقات الرصاص، "الا أن عزة النفس وخوفها من فقدان فرصة الحرية حجبت عن تفكيرها اتخاذ مثل هذا القرار." رغم جناحها النازف والريشة التي سقطت من حمامة أخري " علق بها الدم."
وهنا يكون التحدي، فقد جبل الكائن الحي عليه وعلى الصراع من أجل البقاء. صراع في صراع هكذا الحياة اذن.. ذلك الكوكب الذي ينبغي أن يسوده الأمان بات غابة خطرة تحوم فيها وبسمائها الصقور بخراطيمهم السوداء والحمراء.. صقور بشرية تمطر موتاً ورعباً من أجل أن تكسر القضبان وتحرر الأنسان.. الحرية.. هكذا بدت ومن خلال تغييرات دراماتيكية مصدرها "أطراف كبرى" تحمل أجندات مدروسة.. أيعقل أن تتحول الحياة وكأنها وسط غابة لوحوش كاسرة" ولو قدر لدارون Charles Darwin العيش لأحرق كتابه أصل الأنواع The Origin of Species ولنادى بأعلى صوته: لقد حرقت الكنيسة كتبي لكنها ندمت فمشت خلف جنازتي .. وأنا الان أحرقها وأمام الملأ، فأنا خجلاً من البشرية التي أنا منها..
"لابد أن أواجه المصير الجديد"، قالت الحمامة. طريق مجهول محفوف بالمخاطر حيث "طفقت تنقر ثمرة قريبة وتسعى الى اخرى لتنشط وظائف الحياة في جسدها." لابد من المغامرة " وتشجعت الى غصن أعلى" لتهرب من بيوت تحولت الى خراب حيث فقد الأمان ولا مفر الا السماء وها هو سرب الحمام الرمادي اللون، حيث " اتخذت قراراً لا تراجع فيه. " صفقت ناحيته بقوة لتنطلق كالسهم محلقة نحو السرب لتلتحق بأطرافه..." لشعور باطمئنان " لم تعهده من قبل." وكان الجميع منشغلاً بمصيره ولم تسمع كلمة استفسار أو ترحيب منهم . ولكي لا تشعر بالغربة حشرت نفسها واستفسرت عن وجهة الرحيل فأجابتها دون اكتراث حمامة خائفة مرتبكة " الى مكان نألفه.. نأمنه.." ولكن لماذا التجهم يسود السرب؟" فأجابتها حمامة أخرى بسخرية " وهل هناك ما يدعو الى الرقص؟".
وبات الجميع تحت أمرة قائد واحد" وما على الجميع الا طاعته رغم المجهول الذي يأخذهم فيه فبدا الهمس بينهم " متى نفهم؟... ما الذي يجري؟.. في أي فضاء نحن؟.. أين يمضي بنا قائد السرب؟..." حشود عمياء لم تملك الا أن تطيعه واكتفوا بالهمس والتبرم خلفه، وهاهي الصقور التي ستمزقنا ولا ندري ما نعمل حيث تعالت أصوات من هنا وهناك..فدعت الى التحليق نحو الأسفل، ودعت أخرى الى أن يتفرقوا لتشتيت هجومهم" لكن حمامتنا قالت بلكنة خطابية " نضربهم بمجموع رؤوسنا ضربة واحدة.. نرعبهم.. فينهزمون." ولم تلق سوى السخرية. حيث أحرجت السرب عندما دعتهم للتضحية التي هي أغلى ما يمكن ، فجوبهت بسخرية حادة و" من أنت حتى تعلقي على ارائنا؟ كنت تتنقلين في الأقفاص متنعمة بفتات الموائد التي تلقى لك عبر القضبان... لقد رفضنا تلك القصور وأمضينا أعمارنا أحراراً.. أتريدين أن نتساوى؟ انها لأهانة قاسية حيث تفضيل من كان هارباً متنقلا في الفضاءات على من كان سجيناً خلف القضبان، يعاني الكبت والألم ومحاولة الغاء الذات، لكن موقف حمامتنا كان حادا وقاسياً " نعم.. كنت أمضغ الفتات..وأحلم من خلف القضبان ومع ذلك ها نحن كما ترين.. انت حمامة وأنا حمامة.. لافرق.." وهكذا استمر الجدال حتى عندما " اقترب سرب الكواسر..ولم يتخذ سرب الحمام قراراً بعد." وأي قرار يصدر من سرب بلا رأي أو حكمة تقوده" وهنا أدركت حمامتنا " أن عليها ألا تثق بهذا السرب.." أجل فقد انتصرت تلك الأرادة التي أمضت جل حياتها خلف القضبان وقررت أن تكون بعيدة لتنسجم على الأقل مع نفسها، ولكن يبقى الكائن بحاجة للأحساس بشعور الجماعة. حيث الأمان والاستقرار..
والطامعون.. وحوش كواسر.. ان اتفقوا فانهم سرعان ما يتقاتلون لنهش فريسة هدها التعب..وهكذا وحوشنا التي حطت بيننا، بدت متالفة لكنها الان تتقاتل ويشهر بعضها بالبعض الاخر. الفرق هو أن المظلوم يقلع نياب مستغليه ولم يكن فريسة للأبد . وأخيراً... لابد من الأشارة الى أن الكاتب عبد السادة خلف حاول رسم مشاهد توحي بأنها الحرب، وهو بكل براعة وذكاء ابتعد عن المباشرة وكشف المعلومة المجاني، باستعماله ومضات مضيئة flash points نجدها بين ان واخر. " فالتغيرات دراماتيكية مصدرها أطراف أخرى كبرى" وقد يكون الأجماع الدولي بقيادة أميريكا وحلفاؤها هو المقصود. وبرأيي أنه كان متوقعاً وغير خاف على أحد. وكانت الاستعارة في محلها عندما وصف حالة الحمامة و" الهواء المشبع بالدخان وبرطوبة حامضية.." كأشارة لحالة مابعد تفجير القذائف التي تتساقط من الجو " وأدركت أنها مثل سجين أطلق سراحه دون موعد سابق في ساحة حرب.." و "هز انفجار قريب أعقبته رشقات رصاص عشوائية..". وتتجلى نباهة الكاتب بأشارته في بداية القصة للحرب، لكنه مررها بانسيابية عندما ذكر " يوم عاصف" ، وقد " كان في عجلة من أمره فأطلقها في يوم عاصف.." وربما ولنقل من المؤكد أنهااشارة لعاصفة الصحراء. ان هذا الأسلوب القصصي المتمرس مثال رائع لصبر الكاتب، وبنفس الوقت تحفيز المتلقي لأن يدرك السيناريو ليعيش وسطه وكأنه جزء منه. ولم يبق الا السبب الذي جعل القاص بطلته رمادية اللون. ان هذا النوع من الحمام متواجد في أسطح الأبنية أو غيرها من الأماكن ولا يحبس في أقفاص لأنه سيغادر من حبسه حتى لو بقي معه سنين. ولقطع الشك باليقين، وجدت نفسي وسط سوق الغزل أبحث عن حمامة رمادية في الأقفاص فلم أجد ولما سألت أحدهم عن السبب رد بحماس: لتتورط استاذ، ولو يبدو عليك انت غشيم. هذا الحمام "جلد" أي صلب وعنيد لا يقبل الحبس والعيش خلف القضبان. وهنا انتفضت وشعرت بالزهو وهتفت: تسلم يا مبدع، فقال أنا؟ قلت لا.. ستعرفه فيما بعد.. وها أنا أقوله الان انه الكاتب القاص عبد السادة جبار. اجل بطلتك حمامة "جلدة" عنيدة، وكانت أيضاً ممثلة رائعة..
القاص المبدع عبد السادة جبار... تحياتي اليك ودمت متألقاً أبدا..
علي البدر
عرض نقدي لقصة " غابة في الفضاء" للقاص عبد السادة جبار
تتحدث القصة عن حمامة رمادية اللون حبست في قفص صغير فترة طويلة، قرر صاحب الدار اطلاق سراحها " من أجل اعادة ترتيب المكان استجابة للظروف الجديدة." وهو دائما ما يقوم بأعادة ترتيب بيته " للتكيف مع كل طاريء." ولكن الطاريء الذي على وشك الحدوث مختلف تماما هذه المرة " فالتغييرات دراماتيكية ومصدرها أطراف كبرى غير متوقعة.." وكان اليوم الذي اطلقت فيه الحمامة عاصفاً، فالجو مشبع بالدخان وبرطوبة حامضية" ، بينما امتلأ الفضاء " بأنواع المفترسات والكواسر.." وكانت الأنفجارات تهز المنطقة.
وتقف الحمامة حائرة خائفة على أحد الأغصان بعد أن تخلصت من أسرها. أترجع لمن حبسها في قفص صغير شل حركتها سنين حيث منعها من شيء جبلت عليه وهو الطيران أم تهيم في فضاء فاقد للأمان؟ وكان خيار الحرية هو الأقوى خاصة عندما أسدل صاحبها ستائره وأطفأ الأنوار وسلاحه في يده خائفاً. وهنا التحقت بسرب حمام رمادي اللون أيضاً، لكنها لم تنسجم معه فلم يكن وجودها مرحباً به من بعض الحمام، اضافة لعدم انسجام السرب مع بعضه حتى عندما "اقترب سرب الكواسر"، لم يتمكنوا من أخذ قرار ينجيهم من الموت فقد عمت خلافاتهم وأدركت حمامتنا " ان عليها ألا تثق بهذا السرب.."
طبيعي أن يتهيأ الأنسان لظروف تكون أحيانا غامضة النتائج. وهكذا قام بأعادة ترتيب بيته، وهو أسلوب "اعتاد صاحبنا اجراء مثل هذه التغييرات ... لكن الأمر مختلف هذه المرة فقد " حاول فهم طريقة تفكير وأهداف القادمين الى البلاد. ويبدو أنه استنتج بأن "العرابين الجدد" تواقون لأشاعة الحرية خلال " تغييرات دراماتيكية توجهها أطراف كبرى." أجل الحرية ما أجملها.. أيعقل أن يمتليء صدري بهواء الحرية وأغفو مطمئنا هادءاً والى الأبد؟ لأطلق حمامتي " بعد حبس طويل في قفص صغير." فتلك القضبان رمز للظلم والقهر والعبودية ، وبلحظات فتح القفص وكان في عجلة من أمره حيث " أطلقها في يوم عاصف برغم معرفته بأن الفضاء يعج بأنواع المفترسات والكواسر.." فقد انتابه شعور داخلي بأن يطلقها رغم اعتزازه بها فالرغبة في انسجامه مع القادم من بعيد وتفاؤله يعوضانه وربما ينسى تلك الحمامة المسكينه.. وهكذا دفعته ميوله بالتغاضي عن خطر الكواسر التي تحوم في السماء في جو مشبع "بالدخان وبرطوبة حامضية قد ابتلع عطر الزهور الربيعية"
ورغم ابتهاج الحمامة لكنها استغربت أن يطلقها بهذا الجو فحطت على أحد الأغصان وكان "الرجل يلوح لها بذراعيه لتغادر المنزل" الا انها لم تستجب" وكيف تحلق بأجنحة هدها الأسر وفي سماء غير امنة واصوات الأنفجارات تشق حجب الصمت بين ان واخر؟ نظرت لصاحبها الذي احتفظ بها لسنين لكنه "عاد الى الداخل" وأسدل الستائر، ورغم ذلك فكرت بالرجوع ودخول القفص بعد سماعها دوي الأنفجارات ورشقات الرصاص، "الا أن عزة النفس وخوفها من فقدان فرصة الحرية حجبت عن تفكيرها اتخاذ مثل هذا القرار." رغم جناحها النازف والريشة التي سقطت من حمامة أخري " علق بها الدم."
وهنا يكون التحدي، فقد جبل الكائن الحي عليه وعلى الصراع من أجل البقاء. صراع في صراع هكذا الحياة اذن.. ذلك الكوكب الذي ينبغي أن يسوده الأمان بات غابة خطرة تحوم فيها وبسمائها الصقور بخراطيمهم السوداء والحمراء.. صقور بشرية تمطر موتاً ورعباً من أجل أن تكسر القضبان وتحرر الأنسان.. الحرية.. هكذا بدت ومن خلال تغييرات دراماتيكية مصدرها "أطراف كبرى" تحمل أجندات مدروسة.. أيعقل أن تتحول الحياة وكأنها وسط غابة لوحوش كاسرة" ولو قدر لدارون Charles Darwin العيش لأحرق كتابه أصل الأنواع The Origin of Species ولنادى بأعلى صوته: لقد حرقت الكنيسة كتبي لكنها ندمت فمشت خلف جنازتي .. وأنا الان أحرقها وأمام الملأ، فأنا خجلاً من البشرية التي أنا منها..
"لابد أن أواجه المصير الجديد"، قالت الحمامة. طريق مجهول محفوف بالمخاطر حيث "طفقت تنقر ثمرة قريبة وتسعى الى اخرى لتنشط وظائف الحياة في جسدها." لابد من المغامرة " وتشجعت الى غصن أعلى" لتهرب من بيوت تحولت الى خراب حيث فقد الأمان ولا مفر الا السماء وها هو سرب الحمام الرمادي اللون، حيث " اتخذت قراراً لا تراجع فيه. " صفقت ناحيته بقوة لتنطلق كالسهم محلقة نحو السرب لتلتحق بأطرافه..." لشعور باطمئنان " لم تعهده من قبل." وكان الجميع منشغلاً بمصيره ولم تسمع كلمة استفسار أو ترحيب منهم . ولكي لا تشعر بالغربة حشرت نفسها واستفسرت عن وجهة الرحيل فأجابتها دون اكتراث حمامة خائفة مرتبكة " الى مكان نألفه.. نأمنه.." ولكن لماذا التجهم يسود السرب؟" فأجابتها حمامة أخرى بسخرية " وهل هناك ما يدعو الى الرقص؟".
وبات الجميع تحت أمرة قائد واحد" وما على الجميع الا طاعته رغم المجهول الذي يأخذهم فيه فبدا الهمس بينهم " متى نفهم؟... ما الذي يجري؟.. في أي فضاء نحن؟.. أين يمضي بنا قائد السرب؟..." حشود عمياء لم تملك الا أن تطيعه واكتفوا بالهمس والتبرم خلفه، وهاهي الصقور التي ستمزقنا ولا ندري ما نعمل حيث تعالت أصوات من هنا وهناك..فدعت الى التحليق نحو الأسفل، ودعت أخرى الى أن يتفرقوا لتشتيت هجومهم" لكن حمامتنا قالت بلكنة خطابية " نضربهم بمجموع رؤوسنا ضربة واحدة.. نرعبهم.. فينهزمون." ولم تلق سوى السخرية. حيث أحرجت السرب عندما دعتهم للتضحية التي هي أغلى ما يمكن ، فجوبهت بسخرية حادة و" من أنت حتى تعلقي على ارائنا؟ كنت تتنقلين في الأقفاص متنعمة بفتات الموائد التي تلقى لك عبر القضبان... لقد رفضنا تلك القصور وأمضينا أعمارنا أحراراً.. أتريدين أن نتساوى؟ انها لأهانة قاسية حيث تفضيل من كان هارباً متنقلا في الفضاءات على من كان سجيناً خلف القضبان، يعاني الكبت والألم ومحاولة الغاء الذات، لكن موقف حمامتنا كان حادا وقاسياً " نعم.. كنت أمضغ الفتات..وأحلم من خلف القضبان ومع ذلك ها نحن كما ترين.. انت حمامة وأنا حمامة.. لافرق.." وهكذا استمر الجدال حتى عندما " اقترب سرب الكواسر..ولم يتخذ سرب الحمام قراراً بعد." وأي قرار يصدر من سرب بلا رأي أو حكمة تقوده" وهنا أدركت حمامتنا " أن عليها ألا تثق بهذا السرب.." أجل فقد انتصرت تلك الأرادة التي أمضت جل حياتها خلف القضبان وقررت أن تكون بعيدة لتنسجم على الأقل مع نفسها، ولكن يبقى الكائن بحاجة للأحساس بشعور الجماعة. حيث الأمان والاستقرار..
والطامعون.. وحوش كواسر.. ان اتفقوا فانهم سرعان ما يتقاتلون لنهش فريسة هدها التعب..وهكذا وحوشنا التي حطت بيننا، بدت متالفة لكنها الان تتقاتل ويشهر بعضها بالبعض الاخر. الفرق هو أن المظلوم يقلع نياب مستغليه ولم يكن فريسة للأبد . وأخيراً... لابد من الأشارة الى أن الكاتب عبد السادة خلف حاول رسم مشاهد توحي بأنها الحرب، وهو بكل براعة وذكاء ابتعد عن المباشرة وكشف المعلومة المجاني، باستعماله ومضات مضيئة flash points نجدها بين ان واخر. " فالتغيرات دراماتيكية مصدرها أطراف أخرى كبرى" وقد يكون الأجماع الدولي بقيادة أميريكا وحلفاؤها هو المقصود. وبرأيي أنه كان متوقعاً وغير خاف على أحد. وكانت الاستعارة في محلها عندما وصف حالة الحمامة و" الهواء المشبع بالدخان وبرطوبة حامضية.." كأشارة لحالة مابعد تفجير القذائف التي تتساقط من الجو " وأدركت أنها مثل سجين أطلق سراحه دون موعد سابق في ساحة حرب.." و "هز انفجار قريب أعقبته رشقات رصاص عشوائية..". وتتجلى نباهة الكاتب بأشارته في بداية القصة للحرب، لكنه مررها بانسيابية عندما ذكر " يوم عاصف" ، وقد " كان في عجلة من أمره فأطلقها في يوم عاصف.." وربما ولنقل من المؤكد أنهااشارة لعاصفة الصحراء. ان هذا الأسلوب القصصي المتمرس مثال رائع لصبر الكاتب، وبنفس الوقت تحفيز المتلقي لأن يدرك السيناريو ليعيش وسطه وكأنه جزء منه. ولم يبق الا السبب الذي جعل القاص بطلته رمادية اللون. ان هذا النوع من الحمام متواجد في أسطح الأبنية أو غيرها من الأماكن ولا يحبس في أقفاص لأنه سيغادر من حبسه حتى لو بقي معه سنين. ولقطع الشك باليقين، وجدت نفسي وسط سوق الغزل أبحث عن حمامة رمادية في الأقفاص فلم أجد ولما سألت أحدهم عن السبب رد بحماس: لتتورط استاذ، ولو يبدو عليك انت غشيم. هذا الحمام "جلد" أي صلب وعنيد لا يقبل الحبس والعيش خلف القضبان. وهنا انتفضت وشعرت بالزهو وهتفت: تسلم يا مبدع، فقال أنا؟ قلت لا.. ستعرفه فيما بعد.. وها أنا أقوله الان انه الكاتب القاص عبد السادة جبار. اجل بطلتك حمامة "جلدة" عنيدة، وكانت أيضاً ممثلة رائعة..
القاص المبدع عبد السادة جبار... تحياتي اليك ودمت متألقاً أبدا..
علي البدر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق