الجمعة، 30 يونيو 2017

المقبرة قصة قصيرة بقلم فؤاد حسن محمد- جبلة -سوريا,,,,

المقبرة قصة قصيرة بقلم فؤاد حسن محمد- جبلة -سوريا
قصة قصيرة بقلم فؤاد حسن محمد
في هذا الصباح الباكر شعرت بالانقباض ،حين ارتفع صوت مرتل القران وتغلغل في نفسي وكأنه يوجه لي التهديد بالعذاب الأليم ،هذه الكلمات النورانية تتسلل في سراديب روحي لتملأها ظلمة لا تضاهيها سوى ظلمة القبر ،وقتها كنت ذاهب لعزاء صديق لي استشهد في قرى حمص ،كان قلبي ينزف قهرا ،فأنا مازلت أذكر الفرح المشع من عينيه الحلوتين ،كلاهما ذهب الآن كمال والفرح،قتلهما بكل قسوة كائن مقرف باسم الله ،فقط لأنهما فقراء .
جلست في خيمة العزاء ،كان يوجد بين شجر الصنوبر قرب الطريق كلب جعاري يلحس صحن ،صوت المرتل مازال يهدد الجميع ،انتبهت على صوت الجالس بقربي يتمتم بصوت مقزز :
البقاء لله وحده وكأنه يلهج بحمد ربه الذي أبقاه حيا.
-أليس ذلك ما يقوله الناس ،إن جثته بلا رأس
شعرت أني أيضا بلا رأس نوعا ما ،لأني أقلعت عن التفكير ،كما أشير إلى الآخرين ،المح لهم أنهم يستطيعون تسلق الأشجار لكنهم يفتقدون العقل ،ولكن من الذي ينتابه هذا الشعور ،ولو إن هذا يبدو غريبا إن أغلبهم لا يخاف حتى لو ثبت لهم ذلك،لذا لا يراجعون أنفسهم.
قلت له :
-إذا كان بلا رأس يلقنه ماذا سيقول لعزرائيل في القبر
شعر بالصدمة لدرجة ظنني اقصد الجد ،فقال لي أنه ليس متأكدا أنه ينتابه مثل هذا الشعور ،لأنه يظن أن الميت لا يفقد الإحساس إلا بعد دفنه ،وقال أنه لا يستطيع التفكير بعمق في هذا الموضوع ، كان سؤالي خبيثا ولكن لا أتوقع انه أدرك ذلك .قلت له من المستحيل إن ينسى أهله جثة بلا رأس ،وأضفت لو عاد برأس لكانت أمه وزوجته اقل هلعاً ،قال لي لكن أولئك الذين يموتون من اجل الله يبقون أحياء!!!!!!قالها بحزم لأنه لا يوجد ما يمكن تفسيره لماذا يموت الشخص من اجل الآخرين.و قال لي أيضا بدل من إن تقول مثل هذه الأشياء ادعوا خالقك أن يزيد من إيمانك ويقويه فهو الذي سيعطيك الجواب ، ثم ابتسم في إشارة لي انه انتصر .
على باب الخيمة يقف طفل ذا عينين براقتين دامعتين ،ماذا كان يريد أن يقول لنا هذا الطفل .هل أراد أن يمارس تعاسته وسط هذا القطيع .أم يريد منا مقابل لتضحية والده الذي لم تمنحه سوى الشعور بالضياع .
لكن العيون الجامدة لا تعرف ما هو الواجب ولا تعرف ما هي العاطفة ،رغم جميع الحزن الذي تراه بوضوح في عيني هذا الطفل .
كان العزاء مملا جدا بالنسبة لهذا الطفل ، فقد مر ساعة على هذا الحال ، وسرعان ما أخذ يلعب مع الكلب ،فقد كان الكلب صديقا قريبا لنفسه ،وما زال يذكر اللحظات الحلوة التي كان يقضيها مع والده ،لو كان موجودا لما شعر بالملل .
مسح بين أذني الكلب وعلى جسمه ،وفي البداية سأله :
-أين كمال ؟؟؟
رد بأنة خفيضة وكأنه يفهم السؤال " عوو..عوو"
ويفسر الطفل هذا الصوت بنفسه ،فيحزن ، ويقول :
- نعم ..مات
- أغمض عينيه وحضن الكلب ،وسقطت قطرة ندى على ظهره فظن إن الكلب يبكي ، ففرك شعر ظهره المحدب وهو يقول :
- ياه كم أنت ضعيف متى ستكبر ؟؟
ابعد عنه الكلب ونظر في عينيه ،وراح يدقق فيه النظر -أنت لست حيوان .. أنت كلب
كان حدسه صادقا ، فلمسه لمسة دافئة ، فارتاح قلب الكلب ، وذهب خيالهما في اتجاه آخر،وتذكرا كمال .وهو يقول لهما :
-العبا أنتما الاثنان
فيشعر الطفل بالفرح ،فيسحب الكلب إلى الفناء ويلاحقا الدجاجات التي تشعر بالفزع .وقف في مكانه وكان يلاحق الكلب ،وطارت دجاجة إلى سياج الفناء وبدأت تتهادى مغرورة غير أبهة بعواء الكلب ،ونظر المعزيين إلى المشهد وابتسم بعضهم .
فال احدهم :
-أتى موكب الشهيد
الموكب ليس بعيدا وكلما اقترب أكثر، الوطنيون الخائفون يطلقون النار بكثافة ،مع انه من لا يخاف الآن ،لأن الخوف من الموت شئ يحدث للكثير ،ولكن لا يرتقي إلى مرتبة الهلع ،فليس ثمة شئ يمكن إن يفعله الإنسان سوى إطلاق الرصاص ليخفي فزعه من العدم ، شعور باللذة في أنفس مطلقي الرصاص ،وكأن الموت ذو مذاق عجيب . ازداد إطلاق الرصاص وازداد ترقب الناس لمشاهدة الموكب
شعبنا يحب الفرجة ويعتبرها مشاركة الآخرين الام الأخرين لذا تحرك اغلبهم واصطف على جانبي الطريق،
أسرع الطفل وأخذ يعد واحد ..اثنان ثلاثة ،ثم قفز من فوق السياج وهو يتلفت حوله ،واقترب من الكلب وحضنه من رقبته.
-انتظر...سأجلب الكرة
كان يتقدم الموكب فرقة موسيقية تعزف لحن الشهيد، لحن حزين ومهيب وإيقاعه بطئ ، يحاكي بنغماته الوداع الابدي، دخل إلى البيت هو منزل متواضع ويبدو من خلال حجارته انه قديم ورثه أبوه عن جده ،جدرانه الخارجية من الحجر الأصم نبتت عليه بعض الطحالب الخضراء،في داخله أثاث بسيط مكون من حصيرة في الوسط وخوان ومساند وعلى الحائط علقت صورتين لشيخين قديسين لتحل البركة عليهم وتطرد الشر من الدار، وبعد عدة دقائق خرج وبيده الكرة .
ثبت الكرة في منتصف الفناء كما كان يفعل والده ، ركل الكرة فراحت تدور وتدور ولا تتحرك من مكانها ،ثم تهمد همود الأموات يعيد ركل الكرّة بقدم أقوى فيسمع نشيجها وهي تدور ، لكن لماذا لا تتحرك وهو يملك قدمين قويتين ،وبين ركل تائه ومحاولات عشوائية لتحريكها ،ظهرت كرة كبيرة بين الغيوم ،ركض إليه والده حين رآها،صعد إلى متنها وصرا له: أن اركب .
في لحظات الصعود ألقى الطفل نظرة عجلى إلى العزاء ،سقطت ثمرة خوخ منخورة واندفعت من قلبها ديدان ضخمة ،ليس هناك أي جسد بشري ، بل مجموعة ديدان مثيرة للاشمئزاز ، تقضم جميع أوراق الأشجار الكبيرة ،وتحيلها إلى أعواد مشانق ،بينما كان أسماء المعزين تتدلى على الأغصان المتفحمة .
انتهى النشيد وانزل النعش من السيارة محمولا على أكتاف شباب القرية وهم يرددون
- لا الله إلا الله والشهيد حبيب الله
كانت النساء تزغرد وهن يبكين0 يتلوه صوت حزين فيه شموخ وكبرياء:
- هذا عريس سورية لا أريد أحدا أن يبكي
وبعد عدة دقائق اخرج النعش من المنزل يتقدمه أهل الشهيد، صلوا عليه صلاة قصيرة ثم حملو ا النعش إلى المقبرة وقبل أن ينزلوه في القبر لوحت أمه يدها وهي تبكي مودعة ابنها
- الله معك يا كمال
إنا والله راضية عنك يا كمال لأنك مت لتحمي دينك وتحمي سورية
يا رب تقبل منا هذا القربان
وجعله آخر الشهداء
والحمد لله كانت الزوجة تصرخ والنساء تردد مولولة ،ينحنين إلى الأسفل ويبكين ،ويكدن يغصن في الأرض ،ويبدأن البكاء ،ولا أعرف لماذا يبكين ،بكوا طويلا ، والكلب ينبح بحزن ممطوط ،والطفل المسكين يبكي ، وصوت مرتل القران يعلو أحيانا على نباح الكلب فأسمعه مازال يهددني بعذاب مهين ،الكل يبكي إلا إن كل بكاء يختلف عن الآخر ،يبكون للتخلص من الآلام التي تعتصر قلوبهم ، وأنا لا أعرف أين أضع نفسي ، لكن البكاء قد أنهاني أنا أيضا .
فؤاد حسن محمد - جبلة -سوريا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق