الاثنين، 26 يونيو 2017

الراوي يعظ #قصة_قصيرة #رمضان_سلمي/ مصر ....

الراوي يعظ
#قصة_قصيرة
#رمضان_سلمي
-------------------------------------
لَمِّا يجافيك النوم في أول ليلة فراق لحبيبك، وتعاني الأرق في أقسى ليال الشتاء الباردة؛  ستنهض من فراشك؛ تبدو متوسط القامة، هزيل الجسم، شاحب الوجه، طويل الشعر؛ مرتدياً منامتك البيضاء. تلتقط معطفك الأسود من فوق المشجب؛ ترتديه؛ تذهب وتجلس إلى مكتبك مخضل الخدين؛ تقيد الأباجورة ذات النور الخافت، تخرج من خلف قضبان درجك؛ قلمك الحبيس وأوراقك المعتقلة بلا أي تهمة تذكر، وتستعد للإبحار في ذكرياتك الهوجاء..
 وقتئذ تلتقط من جانبك ورقة بيضاء نقية؛ تمسك بقلمك الذي التقط أنفاس حريتة للتو؛ ترسم عليها قلب، وترسم سهماً مسنون يخترق القلب عمودياً ثم تقتلعه ، وترسمه من جديد مخترقا القلب رأسياً؛ فتفاجأ لحظتها بدماء القلب تقطر؛ تغضب؛ ترسم بركة حتى لا تسيل الدماء على سطح المكتب. تفاجأ بامتلائها؛ ترسم بركة أخرى فتمتليء ، ترسم ثالثة فتمتليء؛ وأَنْتَ ملعثم التصرف لا تدري ماذا أَنْتَ فاعل!. تتوجسَ خيفة من داخلك؛ تسرع وتمسك بالورقة الدامية لتواريها بين رفاة أوراقك الذابلة؛ داخل أدراجك ورفوفك التليدة. تنهض وتستقبل رفوف مكتبتك الكبيرة المنمقة، ومازلت ممسكاً الورقة بكلتا يديك، وما يزال القلب يقطر من دمائه، حتى أن يديك تلطخت وصارت حمراء اللون؛ وقتئذ أصيح بك منفعلا جراء حنقي عليك سائلا إياك :
- ماذا ستفعل الآن؟.
 تسمع سؤالي؛ تشعر لوهلة أنني راوٍ ظالم؛ قد حكمت عليك أن تكن شخصية بائسة في تلك القصة الغريبة، تصرخ بي حانقاً:
- أَنْتَ الراوي! وأَنْتَ تعرف جيداً ماذا سأفعل ، لأنك أَنْتَ مَنْ تكتب لي دوري!.
- لكنك لست فأر تجارب، حاول استغلال عقلك ؟.
 تشيح بوجهك لا مبالياً؛ تعد لتكمل أحداث قصتك الشيقة بمجرد عودتي للسرد. حينئذ؛ تتململ في وقفتك؛ تركض يمنة متفحصاً اللافتات المعدنية التى عُلِقَت أعلى الرفوف العميقة، ومن ثم تعد أدراجك يسرة متفحصاً ذات اللافتات؛ لن تستطع قراءة الكلمات المنقوشة عليها لضعف الإضاءة. حينئذ؛ تعد مسرعا إلى المكتب؛ تضع الورقة على سطحه؛ تفتح الدرج؛ تبحث عن شمعة وقداحة. تشعل الشمعة وتمسكها بشمالك ، تلتفت إلى الورقة حيث القلب الجريح؛ تجده قد قطر بعض دمائه على سطح المكتب؛ تحمل الورقة فوق راحة يمناك؛ تشعر بأنها جد ثقيلة؛ تعد ثانية إلى استقبال رفوف مكتبتك إياها؛ ترفع الشمعة بالقرب من وجهك، تجول بعيناك لتقرأ ماكتب باللافتات الصغيرة على ضوء الشمعة. يزداد نزيف القلب فتصير بركة دماء منغرسة بها أقدامك، وهى في امتلاء مستمر. حينئذ؛ تشعر بالخطر؛ تيقن بأنك غارق لا محالة في غرفة الدماء هذه! تصرخ:
- كيَّفَ النجاة ؟.
 وفجأة؛ تلمح كلمة "مساعدة" المنقوشة على لافتة علقت على رف من الرفوف؛ وأَنْتَ في أمس الحاجة إلى المساعدة، أقول لك:
- ادخل يدك بهدوء؟ تحسس ما بداخله جيداً ولا تقلق فلا يوجد به عقرب يلسعك؟.
- يداي مشغولتان !.
تقول لي ذلك؛ أجيبك على مضض:
- صه؟ ضع الورقة بين فكيك؛ وادخل يدك اليمنى ؟.
 دائماً أشعر بأنك لا تجيد التصرف في مثل تلك الأمور. ولما تفعل أَنْتَ ما نصحتك به؛ تتعثر أناملك داخل الرف وتصطدم بمفتاح نحاسي ضخم؛ تخرجه، تتفحصه في مجال الضوء متعجباً من ضخامته؛ يشبه مفاتيح بوابات المدن القديمة الضخمة! تتساءل في نفسك: أين ثقب ذلك المفتاح ؟ أين مخدعه ؟ بينما تسيل الدماء بغزارة من بين فكيك-حيث القلب الجريح على الورقة-إلى أسفل ، حتى قاربت على غمر ركبتيك، وإن لم تجد ثقب ذلك المفتاح فسوف تغرق في بركة الدماء، ولن تجد منقذاً!. تحاول تثبيت الشمعة على سطح المكتب وتمسك الورقة بيمينك؛ ترتفع الدماء فتصل إلى خصرك؛ تنطفئ الشمعة وتغمرها الدماء، تصرخ:
 - أيها الراوي الأحمق وضعتني في بركة دماء لأغرق ، وأعطيتني مفتاح نحاسي ولا توجد له أي بوابة هنا !.
أضحك أنا ولا أجيبك؛ تجن أَنْتَ وتصرخ:
 - لا أريد إجابتك أيها الراوي ، ولإن رأيتك أمامي الآن فسأضع ذلك المفتاح بمؤ.... أقاطعك بكل هدوء :
- من الغير لائق أن نتبادل البذاءات فأنا المؤلف وأَنْتَ بطل قصتي، أليس كذلك؟.
توافقني، تقول:
- حسناً؛ اتفقنا... لكن أين مخدع هذا المفتاح؟.
 حينئذ تصل الدماء لرقبتك؛ ترفع كلتا يديك وما بهما إلى أعلى، وسط الظلام؛ تفكر في أن تبحث عن أي نافذة لتتخلص من الورقة ومن القلب الجريح؛ تجد كوة صغيرة مغلقة بأعلى الحائط؛ تمرر نصف الورقة من فرجة العقب خارجاً؛ ينقبض قلبك على الورقة، ويبدأ بالخفقان، وتتأكد حينئذ بأن القلب الجريح على الورقة هو قلبك أَنْتَ! فتسحب الورقة مرة أخرى، تصرخ :
- قلبي ينزف؛ لقد ضقتُ ذرعاً منك!.
ثم تبكي، تنتحب، بينما الدماء قد وصلت حتى ذقنك. أَتَدَخَلُ أنا وأقول لك معاتبا إياك :
- ألتوك اكتشفت أن ذاك القلب الجريح الذي ستغرقك دماءه النازفة بعد قليل هو قلبك؟. تجيبني غاضبا:
- لا تعليق... أين المفر ؟.
أقول لك :
- ابحث بداخلك لربما تجد الباب أو المفر؟..
 فتهدأ أَنْتَ؛ تلتقطُ أنفاسك؛ تحاول أن تصغي لقلبك الجريح ، تحاول استعادة توازنك وتركيزك. فجأة؛ يجتاح عقلك ذلك النور الذي يبدد ظلمته، وينقشع النور لتجد نفسك واقفاً جاف الثياب وسط تلال من الجليد، تناثرت بينها بعض الشجيرات الخاوية على عروشها، والتي تساقطت معظم أوراقها وما تبقت منها إلا بعض الوريقات الذابلة العالقة بفروعها على أمل عودة الربيع يوما ما. هناك ستشعر ببرودة العواصف الثلجية التي تترنح هنا وهناك. ترتدي معطفك السميك، وتلتحف شالك الصوفي؛ وبيدك اليمنى الورقة؛ تقطر دما فوق الجليد. في قلب العاصفة الثلجية؛ تتطاير خصلات شعرك الناعم؛ تعلق بملابسك ندف الجليد المتطايرة فتكاد تغير لون معطفك الأسود إلى أبيض. فجأة؛ تصرخ:
 - أنا الذي تطيِّرت بك! أرجوك لما أحضرتني إلى هذا الصقيع أيها الراوي العاجز عن إيجاد حبكة لتلك القصة الاعتباطية المقفرة؟.
 أضحك أنا ولا أجيبك، وتعد أَنْتَ للأحداث رغما عنك، حالما أعد للسرد. فجأة؛ تلمح سقوط طائرة ركاب بالقرب منك؛ تجري صوبها؛ تجد مقدمة الطائرة قد حشرت بتلال من جليد ، وباقي الطائرة مكشوف. تجد بعض الحرائق بهيكلها الخارجي، وبعض الصدمات والتصدعات البسيطة؛ تحاول البحث عن ناجين فلا تجد! تحاول البحث عن قتلى أو مصابين فلا تجد! تصرخ حانقا:
- ماذا يحدث؟ ما هذا الهراء؟.
 لحظات وتَخْمَد حرائق الطائرة بفعل العواصف الثلجية؛ تدر أَنْتَ حول الطائرة متفحصاً إياها؛ عند اقترابك من الباب تجده ينفك ويسقط أمامك؛ تجفل من هول المباغتة؛ يسود الهدوء إلا من هزيز الريح، وحفيف الشجيرات المتناثرة بين تلال الجليد. وقتئذ؛ تحاول أَنْتَ دخول الطائرة؛ تنجح في الدخول؛ هنالك تشخص عيناك لما تدخل إلى دهاليزها؛ من الداخل هي أي شئ آخر عدا أنها جوف طائرة ركاب سقطت للتو؛ تجدها سليمة، بلا مقاعد، وأمامك ستارة بيضاء كبيرة بعرض الطائرة، وفجأة؛ يعود الباب موصداً كما كان؛ ترتعد فرائصك، تجري صوب الباب؛ تتفحصه ، تتحسسه، تزفر ضيقا، تقول:
- ليس هناك ثمة أمل فهو محكم الغلق!.‎
 تبتعد عنه؛ تقترب من ذلك الستار الذي يفصلك عن باقي جوف الطائرة تجاه المؤخرة؛ تجد حبل متدلي من أعلى؛ تسحب بيدك اليسرى ثم تسحب حتى ينفرج الستار ويظهر ما خلفه؛ تقف شاخصا عيناك إلى ما عثرت عليه؛ تسرع بالبحث في جيوب معطفك، تصرخ:
- سيدي الراوي؛ أريد العودة إلى المشهد الأول، أريد العودة إلى بركة الدماء فقد نسيت شيئا مهما؟.
 فجأة؛ تجد نفسك قد عدت إلى بركة الدماء بناء على طلبك، وقد قاربت الدماء على الوصول لفمك؛ ترفع يدك اليمنى الممسكة بقلبك فوق الورقة؛ تتحسس عنه بيدك الأخرى وبقدميك حتى تجده فوق المكتب؛ تضعه بجيبك؛ تطلب مني العودة إلى المشهد الثاني، فجأة؛ يجتاح عقلك ذلك النور الذي يبدد ظلمته، وينقشع النور لتجد نفسك أمام البوابة الحديدية الكبيرة، التي ظهرت من خلف الستار. حينئذ؛ تركض صوبها، تتحسسها بفرحة، ثم تقبلها عدة قبلات متراصة، ثم تُخْرِجُ المفتاح النحاسي من جيبك، وتضعه بعد تقبيله بالثقب؛ تحركه عكس عقارب الساعة؛ ينجح الأمر وتنفتح البوابة. وقتئذ؛ يظهر الظلام الحالك، تدخل حاملا قلبك بيدك؛ ينغلق من خلفك الباب والمفتاح بثقبه فتفزع..
 فجأة؛ تَتَناوَبُ على أذنك زقزقة وعندلة وشدو؛ ترفع بصرك؛ تنبهر عينيك من النور الساطع من حولك؛ تجد نفسك واقفاً وبيدك اليمنى قلبك المجروح فوق الورقة، وأمامك طريق ممهد واسع طويل منثور بالورود الملونة، وبنهايته مصب واسع لشلال مياه منهمرة من السماء لايبين مصدرها؛ يتردد صدى خريرها بين الأشجار. وعلى جانبي الطريق؛ أشجار خضراء رفيفة؛ جذورها بالأرض، وأفنانها بالسماء، حينئذ تتمتم مشدوها:
- الجنة!.
 يقترب من خلفك حفيف أجنحة؛ تستدر؛ إذ بأفواج من فراشات حمراء وصفراء وخضراء محلقة من حولك؛ تبتسم. وتنطلق من بين الأشجار أسراب الطيور الملونة، تغرد بأنشودات يتردد صداها بالجنة محلقة صوب مصب الشلال. تستفيق؛ تنظر لنفسك؛ تجد جسمك محاط بهالة من نور، وبالهالة فراشات مضيئة تتحلقك؛ تنبهر وتقف مشدواً على أول درجات سلم الجنة. فجأة؛ تسمع شداء حورية من حوريات الجنة؛ نغمة تشخص لها سائر مخلوقات الجنة؛ صوت أنثوي رقيق، حتى أَنْتَ يدق قلبك له ويرق!.
- ما أعذبه صوت!.
 تهمهم بها مبتسما؛ تشعر بأنها اقتربت منك، ربما كانت خلف الأشجار القريبة؛ فتنطلق أَنْتَ باحثا عنها وكلك شغف لترى الحورية الجميلة. وقتئذ؛ لربما تخيلت نفسك بين أحضانها أو في خيمتها، أو أنها تغني لك وأَنْتَ متكئ على شاطيء المصب، أو أنكما تسبحان به معا!.
- ولم لا سيدي الراوي ! إنها حورية !.
تقولها لي، أقول لك:
- وهل هذا مبرر أيها الجريح تواً؟.
- أريد أن أراها أرجوك ضع لها دوراً بتلك القصة الجميلة؟!.
- آلآن قصة جميلة؟ أما كانت بلا حبكة منذ قليل؟.
 تطأطئ رأسك خجلا؛ حينئذ يبتعد صوت الحورية الصادح بالجنة. وفجأة؛ تجد نفسك جالس إلى مكتبك؛ مبتسما؛ أمامك ورقة بيضاء؛ مرسوم عليها حورية جميلة بأجنحة ملونة، محلقة بين الزهور والأشجار، ولا يوجد أثر للدماء بالغرفة، ولا أثر للقلب المجروح..
حينئذ؛ أقول لك:
- ارسم قلب؟. 
عندئذ؛ تقلب الورقة؛ ترسم قلب، أقول لك:
- ارسم سهم؟.
عندئذ؛ تنتفض واقفاً، تعتقل قلمك بدرجه، وتتحرك صوب باب الغرفة، تقول حانقاً:
- تصبحُ على خير؟..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق