الأربعاء، 9 سبتمبر 2015

قرابين البحر/ نص الكاتب / عبد الكريم الساعدي / العراق ...




ما بين شاطئ وآخر مسافة حلم، الحلم - كما يراه- يرقد هناك، خلف المدى، وهج حياة باذخة الجمال، حدائق غنّاء، غابات فرح، وعناقيد مسرات، هنا تجثم فوق الثرى توابيت حجرية، تقطر شغفاً لمن تقاذفتهم أمواج العتمة وظلال الحروب العديدة، كلّ شيء هنا يتغوّط دخاناً وحرائق، يتنفس قلقاً وتيهاً، الهنا صحراء تمتدّ من حبلك السري حتى تلك التوابيت الحجرية. يوصد باب الأمس خلفه، يحمله طائر النورس إلى شاطئ البحر، يجلس في خشوع كراهب حزين في معبده، تدغدغ ناظريه ألوان المساء، البحر مهيب، مخمور بالزبد، أمواجه العاتية تعانق السفن في رحلة عشق، السفن تعتلي ظهر الموج، تهبط مثل شهاب ساقط، بدن السفينة يتماوج في رقصة فزع، يطفو فوق الموج ثانية، يغمض عينيه رهبة، يحلّق بعيداً، يهبط هناك مع رذاذ الموج، يتأهب للحبّ، " سأدحر الأمس بغدٍ أفضل". يبزغ طريق مكسو بالزهور، غابة تفصله عن بوابة المدينة الرئيسة، فتيات جميلات يحملن سلال الورد، يرقصن في سهل غارق بالعسل والرخام، يركضن في الغابة، يلوّحن له بباقات الورد، تتشرّب أنفاسه بعطر ابتسامتهنّ، يحتسي ظلّهنّ، ينفتح له ضياء الحلم، يمرّ بأزهار الكولونوز في مكان مرتفع حيث مأوى أوديب، عيناه تعانقان مواقع أثرية، تماثيل لآلهة الحب والجمال، تستوقفه أفروديت، يخفق قلبه لجمالها الخارق، تشيح ثوبها عن جسدها في ظلّ دوي الصنج وأنين الناي، يدور حولها راقصاً، تلتمع ساقاها، يشهق بضحكتها، يغفو عند قدميها، يصحو على وقع خطوات سقراط في رحلته البهية حيث العالم الآخر، من الملعب الرياضي إلى الأكاديمية، إلى الجبل الشامخ. رؤية تستفزّه، يغرق في دهشة غريبة، تماثيل راقدة في متحف الفاتيكان، تماثيل روداين، تصور له مشهد موت لاوكون المفزع، يحاول إنقاذ ولديه بينما ثلاثتهم في قبضة اثنين من الأفاعي عقاباً له من أثينا؛ لإنذاره الطرواديين بأن لا يخدعوا بالحصان الخشبي الإغريقي. المشهد يقلقه، يصرع غفوته، يستفيق من دوار البحر، يفزّ مرعوباً على صراخ يتعثّر بعضه ببعض، طوفان المدّ يحيط بالقارب، يتسلّق سطحه، الأبصار شاخصة إلى السماء، الموج يعلو في الفضاء، يتّخذ شكل الأفاعي، يهبط، تقع زوجته وولديه في قبضة اثنين منهما، يرتجف صارخاً مندهشاً:
- أثينا، أنا لست لاوكون، أنا لاجئ إليك...
البحر يمور، يضطرب، القارب يتماوج، يسلّم نفسه لريح هوجاء، تبتلعه زوبعة، الموت يتدلّى من تحت خوافي القيامة، الهاربون من جادة الجحيم يتدحرجون من جهة إلى أخرى، يخيّل إليه أنّ القارب أرجوحة، تقذف الحالمين في عرض البحر. ابنه الصغير ينفلت من يده، يغطّيه الموج، يقع في نوبة هلع، يجلد ذاته، يصرخ، يستنجد بالآخرين دون جدوى. موجة كبيرة تضرب القارب، ينقلب، كلّ شيء يتبعثر، يغرق، يلتفت هنا وهناك، يتأمل الفضاء، الجهات تغيّر ملامحها، يتنفس أنين الغرقى، يتهجّى صوت زوجته الهابّ من شاطئ الأمس:
- أ للبحر قربان إذا ما عبرنا؟
- نعم حبيبتي، ما تبقّى من أحلامنا، ذلك هو القربان.
يعود إلى الشاطئ الداكن مخذولاً، مبتلّاً بالهوس، يملأ كأس الحزن نحيباً، يترنّح ثملاً، يتقيأ حلماً مغلولاً باللوعة، يرتدي سواد الليل عند ثلاثة شواهد غازلت غربة المنافي ذات يوم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق