الاثنين، 31 أغسطس 2015

سروال داخلي/ قصة الكاتب / عبد الكريد الساعدي / العراق ....




الوقت عصراً، أقتفي خطوات الأمس فرحاً، أتبع أثري، أتوق إلى ملامح تهلّل باللقاء اشتياقاً، اجتاز محطات، ترجلتْ عندها أسماء وطقوس، ألملم ذاكراتي،
" كم مرّة التقينا في ذات المكان؟ "
أنا أقف تحت الجانب الأيسر لنصب الحرية، بموازاة الثور الهائج مثل كلّ مرّة, سيأتون على الموعد سوى سعدي، سيتأخر قليلاً، كنّا خمسة جنود، نلتقي في إجازتنا الدورية، ننفث رعب الخنادق، ننسى الحرب ونمضي، لم نفكر بالموت، محنّطين بآمال مؤجّلة، بنا شغف للمقاهي، ورائحة النهر، نعشق الليل وأغانيه، نسكب كلماتنا شعراً في ثنايا كأس صافية، ننثر ما تبقّى من أحلامٍ قصصَ غرام، لم يكن بوسعنا غير أن نحيا. بعد سنوات سنلتقي في ذات المكان، الساعة التي أدمنت التوقف عند منتصف الخراب تبتلّ بهتاف المارة، الأزقّة التي كانت تعانق خطانا مهجورة، مظلمة، تحتسي عزلتها، شناشيل منازلها ترتجّ، يتّكئ بعضها فوق بعض، تنعق فيها الغربان، أعبر سيطرات الجند، والأسلاك الشائكة، وبصعوبة بالغة وسط موجات من البشر استطعت الاقتراب من ساحة الطيران، أقف أمام جدارية الثورة، جدارية ( فائق حسن) كصوفي يلفّه الغياب، ألوان جذّابة، مبهجة ومتناسقة بتفرد، متناغمة بشكل فني مموسق، عيناي تتسلقان شرفة طيفه النابضة بإطلالة الغبش، أتيه وسط آلاف قطع السيراميك الصغيرة الملوّنة، أرمق هتاف ولافتات المتظاهرين، أبتسم، يزوغ البصر، المتظاهرون يدخلون الجدارية، يحملون على أكفّهم حمامات بيض، امرأة شابة تلج وسط الجدارية، ترفع يديها، تطيّر حمامات فائق الناصعة البياض نحو فضاء رحب، أفرك عيني، أفتحهما، أحدّق في المارة، في الجدارية، توحّد تشكيلي عجيب، نساء ترتدي ثياباً ملوّنة، عامل، مزارع، حتى الجندي الذي فتّش حقائبنا قبل قليل، يدخل مع الداخلين في رقصةٍ جماليةٍ مبهرة، ثمة طفل أسفل اللوحة ينظر صوب الجهة الأخرى، وعلى مقربة منه قفص مفتوح، لا حمام فيه، يشير إلى الجانب الآخر من حديقة الأمّة، الذي حدّه جواد سليم بنصبه السامق،
" هناك الملتقى، حيث نصب الحرية..."
يخرج المتظاهرون من الجدارية واحداً تلو الآخر، أسير خلفهم لاهثاً، ألحق بهم، أدخل حديقة الأمّة، كانت من قبل مملوءة بالكوابيس والخوف، أخشى أن ألتفت إليها، أبناؤها ينامون ليلاً على طرف الخدر، شحاذون، سكارى، مدمنون، مشردون...، ينشدون نافلة العبث والضياع، يلتحفون ظلّ تمثال ( الأمومة ) لخالد الرحال، أمّ تطلّ عليهم من نافذة الوجع، تمدّ أهداب الحنين، تحوكها أرجوحة، تهزهزهم على نغم موّال قديم حتّى يناموا، بعد منتصف الليل لن ترى غير أجساد ميتة في أكمة عشب ذابل. موجة من المتظاهرين تدفعني إلى الأمام، ألتفت إلى التمثال، لم أجده في مكانه. الهتاف يجوب الجهات، يستعرّ أمام أيقونة الحرية، أيدي الرفاق تلوّح لي عن بعد، ثمة عصا تجذف في الفراغ، إنّها عصا سعدي، غصن من شجرة البلوط، لا زال يحتفظ به، لقد أجاد الحضور مبكراً هذه المرّة، أصعد السلالم مشبعاً بالشوق، يهرعون إليّ، يحلّقون حولي، نتصافح، نتعانق،
- لقد تأخرتَ.
- الزحام شديد. وأنت يا سعدي، يبدو أنّك حضرت مبكراُ.
- نعم، الأمر مختلف.
- وأين العكاز؟
- لا أحتاجه اليوم، هذه عصاي، أتوكأ عليها، وأضرب بها أنف الناقة.
ضحكنا فرحين في ظلّ أحلام مؤجلة، أحلام طال انتظارها. كنّا خارجون من صلب الجراح، لكنّا مفعمون بالآمال والحبور، نشاكس العتمة؛ لنمنح أطفالنا بسمة، نصنع لهم لعباً من نرجس وياسمين، لتزهر الأزقة مواويل فرح، نعلّق على حيطانها مصابيح الفصول. وفي غفلة منّا نُصبت خيمة عند عنق الجسر، يبدو أنّ الجسر أتّخذ ملامح المنطقة المحايدة، الخيمة تتربص بنا، ترتدي قناع التحاور، تريد أن تختم على فوهة الغضب:
- ماذا يريدون؟
- أنْ نتفاوض.
- علامَ ...؟
- لا أدري، أراك قلقاً؟
- لا أخفيك سرّاً، هاجس أصابني، أنّنا سنلتقط سيلفي تحت نصب الحرية ونرحل. في المسافة ما بين النصب والخيمة وحده سعدي كان غارقاً في موجة دهشة، يرنو إلى المفاوض بقلق بالغ، يقطب حاجبيه، عيناه تتسعان، يزمّ شفتيه، يهزّ عصاه، يجلد طرفه الصناعي أكثر من مرّة، وكأنه يتوسل اللحظة أن تجود بالذكرى، يحلّق بعيداً عنّا، يرتعد:
- ما بك؟
- أخشى أن يكون ابن العاص.
- أفصح.
- انظروا جيداً إلى باب الخيمة، ذلك المفاوض الرابض خلف المنضدة، إنّه هو، الضابط السيئ السمعة.
كان الوقت شتاء، يلفّ المكان ضباب ودخان كثيف، الجهات تحاصرنا، أزيز الرصاص وقنابر الهاون لم تتح لنا أن نرفع رؤوسنا، توسدنا تراب الخندق الملتوي كما الأفعى، الممتدّ من رأس الجبل حتى الوادي، سعدي يئن من أثر جرح بالغ أسفل ركبته، ينزف دمه، يتوجع، يصرخ، يهذي، يغيب عن الوعي، كانت الفرصة مناسبة لأن ننسحب ونسعفه، الضابط السيئ السمعة يأبى أن نخلي صاحبنا إلى الوادي. العدو يقترب، صرنا في مرمى البصر، الأبواب موصدة، لا شيء غير الموت يجوس المدى، يمخر عباب الرعب؛ فيرسم لنا قبوراً بلا شاهد، كنّا نستعد لنوقد السفح بما تبقّى من رصاصات، بيد أنّ الضابط وقع تحت نوبة ارتجاف، لملم أطراف مخالبه، نهشنا بنظرة توسّل، ألّا نطلق رصاصة واحدة:
- لا أريد أن أموت.
عيناه تجوبان المكان، تمسّان بياض الثلج، يفتّش عن شيء ما، يحدّق بنا منكسراً، مرعوباً، يرتبك، ينزع بنطاله، يخلع سرواله الداخلي على عجل، كان السروال أبيض، ملوثاً ببقع صفراء، يخرج من الشقّ ملوحاً بعورته...
ما بين النصب والخيمة يتّكئ صاحبنا على ظلّ الجرح، يقف أمام المتظاهرين، يلّوح بغصن البلوط، يتقدم الصفوف، ننشد أغنيتنا القديمة،
" نحن لا نجيد الغرق، نحن نجيد شيئاً واحداً فقط، ندور في مدار الحبّ دونما خوف، دونما طوق، ستزهر الجراح ندى ويستفيق الورد "
الضابط يمعن النظر، يحدّق في رجل مرقال يتقدم الحشود، متعكّزاً على عصاه، يلتفت إلى مرافقيه، يبتسم هازئاً:
- أنا سعيد بمقابلتكم، ماذا تريدون؟
- كش ملك.
يتشاغل بالنظر إلى أوراق أمامه، وكأنّه لم يسمع شيئاً، يعاود التحدّيق في الرجل المرقال بحدّة:
- خذْ هذه الورقة، دوّن ما تريدون.
- يبدو أنّ ملامحي لا تذكّرك بشيء ما.
- لا أفهم، من أنتم؟ وماذا تريدون؟
كان صاحبنا قدّ أعدّ الأمر قبل أن يتقدّم الصفوف، حاضراً للحظة، كشف عن ساقه، كان طرفاً صناعياً، مدّ يده في جيبه، أخرج سرواله الأبيض، قذفه في وجهه:
- خذهُ، لعلك تفهم ما أريد.
المفاوض يمسك رأسه، يطيل النظر إلى السروال، يرفع النظر ثانية، يرتدّ مذعوراً، يندهش، تلفّه الحيرة، ينكمش، يتصاغر، يخرج الصوت خجلاً، متقطّعاً:
- ألم تمت؟!
- خذْ رايتك وارحل.
الجسر ينكشف، يبتلع المفاوضَ وسرواله الداخلي، بينما عيون المتظاهرين ترنو إلى الضفة الأخرى، تنشد أحلاماً، يبدو أنّها في متناول اليد.
عيدالكريم الساعدي
العراق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق